لم تكن الظروف البَينية داخل محور المقاومة قد نضجت عام 2018، حينما وضع جيش الاحتلال استراتيجيته لإعادة تأهيل الجيش لخوض حرب متعدّدة الجبهات. آنذاك، أميط اللثام عن «خطّة جدعون المحدثة»، والتي أريدَ من خلالها تطوير الأسس التي ينطلق منها جيش الاحتلال في تكتيكه العسكري خلال الحرب. وتمحورت الخطوط العريضة للخطّة، التي مثّل رئيس هيئة الأركان الأسبق غادي أيزنكوت عرّابها، حول الحرب المتعدّدة الجبهات، وإيران والقنبلة النووية، والفلسطينيين في غزة والضفة، وقيادة العمق، في ما يمثّل في مجمله تحدّيات ركّزت «جدعون» في معالجتها على تطوير شخصية وأداء «الفرد المقاتل». في فهم أيزنكوت، الذي تحصّل على شهادات عليا في دراسة تجربة الحروب مع لبنان، فإن الجندي الإسرائيلي لا بدّ أن يخضع لإجراءات تأهيلية جديدة، لم تُذكر سابقاً في عقيدة الجيش، أهمّها الارتجال في المعركة، حتى لو كانت نتيجة ذلك الفشل، وإذ يخالف هذا التحديث الهيكلية التقليدية التي بُني عليها جيش الاحتلال، والتي تفرض على الجندي تقديم الاعتبارات الأمنية والسلامة على الهدف المنشود، فهو يخوّله قيادة اتّجاه المعركة بعيداً عن الخطّة التي وُضعت سلفاً لها، وهو ما اقتُرح في الواقع بعد تقييم عدّة حالات فشل تسبّب بها تقيُّد الجندي بخطّة سابقة، تكون تطوّرات الأرض في المعركة قد خالفتها.
وفقاً لباحث في المقاومة، فإن أيزنكوت كان من أكثر قادة أركان جيش الاحتلال مهنيةً - لسخرية القدر، فإن هذا الرجل يجلس حالياً في ضفّة المعارضة لحكومة بنيامين نتنياهو -، وقد وضع هذا التحديث معتمداً على تراكمات المعارك التي خاضها الجيش الإسرائيلي على مدار التاريخ، إضافة إلى تجربة الجيش الأميركي في أفغانستان والعراق. وبموجب المقاربة الجديدة التي قدّمها لوظيفة الجندي، فقد كان من المفروض الاستغناء عن آلاف الجنود من قوائم الاحتياط، لأن المهمّ هو «الكتلة الكيفية لا العددية»، فضلاً عن تحويل الاستثمارات الكبيرة إلى بناء الجندي المحارب، لا مضاعفة الكتلة الكمّية، مِن مِثل القوات النظامية، وقوات الاحتياط القوية المدرَّبة.
العنوان الثاني المهمّ من «خطّة جدعون»، هو ضرورة تخفيض العمليات التكتيكية الميدانية التي تكلّف ثمناً باهظاً، إذ يجب على الجيش أن يصل سريعاً إلى قيادة عمق الخصم، لكي ينهي الحرب في بداياتها، ومعنى ذلك أنه يجب «إلحاق الضرر بقيادة العمق لدى الخصم»، وتقصير عمر «مقرّ السيطرة» الخاصّ به إلى الحدّ الأدنى، ومن ثمّ البدء بعملية تطهير جيوب المقاومة بالاعتماد على الثقل العسكري الاستراتيجي. وتخالف هذه الرؤية ما تبنّاه الجيش سابقاً، حيث كان يوِلي تدمير القدرة العسكرية أهمّية أكبر ممّا يعطي لتصفية قيادة الخصم، من طريق الوصول بأقصى طاقة إلى معلومات دقيقة من «عمق أرض العدو»، والاستغلال اللوجستي لهذه المعلومات خلال المعركة.
حرب عام 2021 كانت نموذجاً تطبيقياً أوّلياً من «خطّة جدعون»


على أن العدو سعى، بالفعل، بتجريب هذا التكتيك في معركة «سيف القدس» عام 2021؛ إذ لوحظ، منذ اليوم الأوّل، تركيز الجهد العملياتي على محاولة اغتيال قادة أركان «كتائب القسام»، وعلى رأسهم محمد الضيف ونائبه مروان عيسى، وهو هدف انقضت أيام الحرب الـ11 من دون أن تتمكّن إسرائيل من تحقيقه. وفي آب 2022، بدأت معركة «وحدة الساحات» باغتيال قائد لواء غزة والشمال في «سرايا القدس» تيسير الجعبري، وانتهت باغتيال قائد لواء الجنوب في «السرايا» خالد منصور. ولعلّ ذلك بدا بالنسبة إلى البعض - بمعزل عمّا رست عليه النتائج النهائية والكلّية لحرب الأيام الثلاثة تلك - نموذج «الانتصار الأنيق» الذي تحدّث عنه أيزنكوت باستحضار كلام نائب رئيس هيئة الأركان السابق، حاييم بارليف، في حرب حزيران عام 1967، مشدّداً على «(أنّنا) بحاجة إلى الانتصار المتفوّق الواضح الذي لا لبس فيه ولا يخضع للتفسير الاعتذاري»، وهو ما يقتضي، وفق «خطّة جدعون»، تطوير الجيش رقمياً ليعتمد في عملياته أكثر من أيّ وقت مضى على المعلومات المحسوبة، في ما يبدو أشبه بتحديث للعقيدة الأمنية التي وضعها اللواء تاليك تال مع نهاية العقد الثاني من القرن الـ21، والتي تدعو إلى تحقيق التفوّق الرقمي التكنولوجي على الخصم.
من وجهة نظر المقاومة، فإن حرب عام 2021 كانت نموذجاً تطبيقياً أوّلياً من «خطّة جدعون»، وهي مختلفة عن حرب عام 2014، وخصوصاً لجهة الاقتصاد في الاستخدام العشوائي للنار. ففي حين فعّل جيش الاحتلال «عقيدة الضاحية» في حرب الـ51 يوماً ضدّ أحياء الشجاعية وبيت حانون والزنة، فقد ركّز في «سيف القدس» على توجيه ضربات تسبّبت بخسائر بشرية كبيرة في صفوف المدنيين بلا شكّ، لكنها كانت مبنيّة على معلومات استخبارية مفترَضة عن وجود أنفاق للمقاومة تحت الأرض. أمّا في أيّ حرب مقبلة متعدّدة الجبهات، فإن الإنجازات التي يمكن أن تحقّقها المقاومة ليست، من وجهة نظر أيزنكوت، سوى اختراقات ظاهرية مؤقّتة، إذ يقول: «في الحرب المقبلة، ستسيطر المقاومة  على بعض المستوطنات القريبة، في إنجاز استعراضي لحظي، لكننا سنُطهّرها سريعاً. لذلك، اطمئنّوا، الإنجاز يقاس في نهاية المعركة»، مشدّداً على ضرورة نقل المعركة سريعاً إلى ميادين الطرف الآخر، كي لا تبقى «إسرائيل في موضع المُدافع»، وهو ما يتطلّب معلومات برّية وجوّية وبحرية عن خطط هجوم الخصم.
الأكيد أن «خطّة جدعون» خضعت لفيض من الدراسة والتحليل من طرف المقاومة، غير أنه وبعد مرور خمس سنوات على الكشف عنها، يحقّ القول إن واحداً من أهمّ بنودها، وهو تفعيل استراتيجية «المعركة بين الحروب» ضدّ «الجماعات المدعومة من إيران في سوريا ولبنان ومناطق أخرى»، لم يؤتِ أُكله وفق ما يقرّ به الاحتلال نفسه. وتضع تلك النتيجة العدو أمام استحقاق التوجّه إلى الحرب الشاملة، أملاً في إعادة الاعتبار إلى «جوهرة الردع» التي تُقام عليها «مندبة» لا نهاية لها في وسائل الإعلام الإسرائيلية، هذه الأيام.