تشهد إسرائيل، منذ أشهر، أزمة غير مسبوقة وغير منظورة بما يكفي، عنوانها وقوف المستوطنين، بالدور، لفترات طويلة، للحصول على جوازات سفرهم. أزمةٌ باتت تشكّل ثقلاً كبيراً على الإسرائيليين، مشوِّشةً روتين حياتهم، ومانعةً عنهم واحدة من الخدمات السهلة في الدول السويّة، وخصوصاً في ظلّ استفحالها أخيراً إلى حدّ ظهور سوق سوداء لبيع «الدور» بما يصل إلى المئات من الدولارات. وعلى رغم أن السلطات الإسرائيلية حاولت، في العامَين الأخيرَين تحديداً - مع الإشارة هنا إلى أن تلك الظاهرة ليست وليدة اليوم - اجتراح حلول مؤقّتة، من خلال توكيل مكاتب جديدة بتلقّي طلبات الجوازات وإصدار هذه الأخيرة، إلّا أن هذه الحلول لم تفلح في وضع حدّ للمعضلة، التي لا تفتأ تتمدّد، مخلّفةً طوابير يصل عديدها إلى 2.5 مليون في مختلف مكاتب «سلطة السكّان والهجرة».

قبل ثلاثة أشهر ويزيد، أي منذ تشكيل الحكومة الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو، شمّر وزير الداخلية الجديد، موشيه أربيل، عن ساعدَيه ليصوغ خطّة طموحة من ثلاث مراحل، هدفها معالجة مشكلة جوازات السفر بشكل تدريجي. وتنصّ الخطة على فتح أربعة مراكز كبيرة - وُعد الإسرائيليون بأنها لن تعتمد المنصّة والموعد المسبق-، والعمل على إصدار 600 ألف جواز خلال أشهر الصيف المقبل، ومثلها في الخريف والشتاء القادمَين. وعلى رغم أن هذه الخطّة وُصفت بـ«الطموحة»، إلّا أن الإسرائيليين لا يتوقّعون، وفقاً لاستطلاعات الرأي، أن تفعل أكثر ممّا فعلته سابقاتها التي وُضعت في السنوات الثلاث الأخيرة، مُلقين باللوم على عدم الاستقرار السياسي، وصعوبة التجنيد السريع للأفراد وتجاوز القيادة، والتحرّكات المعقّدة والقرارات البطيئة في الحكومة.
وفقاً لتقرير نُشر في صحيفة «غلوبس» العبرية في الـ20 من الشهر الماضي، فحتى ذلك التاريخ، «في بئر السبع وحيفا، لا يمكنك العثور إلّا على موعد بعد ستّة أشهر، أمّا في تل أبيب، فلا يمكن العثور على قائمة انتظار واحدة تتيح لك تسجيل اسمك لتنتظر دوراً». وتلفت الصحيفة إلى أن «هذه المشكلة ليست جديدة؛ فمنذ أكثر من عام، أي في شباط 2022، عكفت وزيرة الداخلية في حينه، إيليت شاكيد، على محاولة إيجاد حلول لها، واعدةً بإنهائها خلال أسابيع، لكنّ الأسابيع مرّت من دون أن يتحقّق هذا الوعد». لا بل إن الأزمة أنتجت سوقاً موازياً، تُباع المواعيد فيه وتُشترى، فيما دخلت على خطّها «منظّمات» تهدف إلى «تسهيل» الحصول على مكان غير متأخّر في قائمة انتظار ما، وذلك في مقابل ثمن طبعاً.
تنأى الأمم المتحدة بنفسها تماماً عن هذا المشروع حتى الآن


من جهتها، توضح صحيفة «هآرتس» (14 آذار) أن لوائح الانتظار تختلف من مدينة إلى أخرى، لافتةً إلى أن أوّل موعد في لائحة انتظار في الناصرة يقف على بعد تسعة أشهر، فيما في عراد (النقب) متاح بعد ستة أشهر، وفي طبريا بعد خمسة أشهر». وتشير الصحيفة إلى أن الأزمة الحالية إنّما هي «استمرار للفشل الكبير لسلطة السكان والهجرة»، مستدركةً بأن «أكثر ما يسبّب الضيق حالياً، أن من بين مواطني إسرائيل الذين اضطرّوا للانتظار عدّة أشهر كي يستحصلوا على دور وعلى جواز سفر جديد، كان من بينهم مَن وصل إلى مكاتب السلطة وفقاً لدوره، ومنهم من اختار لاختصار المدّة مدناً بعيدة عن سكنه، ليجد أن دوره لم يَعُد موجوداً، بعدما اتّصل أحدهم بالسلطة ليلغي الدور باسمه، علماً أن حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديداً في تليغرام، تبيع الموعد بمئات الدولارات، بما يتناسب مع قربه أو بعده». وتنقل «يديعوت أحرونوت» (الأوّل من أيار)، بدورها، عن إيال سيسو، الرئيس التنفيذي لـ«السكّان والهجرة»، اعترافه بمسؤولية السلطة عن هذه الأزمة، وتعهّده بتكثيف العمل على معالجتها، ودعوته المواطنين إلى أن «يكونوا صبورين» من أجل ذلك. وتشير الصحيفة إلى أن «مهمّة تحديد موعد لتجديد جواز السفر أو بطاقة الهوية باتت شبه مستحيلة، ويستغرق إكمالها شهوراً»، مضيفةً أن «الرقمنة لم تصل بعد إلى العديد من المواقع الحكومية، وبالتأكيد إلى وزارة الداخلية وأقسامها».
لكن ما هي رواية وزارة الداخلية الإسرائيلية لأسباب الأزمة؟ في عام 2020، مع تفشّي وباء «كورونا»، فرضت غالبية دول العالم، بما فيها إسرائيل، قيوداً على عبور الحدود. وبحسب بيانات «منظّمة الطيران المدني الدولي»، انخفض عدد المسافرين على الرحلات الجوّية في العالم من 4.5 مليارات في عام 2019، إلى 1.8 مليار في عام 2020. وفي إسرائيل، وفقاً لتقرير وزارة القوى العاملة والهجرة، انخفض عدد المسافرين من 9.2 ملايين في عام 2019، إلى 1.5 مليون في عام 2020، وهو ما أدّى إلى تقليص «سلطة السكّان والهجرة» أنشطتها بشكل كبير، ومن بينها إعطاء جوازات سفر، ربطاً بالطلب المنخفض وبإجراءات الوقاية التي فُرضت في حينه. وطبقاً لبيانات السلطة («غلوبس»، الأوّل من شباط)، فقد بلغ حجم الطلب على الجوازات في عام 2019، 1.08 مليون جواز، بينما انخفض في عام 2020 إلى 430 ألفاً فقط، وعاد ليرتفع في عام 2021 ويصل إلى 710 آلاف مع بلوغ عدد المسافرين 3 ملايين. أمّا عام 2022، فوصل عدد المسافرين فيه إلى 8.4 ملايين، والطلب على الجوازات إلى 1.34 مليون، فيما بلغت الطلبات في الأشهر الأولى من العام الحالي، 2.5 مليون.
لكن هل تبرّر تلك الأرقام استفحال الأزمة حالياً؟ وكيف يفسَّر العدد المضاعَف، بل المثالث، من طالبي الجوازات، على رغم استقامة الأمور وعودتها إلى ما كانت عليه قبل أزمة «كورونا»؟ قبل حوالي شهرين (تقرير لـ«القناة الـ14» في الرابع من نيسان)، ناقشت لجنة الداخلية في «الكنيست» معضلة تأخّر الجوازات، وتلقّت من السلطات المعنيّة بيانات مفادها أن «179 يوماً هو متوسّط ​​الوقت الذي يتعيّن على الإسرائيليين انتظاره للحصول على دور في قائمة انتظار في منطقة تل أبيب وغوش دان، فيما في الشمال تبلغ المدّة 132 يوماً في المتوسّط». ويلفت التقرير إلى أن تلك السلطات «علّلت هذه الظاهرة المقلقة، بوجود أعباء كثيرة، ونقص في القوى العاملة والموظّفين». لكنّ الصدفة كشفت أمام مراسلي القناة ما كان يجري التداول به بين الإسرائيليين؛ إذ «استحصل مراسلنا على مقطع فيديو يَظهر فيه مجموعة من المتحدّثين باللغة الروسية، وهم يحملون قوائم انتظار ليبيعوها، ومنهم من يطلب من المشترين الاتّصال بقناتهم على التيليغرام للتسعير». وتَبيّن للمراسلين، بعد معاينتهم الحساب، أن هذا الأخير «يضمّ الآلاف من المشتركين، ومَن يرغب منهم في شراء دور، عليه أن يتخلّى عن مبالغ كبيرة»، وفقاً لما أفاد به موظّف في التعليم الثانوي، قائلاً: «اتّصلت بالمسؤول عن المجموعة للحصول على موعدَين، فطلب مني 500 دولار».