تَحضر الفرضيّات، وتغيب أدوات القياس الدقيقة التي يمكن من خلالها تحديد قدرة جيش الاحتلال على القتال على جبهتَين أو ثلاث في ذات الآن، وذلك بالنظر إلى أن حرب تشرين 1973 هي الوحيدة التي جرّب فيها العدو القتال على الجبهتَين السورية والمصرية معاً، وهي حربٌ تغاير تلك المرتقبة، لجهة نوعية الجيوش وطريقة القتال، فضلاً عن اعتبارات كبرى ذات صِلة بمبرّرات القتال وأهدافه. اليوم، تدرك إسرائيل أن نقطة التعقيد، هي أن جنودها سيواجهون جيوشاً غير نظامية، في صورة زُمر قتالية هجينة، تُزاوج في قتالها بين أبجديات وتقسيمات وتخصّصات الجيوش النظامية، وتكتيكات وأساليب حرب العصابات. الثابت الوحيد الذي لم يتغيّر منذ سبعينيات القرن الماضي إلى الألفية الجديدة، هو عقدة الجغرافيا التي كانت وستبقى أزمة لا طاقة لدى إسرائيل للقفز عنها؛ أمّا المتغيّر الأبرز، فهو أن تكتيك نقل المعركة إلى أرض الخصم، لتلافي تحدّي مشكلة الواقع الجغرافي الضيّق، صار من الماضي. ففيما يهدّد «حزب الله»، منذ سنوات، بعبور الجليل، قدّمت المقاومة في غزة عدّة نماذج عملية من ذلك الأسلوب في حرب عام 2014، حينما اقتحم مقاتلو «كتائب القسام» موقع «ناحل عوز» وقاعدة «زكيم البحرية» و«موقع الـ16»، واستطاعوا السيطرة على الميدان لمدّة كافية لتحقيق الأهداف المرجوّة، قبل أن ينسحبوا غانمين قطع سلاح ومتعلّقات للجنود الذين قتلوهم، فضلاً عن صورٍ مدوّية على الصعيد المعنوي، لمقاتلين يحملون أسلحة خفيفة، يقتلون جنوداً ويضربون آخرين بالأيدي وأعقاب البنادق، وسط صراخ وعويل يُسمع صداهما في المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية حتى اليوم. بالعودة إلى نقمة الجغرافيا، فإن إسرائيل هي «دولة» صغيرة المساحة، تمتلك حدوداً طويلة جدّاً؛ فحدودها مع الأردن تبلغ 360 كيلومتراً، ومع مصر 212 كيلومتراً، ومع سوريا 79 كم، ومع لبنان 70 كم، ومع غزة 13 كيلومتراً جنوباً، و40 كيلومتراً شرقاً، في ما يناهز بمجموعه 774 كيلومتراً، لا تتناسب مع صِغر مساحة «الدولة». أمّا الشكل الطولي لتلك الجغرافيا، فيمتدّ من الشمال إلى الجنوب على 430 كم، بعرض يراوح في الشمال ما بين 51 - 70 كم، وفي الوسط ما بين 72 - 95 كم عند القدس، وخاصرة هي الأكبر طوال الخارطة تصل إلى 117 كم من رفح وخانيونس (جنوب) في قطاع غزة وحتى البحر الميت. هذه المعطيات تعني، بالفهم العسكري البسيط، أنه لا عمق يعطي أيّ امتياز للمناورة، في حين يمتلك الخصوم المحيطون بتلك الحدود من كلّ جانب، امتياز التقسيم بالنار، وفق ما أكّده باحث عسكري من المقاومة، موضحاً في حديثه إلى «الأخبار»، أن «مشكلة/ امتياز انعدام العمق الجغرافي، وضيق الخاصرة، هي العامل الذي جعل نقل المعركة إلى أرض الخصم، عماد كلّ الحروب الخارجية التي خاضها الاحتلال»، مبيّناً أنه «بالمعنى العسكري، فإن تركيز النار، أي إطلاق الصواريخ الكثيفة، على خطّ عرضي محدّد من جبهات عدة، سيسهم في كسر التواصل الجغرافي بين شمال الكيان وجنوبه، فضلاً عن أن تنفيذ عملية إبرار من حدود القطاع حتى وإنْ في مساحة ضيقة، سيسهم في زيادة تشتيت واستنفار قوات الجيش، في وقت يعطي فيه الأخير الأولوية لجبهات أكثر خطورة واستنفاراً».
اليوم، وبعد أن تجاوز قطار المقاومة في الضفة الغربية مرحلة البدايات، فإن حسابات العدو تزداد تعقيداً


وبالنسبة إلى الحدود الطويلة مع قطاع غزة، تُقدّم حرب عام 2014 معطيات لافتة عن قدر الإشغال الذي تفرضه «خاصرة المقاومة الأضعف»، وفق تقدير جيش الاحتلال في «خطّة جدعون» التي وضعها رئيس الأركان الأسبق، غادي أيزنكوت، في عام 2018. في تلك الحرب، عمد العدو إلى تنفيذ هجوم جبهي على طول حدود القطاع، اضطرّ معه إلى الزجّ بأربعة ألوية مدرّعات هي: «اللواء 401» المسلّح بدبابات «مركافا 4 باز» المزوَّدة بنظام «تروفي» المضادّ للصواريخ المضادّة للدروع، «اللواء 188»، «اللواء 7»، و«اللواء 460». كما زجّ بخمسة ألوية مشاة نظامية هي: «لواء المظليين»، «النحال»، «غولاني» و«اللواء 828»، إضافة إلى قيادة المنطقة الجنوبية وسلاح الجو ومنظومات الدفاع الجوي وسلاح البحرية وسلاح الهندسة القتالية، التي عملت ضمنها وحدة «يهلوم» المختصّة بتدمير الأنفاق. كذلك، انخرطت في المواجهة الوحدات الخاصة التي شملت «سرية هيئة الأركان»، «شيطط 13»، «وحدة شلداغ»، «وحدة 669»، «ماجلان»، «ريمون»، «عوكتس»، «دوفدوفان»، «الكتيبة 569»، «وحدة إيغوز»، وسلاح المدفعية، بالإضافة إلى الوحدة الخاصة بتشغيل طائرات الاستطلاع من نوع «راكب السماء»، فيما وصل مجمل قوات الاحتياط التي تمّ استدعاؤها للخدمة في غزة إلى حوالي 86 ألف جندي.
صحيح أنه ليست ثمّة معادلة ثابتة لما يمكن أن تشغله كلّ جبهة في حال اندلعت حرب متزامنة، لأن لكلّ معركة خصوصيتها وطبيعتها، بمعنى أن معركة «سيف القدس»، التي اقتصر القتال فيها على القصف الجوّي، لم تتطلّب بكلّ تأكيد تعبئة ذلك العدد الهائل الذي اقتضته حرب عام 2014 وما تخلّلها من اجتياح برّي، إلّا أن سيناريو الحرب المتعدّدة الجبهات (غزة ولبنان وسوريا) يفترض عجزاً هائلاً في تعبئة فراغات تلك المساحات الشاسعة، وتوفير ما تتطلّبه كلّ جبهة من جندي محترف ليؤمّن حاجاتها، ولا سيما أن أيّ تراكم للقوة على الحدود يحتاج إلى إشغال قوات وقائية لا يمكن لها أن تترك مواقعها. في عام 2018، حين طرحت المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية، لأوّل مرّة، هاجس تلك الحرب، وركّز أيزنكوت حينها على ضرورة إعادة تأهيل الجندي الإسرائيلي لكي يكون جاهزاً لتحدٍّ كهذا، عقدت المقاومة في غزة، من جهتها، العديد من ورشات العمل والدراسات المهنية الموسّعة، لقياس مدى قدرتها من جهة، والاحتلال من جهة أخرى، على التعاطي مع هكذا فرصة (/تهديد). وبحسب ما ذكرته مصادر في المقاومة آنذاك، فإن منابع الفرص التي يضعها أعداء إسرائيل على الطاولة، تتجاوز الحدود التقليدية لدولة الاحتلال (الجولان ولبنان وغزة)، إلى خواصر لا تقلّ تأثيراً عنها كانت حتى عام 2021 خارج الحسابات الإسرائيلية، أهمّها الضفة الغربية والداخل المحتلّ. ثمّ اندلعت معركة «سيف القدس»، وقدّمت صورة مصغّرة لمدى التأثير الذي يمكن أن تشكّله مدن الداخل، مثبتةً أن نقطة الضعف تلك، إنْ استُغلّت في حدودها الدنيا، أي من دون العمل المسلّح، ستساهم بكلّ تأكيد في إحداث تصدّع قومي. وبالنظر إلى نسبة العرب المتواجدين في إسرائيل، والتي وصلت إلى 20% بواقع  1.808 مليون نسمة، منهم 300 ألف فلسطيني يسكنون مدينة القدس المحتلّة، و20 ألف سوري يسكنون هضبة الجولان، يَبرز بوضوح مستوى الخلل والإرباك الذي يمكن أن يُحدثه تحرّكهم.  
اليوم، وبعد أن تجاوز قطار المقاومة في الضفة الغربية مرحلة البدايات، فإن حسابات العدو تزداد تعقيداً، ولا سيما إذا ما أُخذ في الاعتبار أن «انتفاضة السكاكين» في عام 2015، تطلّبت من الاحتلال الاستعانة بـ27 ألف جندي، بعدما كان قد اكتفى بـ11 ألفاً فقط لمواجهة انتفاضة الأقصى الثانية عام 2000. وبالنظر أيضاً إلى أن عملية «كاسر الأمواج» التي بدأها العدو في آذار 2022، اقتضت نشر أكثر من 55 كتيبة، بالإضافة إلى 16 كتيبة من «حرس الحدود»، ثمّ تعزيز القوّات المنتشرة بمحاذاة الجدار الفاصل بأربع كتائب أخرى، وصولاً أخيراً إلى إشغال ما نسبته 60% من قوات جيش الاحتلال النظامية، أي ما يزيد عن 100 ألف جندي، مقسّمين بين الشرطة والجيش، يتّضح حجم العبء الواقع على المؤسّسة الأمنية والعسكرية في إسرائيل، مع التذكير هنا بأن واحداً من الأسباب التي دفعت العدو إلى الانسحاب من قطاع غزة، تَمثّل في تلك العقدة؛ إذ إن مستوطنات القطاع كان يقطنها 8000 مستوطن، يقوم على حمايتهم 3000 جندي، أي أن كلّ 2.5 مستوطن كانوا بحاجة إلى جندي لحراستهم.