خلال شهر رمضان هذا العام، شهدت فلسطين المحتلة، و»منطقة الطوق»، ما يشبه «بروفة» لحرب متعدّدة الساحات، من الممكن أن تشتعل في أيّ وقت، حيث قد تبدأ بشكل واضح ومعروف، من دون أن يستطيع أحد ضبط مسارها وسقفها ضبطاً كاملاً. ولذا، يحاول الجميع تجنّبها اليوم، في مسعى لكسب مزيد من الوقت، يتيح استكمال استعدادات ما، أو انتظاراً لتغيّر ظروف محلّية وخارجية. ومع أن رمضان 2023 لم يشهد حرباً، كتلك التي شهدها رمضان 2021 (معركة «سيف القدس»)، إلا أن «بروفة» السنة الحالية كانت أوسع جغرافياً، وأكثر دلالة، حول ما سيكون عليه شكل المعارك المقبلة بين المقاومة والعدو الإسرائيلي. هذه المرّة، كان عنوان التصعيد متعدّد الساحات، هو اعتداءات المستوطنين والشرطة الإسرائيلية على المسجد الأقصى والمصلّين والمعتكفين فيه. أدرك قادة قوى المقاومة في المحور المعادي لإسرائيل، أن هذا العنوان، وفي شهر رمضان تحديداً، كفيل بإشعال مشاعر الغضب لدى عموم المسلمين، ولدى الفلسطينيين خصوصاً، وبشكل أخص فلسطينيي القدس والضفة الغربية والداخل المحتل عام 1948. كما أدرك هؤلاء أن تزامن الأعياد اليهودية مع أيام الصوم، خلال العامين الفائتين والعام الجاري، كان لا بدّ من أن يؤدّي إلى تصعيد ما، نتيجة الاعتبارات اليهودية المتعلّقة باقتحام المستوطنين الأقصى خلال الأعياد من جهة، وإصرار الفلسطينيين على الرباط والاعتكاف فيه خلال رمضان من جهة أخرى.على طرفَي الصراع: في تل أبيب وواشنطن، وفي عواصم محور المقاومة من غزة إلى بيروت ودمشق وطهران، وفي عواصم إقليمية أخرى تشتغل عادةً على خطوط التهدئة وتحقيق «التسويات»، كان الجميع - قبل رمضان - يعدّون العدّة لما سيشهده الشهر من أحداث واحتمالات تدهور. وبعيداً عن الخوض في تفاصيل الأحداث التي وقعت خلال الأسابيع الماضية، وكيفية تفاعلها وتطوّرها، فإن الخلاصة التي خرج بها العدو من أسبوع واحد تقريباً من التصعيد، هي أن المعركة المقبلة ستكون متعدّدة الجبهات، وأن أعداءه في محور المقاومة أعدّوا للمعركة جيّداً، ونظّموا آليات مختلفة ومتقدّمة للتعاون والتنسيق في ما بينهم. هذه الخلاصة، التي كان الاحتلال قد توصّل إليها سابقاً، لكنه لمسها لمس اليد في رمضان، عقّدت حساباته، وضيّقت هوامش التحرّك لديه، ودفعته إلى ترجيح ما يمكن تسميته بـ«التعقّل»، في قراءة التطورات وتحديد المسارات والسقوف والتوقيت، وغيرها من العوامل الحاسمة في أيّ تصعيد عسكري، وأبعدته عن مجرّد التفكير بخيارات عدوانية، كان قد اعتادها على مرّ سنوات طويلة من عمر الكيان.

مفارقة 2006 - 2023: من لبنان وسوريا وغزة... إلى بساتين الموز!
قبل وقوع عملية الأسر في جنوب لبنان في 12 تموز 2006، كان موضوع سوريا قد طُرح على الطاولة في تل أبيب. يورد الكاتبان الإسرائيليان، عوفر شيلح ويؤاف ليمور، في كتابهما «أسرى في لبنان: الحقيقة عن حرب لبنان الثانية» (2011)، أنه قبل ستة أيام من عملية الأسر، أي في 6 تمّوز، التقى رئيس الحكومة الإسرائيلية حينها، إيهود أولمرت، عضو «الكنيست» آنذاك، أفيغدور ليبرمان (رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» المعارِض)، الذي اقترح على رئيس الحكومة ما يأتي: «يجب تصفية خالد مشعل في دمشق»! فردّ أولمرت: «لكن السوريين قد يقومون بأعمال صاخبة». لم يعنِ ذلك لليبرمان الكثير، إذ قال: «فليصخبوا كما يشاؤون، فمنذ أيام والوضع هنا مشبعٌ بالفوضى، وبإمكانك أن تستغلّ هذه الحالة من أجل فرض النظام، فتقوم بأعمال قصف في سوريا، وتتعرّض لحزب الله ولبنان (...) وبعد ثلاثة أيّام سيُصاب العالم بالهلع، وسيطلب منّا وقف إطلاق النار. وستكون الصدمة كبيرة جداً إلى درجة تجعل حماس تُصاب بالهلع وتعيد إلينا جلعاد شاليط». حالة «الفوضى» التي تحدّث عنها ليبرمان، كان يقصد بها ما تبع أسر المقاومة الفلسطينية في غزة، الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، في 25 حزيران 2006، وهو أراد من خلال تناولها حضّ الحكومة على اتّخاذ قرار بضرب سوريا ولبنان، بالإضافة إلى غزة التي كانت أصلاً طائرات العدو تدكّها رداً على عملية الأسر، في ما عُرف بحملة «أمطار الصيف»، التي استمّرت عملياً ثلاثة أشهر، وأدّت إلى استشهاد 277 فلسطينياً... كلّ ذلك ردّاً على هجوم لا علاقة لسوريا ولا لـ«حزب الله» ولبنان به، ولكن ليبرمان، الذي صار في ما بعد وزيراً للأمن لمدّة عامين، أراد تصفية حسابات إسرائيل مع سوريا ولبنان وغزة مرة واحدة!
رأى رئيس «الموساد»، ضرورة تنفيذ هجمات واسعة ضدّ «حزب الله» في لبنان رداً على الصواريخ


في نيسان 2023، أُطلقت على الأراضي المحتلّة عدّة رشقات صاروخية من غزة ومن جنوب لبنان ومن الجنوب السوري، فيما كان ثمّة من يحاول إطلاق صواريخ من سيناء في مصر، ولم ينجح. وسبق «حفلة الصواريخ» تلك، انطلاق مسيّرة من سوريا، ادّعى العدو أنها إيرانية، في اتجاه الأراضي المحتلّة، حيث أسقطتها القوات الإسرائيلية فوق بحيرة طبريا. وقبل كلّ ذلك، في آذار، اخترق شخص الحدود مع فلسطين المحتلة، من لبنان، من دون أن يتمكّن العدو من اكتشافه، وقطع ما يقرب من 100 كلم في عمق الأراضي المحتلّة، وقام بزرع عبوة ناسفة عند مفترق بلدة مجدو قرب حيفا، بحسب رواية العدو. وخلال الأيام الأخيرة، بدا كأن المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية توجّه اتهاماً مباشراً لـ«حزب الله» بالمسؤولية عن العملية. وعلى ضوء اجتماع كلّ تلك الأحداث، التي تجيد قراءتها المؤسسة الأمنية في تل أبيب، ووضعها في سياقها الذي تفهمه جيداً، تجاوز رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، خلافه الحادّ مع وزير الأمن، يؤاف غالانت، ودعا إلى عقد جلسة عاجلة لـ«الكابنيت» في نفس ليلة صواريخ جنوب لبنان. انعقدت الجلسة في مبنى «الكرياه»، وكان نتنياهو قد عقد قبلها سلسلة طويلة من الاجتماعات مع المسؤولين الأمنيين في الكيان. وبحسب التقارير الإعلامية الإسرائيلية، فإن المجتمعين في الجلسة انقسموا ما بين رأيَين، كلاهما أمنيّان مهنيّان بعيدان عن الحسابات السياسية، لكن المستوى السياسي هو من رجّح أحدهما على آخر. والرأيان هما:
الأول، لرئيس «الموساد»، ديفيد برنياع، الذي اعتقد بضرورة تنفيذ هجمات واسعة ضدّ «حزب الله» في لبنان، انطلاقاً من اقتناع تكوّن لديه ولدى جهازه بأن المقاومة هناك ستردّ في كلّ الأحوال على أيّ قصف إسرائيلي يكون ردّاً على صواريخ الجنوب. وبالتالي، من المفيد استغلال الفرصة لتحصيل صيد ثمين.
أمّا الثاني، فهو لرئيس هيئة الأركان، هرتسي هاليفي، الذي رأى أن المصلحة الإسرائيلية تكمن في إبعاد «حزب الله» عن الانخراط في أيّ تصعيد، وتحييده تماماً، وخصوصاً أن ثمّة اقتناعاً لدى هاليفي ولدى الجيش الذي يقوده، بأن الحزب غير معنيّ بالضرورة بالردّ إذا ما كان القصف موجّهاً بدقّة ضدّ مواقع مزعومة لـ«حماس» في جنوب لبنان.
في نهاية الجلسة، وبعد المداولات الموسّعة، وتدخّل نتنياهو في التفاصيل، تقرّر الردّ بشكل مركّز على المنطقة التي انطلقت منها الصواريخ في سهل القليلة، مع تجنّب إيقاع أيّ إصابات، فكان استهداف بساتين الموز، بالإضافة إلى مواقع لـ«حماس» في قطاع غزة، من دون إيقاع إصابات أيضاً. وكلّ ذلك تحت سقف واحد: لا نريد أيّ نوع من المعارك متعدّدة الجبهات.

وزراء في مكان آخر
في جلسة «الكابينت» نفسها، حضر كلّ الوزراء المعنيين في الحكومة، مع المسؤولين في المؤسّسة الأمنية، ورئيس الحكومة. وبحسب الإعلام الإسرائيلي، فإن معظم الوزراء الذين شاركوا في الجلسة، تبيّنت لديهم ثغرات كبيرة في معرفة الساحة اللبنانية وظروفها وتعقيداتها. ولم يتجرّأ أحد من هؤلاء - على تطرّفهم - على طرح أيّ مقترحات متطرّفة، في درس الردّ على صواريخ جنوب لبنان بشكل خاص. ووفقاً للتقارير الإسرائيلية، فإن «الوزراء انشغلوا بأمر واحد فقط هو الخطّة القضائية»، بدل الاهتمام بالتحدّيات الأمنية الداهمة، وهذا، طبق إعلام العدو، «سبب جدّي للقلق». ولذا، فإن المسوؤلين الأمنيين عبّروا عن تفاجئهم بأداء الوزراء خلال الجلسة، واعتبروا أن «هذا خطير جداً عند استحقاق اتخاذ قرارات مصيرية جدّاً»، سيكون هؤلاء الوزراء جزءاً من صنعها.