واحدة من أهمّ الحقائق التي يجلّيها مشهد الاحتجاجات التي ضجّت بها دولة الاحتلال خلال الشهرَين الماضيَين، هي أن إسرائيل ليست في أحسن حالاتها للذهاب إلى القتال. ومع أن الحرب، أو التهديد الجمعي الخارجي، يبدو أقرب إلى «عصا موسى» التي يمكن أن تحيّد الخلافات الداخلية وإنْ بشكل مؤقّت، فإن ظاهرة رفض الخدمة في «دولة دكتاتورية»، والتي تصاعدت للضغط على ائتلاف بنيامين نتنياهو - إيتمار بن غفير - بتسلئيل سموترتيش، من أجل حمله على وقف «الإصلاحات القضائية»، تشير إلى أن «الدولة الديموقراطية الفاضلة»، التي يمكن أن يُضحّى لأجل بقائها، لم تَعُد هي ذاتها في عيون مجتمع الاحتلال. من وجهة نظر المقاومة، فإن الرهان على الصراع الداخلي لتقويض وجود الكيان العبري، ليس رهاناً كاسباً بكلّ تأكيد، غير أن تلك العقدة يمكن «البناء عليها على نحو استراتيجي تراكمي بعيد المدى»، وفق ما يراه الباحث السياسي، إسماعيل محمد.يلفت محمد، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن تكوين النظام المجتمعي في إسرائيل هو واحد من أبرز عوامل ضعفها؛ إذ يتشكّل الكيان من أشتات وأطياف مختلفة من جميع أنحاء العالم، وهو عبارة عن مزيج غير متجانس من إثنيات وأعراق وثقافات متفاوتة، أحدثَ التمايز في ما بينها في مستوى المعيشة، تصدّعات انعكست على شعور الفرد الإسرائيلي بالمواطنة والاستعداد للتضحية في سبيل «بلده». ويشكّل «السفارديم» (اليهود الشرقيون) ما نسبته 60% من المجتمع، بينما «الأشكناز» (الغربيون) يمثّلون 40%؛ وما بين الفئتَين صراع مرير للاستحواذ على المناصب العليا في الدولة، علماً أن الأوّلين - على رغم كونهم الأغلبية - يتمتّعون بحوالي 30% من هذه المناصب، فيما الأخيرون يحوزون 70% منها. كما أن هناك تصدّعاً مذهبياً ما بين «الإصلاحيين» و«الأرثوذوكس» (تنقسم الأرثوذوكسية إلى اليهودية الأرثوذوكسية الحديثة واليهودية الحريدية). أيضاً، ثمّة تصدّع طبَقي انطلاقاً من الأساس المادي، بين مَن يعيشون مستوىً عالياً من الرفاه، وبين الطبقة الفقيرة التي تشكّل ثلث المجتمع تقريباً، فيما تمثّل تلك الغنية ثلثه الثاني، والمتوسّطة ثلثه الثالث، وهذا ما لا يطابق الحال في الدول الغربية التي تتشابه مع النموذج الإسرائيلي، حيث تستحوذ الطبقة الوسطى على النسبة الكبرى، التي ربّما تصل إلى 50 أو 60%، ما يساهم في تحقيق استقرار بدرجة أعلى.
تكوين النظام المجتمعي في إسرائيل هو واحد من أبرز عوامل ضعفها


ماذا يعني كلّ ذلك؟ يجيب محمد، في حديثه إلى «الأخبار»، بأن «ظهور هذه الشروخات في مجتمع مصطنع، يعني أن هذا البناء، الذي يمتلك بمجموعه خياراً ثانياً، أي جواز سفر بديل، بات يعيش تهديداً حقيقياً لقناعة أبنائه بمستقبل البقاء وجدوى التضحية»، فيما يعتقد الباحث السياسي، مجد ضرغام، بأن «مقارنة جبهة الاحتلال الداخلية، بحواضن المقاومة في غزة والضفة ولبنان وسوريا، والتي لم يجبرها تراكم الضغوط والحروب والتوتّر المستمرّ منذ عشرات السنين، على ترك الأرض والتفكير بالرحيل، تقدّم الفارق بين الجبهتَين»، كما يقول لـ«الأخبار»، مذكّراً بأنه «في غزة، لم يفكّر مليونا إنسان بالرحيل، وفي لبنان، دفعت المقاومة ثمن التحرير بالدماء (...) الجندي الذي يقاتل في المعركة، وهو يمتلك وعائلته خياراً ثانياً، لا يكون بذات حماسة صاحب الحق، الذي تنحصر خياراته في النصر أو الموت».
صحيح أن البناء أو الضرب على هذا الوتر، يحمل طابعاً تراكمياً، إلّا أنه لا شيء يمنع من تخيّل ما سيكون عليه مجتمع الاحتلال في حال اندلعت حرب متعدّدة الجبهات، إذ إن سقوط آلاف الصواريخ من لبنان وغزة وسوريا والعراق واليمن، في وقت تتأهّب فيه قوات برّية للعبور وإنْ بشكل مؤقّت في داخل الجليل والجولان والمستوطنات المحاذية للقطاع، وتتكاثف تفاصيل مشهدية ذات طابع وجودي لم تعشها إسرائيل منذ تأسيسها، هي التي ستدفع مَن احتلّوا هذه البلاد إلى إعادة حساباتهم. لا يعني ذلك أن 6 ملايين مستوطن جُمّعوا من أشتات الأرض طوال 75 عاماً، سيحزمون حقائبهم ويغادرون البلاد دفعة واحدة في أعقاب أيّ حرب شاملة مقبلة، بل إن المأمول من هكذا مواجهة، هو ذاته المأمول من أيّ عملية إطلاق نار على إحدى مستوطنات الضفة الغربية، وأيّ صاروخ يُطلَق من غزة على «عسقلان» أو «سديروت»، أي رفع كلفة بقاء الاحتلال بشرياً واقتصادياً، وتهشيم منظومته الداخلية، وإضعاف سيادته على الأرض، وهي أهداف لا تُحقّقها جولة واحدة أو جولات متعدّدة وإنْ كانت نوعية، إنما تؤسّس لها. غير أن الفارق المبشّر هذه المرّة، هو أن المجتمع الإسرائيلي الذي ظلّ طوال تاريخ الحروب مع الجيوش العربية، خارج دائرة الشعور بثقل الحرب، سيصبح بفضل «غابة من الصواريخ» تطوّق حدوده، جزءاً منها، بينما عوامل جذب الاستثمار والمهاجرين الجدد فضلاً عن السيّاح ستتخلخل، لتصبح إسرائيل، في نهاية المطاف، بيئة طاردة لكلّ مقوّمات البقاء.