تُنسَب الديموقراطية في الغرب إلى الإغريق، وإنْ كانت في بلادنا - من فينيقياها إلى ما بين نهرَيْها - دلائل على أنّنا ربّما سَبقنا أهل أثينا إلى حُكم الجماعة بمئات السنين. لكن كلمة ديموقراطية يونانية الأصل. ويمارِس شعب اليونان حقّه الأصيل في صناديق الاقتراع يوم الأحد المقبل لانتخاب برلمان جديد، يرجَّح أن يشبه إلى حدّ كبير ذلك المنتهية ولايته، باستثناء بعض التغييريين الذين لن يكون لهم أيّ ثقلٍ تشريعي، لكنهم قد يمتهنون ثقل الدم، إذ إن أَوجُه الشبه بين بلدَيْنا كثيرة. يتصدّر حزب «الديموقراطية الجديدة» اليميني، الذي يتزعّمه رئيس الحكومة الحالية، كيرياكوس ميتسوتاكيس (وهو ابن رئيس حكومة سابق)، معظم استطلاعات الرأي، وإنْ كان بهامش أقلّ من الفوز المحقَّق في الانتخابات الأخيرة عام 2019، أمام حزب «سيريزا» اليساري الذي يتزعّمه رئيس الحكومة السابق، ألكسيس تسيبراس، الذي كان في الحُكم يوم فاوضت اليونان دائنيها («صندوق النقد الدولي» و«البنك المركزي الأوروبي»، وغيرهما) على برنامج إنقاذ اقتصادي، عندما تعثّرت في دفع ديونها. يُذكر أن تسيبراس وحكومته لجآ، في حينه، إلى استفتاء شعبي حول قبول شروط برنامج الإنقاذ، صوّت الشعب ضدّه؛ لكنّ للديموقراطية حدوداً حتى في مسقط رأسها، إذ «باع» رأس الحُكم شعبه، مقرّراً الخضوع لإملاءات الدائنين وسياستهم التقشفية و«إصلاحاتهم». أدّى انقلاب تسيبراس على نتائج الاستفتاء الشعبي إلى تصدّع اليسار الذي كان صاعداً في اليونان، فانشقّ وزير ماليته، يانيس فاروفاكيس، وأسّس لاحقاً «حركة الديموقراطية في أوروبا 25» للمّ شمل اليساريين واليساريات في القارة و«إنقاذ الديموقراطية في أوروبا قبل فوات الأوان». تشير استطلاعات الرأي إلى أن الجبهة اليونانية لحركة فاروفاكيس (الجبهة الأوروبية للعصيان الواقعي)، ستنقذ نحو 4% من الديموقراطية في البلاد في هذه الانتخابات.
خطة «يعطيك العافية»
مرّت ثماني سنوات، أو دورتان انتخابيتان، على خضوع تسيبراس لإملاءات برنامج الإنقاذ، والتي تلتها «إصلاحات» اليمين لتشجيع الاستثمارات الأجنبية، وبدأت تَظهر نتائج هذه السياسات على حياة اليونانيين. الناتج المحلّي العام في أعلى مستوياته منذ عام 2014، وذلك على رغم تداعيات جائحة «كورونا» على الاقتصاد العالمي، وخاصّة على القطاع السياحي المؤثّر جداً في الاقتصاد اليوناني. أمّا نصيب الفرد من الناتج المحلّي، فقد تخطّى أداء المؤشّر الإجمالي، كوْن عدد سكان اليونان يتقلّص لأسباب عدّة. ووفقاً لمعايير الازدهار الاقتصادي التي يحلو لمدارس الأعمال والاقتصاد الأكاديمية المهيمنة اعتمادها، فإن الاقتصاد اليوناني بخير. لكن تلك المعايير لا دلالة فعلية لها عن الأداء الاقتصادي، إذ حتّى الأمم المتحدة حاولت التعويض عن بطلانها بين الجديّين من رجالات الاقتصاد ونسائه، باعتماد مؤشّر التنمية الإنساني. أدخل هذا المؤشّر معايير أخرى، من مثل متوسّط العمر المتوقّع ومعدّل وفيات الرضّع، وأعطاها قيماً حسابية ليسهّل على رأس المال الحُكم على أيّ من الاقتصادات يزدهر، وأيّ منها ينحسر. لكن في الأخير، الاقتصاد أعقد من أن يبسّط في رقم. فَلْننسَ الدول المارقة - من مثل فنزويلا - للحظة، وَلْننظر في «التعافي الاقتصادي» عند مَن خضع لوصفة الإصلاحات الجاهزة من قِبَل الشرطة المالية لرأس المال المعولم. أحد بنود الإصلاحات التي أعادت رضى القوى الاقتصادية المهيمنة عن اليونان، بعدما أغرقتها كما غيرها من الدول بديونٍ جائرة، هو خصخصة أصول الدولة، أي أملاك الشعب، اليونانية. وعندما يقولون خصخصة، يعنون بيع الأصول الوطنية المنتجة ذات القيمة الاقتصادية الكبيرة، لشركات «عالمية» تملكها ثلّة من جشعي رأس المال المتوحّش. شركة ألمانية تولّت أمر المطارات وأخرى استحوذت على الاتصالات، وشراكة إيطالية - ألمانية سطت على القطارات، وهلمّ جرّا.
على رغم قتامة الوضع الاقتصادي في اليونان، الوضع الاقتصادي في لبنان أكثر قتامة


نصيب الفرد
يزهو اليمين اليوناني الحاكم بأنّ نسبة الدَّين العام مقارنة بالناتج المحلّي، انخفضت بـ 16% ما بين عامَي 2021 و2022، لكن الأرقام تُظهر أن مديونية اليونان زادت بحوالي 12 مليار دولار خلال ذلك العام. وهنا، لا بدّ من التفريق بين النمو الاقتصادي والفقاعة التضخمية. عندما تأتي الاستثمارات الأجنبية لتنقذ اقتصادك المحلّي المتعثّر، فهي قد ترفع الناتج المحلّي الإجمالي على دفاترك المحلّية، لكن أرباح هذا «التعافي» الاقتصادي ستُشفَط من جانب أصحاب هذه الاستثمارات إلى حيث هم. زد على ما تَقدّم، فقدان السيادة على العملة الوطنية - والتي هي حال اليونان منذ أن تبنّت اليورو -، حيث تصبح الأرقام أوهاماً دعائية لا تمتّ إلى الاقتصاد الحقيقي بصلة. في الواقع، لا يهمّ أن تزيد القيمة العددية لأموالك إذا نقصت قيمتها الشرائية، وهذا درس تعلّمه اللبنانيون جيّداً في السنوات الأخيرة. يوروات اليونانيين بعد «التعافي» باتت تشتري لهم سلعاً وخدمات أقلّ ممّا قبل «التعافي». إليكم مثال الرفيقة فيبي التي تعمل معلّمة في أثينا، بالإضافة إلى وظائف جانبية. منذ أن دخلت الجامعة، وعلى مدى 14 عاماً، كانت تعيش في شقة قريبة من وسط المدينة، وكان دخلها يكفيها لتغطية تكاليف السكن في تلك الشقة. فجأة، بعد عقد ونصف عقد من تزايد طبيعي في الدخل، بات دخلها لا يكفي لتغطية إيجار الشقة المتضخّم بوتيرة تخطّت مدخولها بأشواط، ما اضطرّها للانتقال إلى ضاحية على أطراف المدينة. قصّة «بطّل المعاش يكفّينا» تتكرّر كثيراً في أثينا، عدا عن الشكوى من تردّي خدمات الدولة، وأهمّها طبعاً خدمات التعافي الصحّي. فما نفع الاستثمارات الأجنبية التي تفقر الشعب؟

التراتبية الرأسمالية العالمية
الاستثمارات الأجنبية في اليونان نوعان: استثمارات من الأعلى، وأخرى من الأسفل. وكلاهما يضرّ بالاقتصاد اليوناني، لكنّ ضرر السفلى ممتدّ إلى ما هو أبعد من أرخبيل جزر الإغريق. الأعلى والأسفل هنا، يشيران إلى هرميّة رأس المال المعولم، الذي يتربّع على رأسه - حتى إشعارٍ آخر - نادي الهيمنة الغربية بقيادة عُصبة الحرب الأميركية. هؤلاء يشفطون كلّ ما له قيمة في الأرض، حتى من حليفٍ لهم كاليونان، تاركين الفتات لتتناتشه الشعوب. لكن ليست كلّ الشعوب سواسية؛ فاليونان، في الأخير، بلدٌ أوروبي، لا يمكن معاملته كالبرابرة. لذلك، سُمح له بأن يستغلّ موقعه من أجل الاستفادة من «هندسات اقتصادية» مثل بدعة بيع الإقامات (أو الفيزا الذهبية) مقابل الاستثمار في اليونان، وغالباً ما يكون هذا الاستثمار على شكل شراء شقق أثينية كالتي تروّج لها اللوحات الإعلانية المنتشرة على طرق لبنان. لتعويض خسارة قطاعاتها المشفوطة نحو الأعلى، تستغلّ اليونان عضويتها في الاتحاد الأوروبي لشفط أموال متموّلي الدول التي لا يحظى مواطنوها برفاهية التنقّل الحرّ (الدول السفلى)، والتي تحتاج إلى التعامل مع بدعة «الفيزا»، وما يرافقها من عشرات الوثائق والأسئلة المتلصّصة والمتجسّسة على حياة الفرد وعائلته ومعارفه، فقط من أجل إعطائه حقّ الولوج السياحي إلى بلاد الله الواسعة. فبمجرّد نقل ربع مليون أو نصف مليون دولار من بلادك، التي هي بحاجة ماسة إلى الاستثمارات، إلى بلاد هي بغنىً عنها، يمكنك الاستجمام على شاطئ أو التّسوق في جادة أوروبية شهيرة من دون عناء التقدّم بطلب فيزا. اللبنانيون ليسوا وحدهم مَن خلق الفقاعة العقارية التي تترجَم «نموّاً اقتصادياً»، وفقاً لحريريّي اليونان، أو تضخّماً يفقر أهل المدينة ويهجّرهم إلى خارجها، فهناك روسٌ و«إسرائيليون» وغيرهم ممّن يحتاجون إلى مأوى لأموالهم خارج مصارفهم.

اليسار في الانتخابات
غالباً ما تتحوّل الاستثمارات العقارية الأجنبية في بلد سياحيّ كاليونان إلى شقق مفروشة تؤجّر للسيّاح على المدى القصير لأنها الطريقة الأنسب لتحقيق الأرباح. بعض المدن مَنعت هذه الممارسات لحماية حقّ السكن لقاطني المدن. أثينا ليست منها. لكنّ في حيّ إكزارخيا، وهو حيّ «يساريّ» شهير في العاصمة، لا يمرّ أسبوع من دون أن يحتجّ سكانه على هذه الممارسات التي تهدّد مسكنهم. كما لا يمرّ أسبوع لا تعتدي فيه الشرطة على تظاهرة بالهراوات والغاز المسيّل للدموع. المشهد يتكرّر بانتظام إلى درجة أنه يبدو مسرحية يتدرّب عليها الطرفان قبل عرضها على الجمهور الذي بات ينتظرها نهاية كلّ أسبوع. جدران إكزارخيا يزيّنها الغرافيتي وملصقات أحزاب يسارية متنوعة، فهناك الكثير من الترويج لـ«حزب العمال الكردستاني» نكاية بتركيا، وهناك «الحزب الماركسي اللينيني» وهو غير «الحزب اللينيني الماركسي»؛ لكن أكبر الأحزاب اليسارية (إلّا إذا صدّقنا كذبة أن حزب «سيريزا» يساري) هو «الحزب الشيوعي اليوناني»، والذي تشير الاستطلاعات إلى أن مستوى تأييده ارتفع من 5% في الانتخابات الأخيرة، إلى 7% عشية انتخابات 2023. لن يفوز «اليسار» في الانتخابات. حتّى لو فشلت «الديموقراطية الجديدة» في تأمين تحالف أكثري وأوكلت المهمّة لـ«سيريزا»، سوف يستمّر «التعافي» اليوناني على السكّة نفسها التي تؤدّي إلى انهيارٍ جديد حتميّ أسوأ من الانهيار السابق. السيادة على العملة الوطنية ما زالت غائبة، لكن هذه المرّة لا أصول للدولة لتخصخصها، وفقاعة الريع العقاري لا قيمة فعلية لها. أوجه الشبه بين اليونان ولبنان كثيرة، لكن، وعلى رغم قتامة الوضع الاقتصادي في اليونان، الوضع الاقتصادي في لبنان أكثر قتامة.