لا يمرّ وقت طويل، قبل أن يعود دونالد ترامب مجدّداً إلى قلْب الحدث السياسي في الولايات المتحدة، وكأنه وُجد لأداء دورٍ لا يجيده أحد مِثله، وهو استغلال أيّ هجوم ضدّه لمصلحته، كما هو حاصل في مسألة اتهامه رسميّاً في قضيّة ستورمي دانييلز. وهذه السابقة الأولى من نوعها في بلدٍ يتعمّق فيه الانقسام والاستقطاب السياسيان، لن تأتي كثيراً على حظوظ ترامب الساعي للعودة إلى البيت الأبيض، بل ربّما، وكما يقول كثيرون، ستعزّزها، لأنها ستُضخّم قائمة المتعاطفين معه، والذين لن يتوانوا، كما في عام 2021، عن نصرة رئيسهم، وإنْ اقتضى الأمر ما لزِم من فوضى باتت هي الأخرى تؤرّق الشارع الأميركي
يَمثل الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، اليوم، أمام المحكمة الجنائية في نيويورك، بعدما وُجِّهت إليه رسميّاً لائحة اتّهام في قضيّة دفْع مبلغ قيمته 130 ألف دولار لنجمة الأفلام الإباحية، ستورمي دانييلز، واسمها ستيفاني كليفورد، من أموال الحملة الانتخابية، قبل استحقاق عام 2016، لقاء سكوتها عن علاقة «غير شرعيّة» جمعتهما قبل 17 عاماً، في ما مثّل حدثاً غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة، إذا ما أَمكن استثناء فضيحة «ووترغيت» حين كاد الرئيس ريتشارد نيكسون يُحاكَم على خلفيّتها لولا قراره الاستقالة وتدخّل خَلَفه جيرالد فورد عبر إصدار عفو رئاسيّ عنه. ومع افتتاح محاكمة ترامب، الذي كان أصلاً واجه محاولتين لعزْله في الكونغرس، والهزّة التي أحدثها قرار هيئة المحلّفين الكبرى توجيه تهمة جنائية إليه، لا يزال من غير الواضح - وهذا الأهمّ - كيف ستكون عليه ردود الفعل، سواءً على المستوى السياسي، أو الأمني، في ظلّ تحذيرات لا يفتأ الرئيس السابق يكرّرها، من فوضى كبيرة مقبلة، شهدت الولايات المتحدة نموذجاً مصغّراً منها إبّان غزوة «الكابيتول» في 2021. وإلى حين تبلوُر الصورة في مقبل الأيام، أعلن المرشّح الجمهوري الطامح للعودة إلى البيت الأبيض في 2024، قراره التوجّه إلى المحكمة في مانهاتن، حيث «من المستحيل بالنسبة إليّ الحصول على محاكمة عادلة». وهناك، ستُتلى أمامه حيثيات قرار الاتهام، من دون أن يُصار إلى تكبيل يديه؛ ومن بعدها، ثمّة مساران يمكن أن يركن ترامب إلى أحدهما: فإمّا أن يقرّ بالذنب، وتدخل القضيّة في مساومة قانونية؛ وإمّا أن يرفض الاتهام الموجّه إليه، فيُصار إلى ترتيب الإجراءات لفتح محاكمةٍ قد لا تنطلق قبل سنة، أي عشيّة الانتخابات الرئاسية.
في هذا الوقت، سيعمل محامو ترامب لمحاولة إبطال اتّهامه، ربّما من خلال القول إن التحقيق يشوبه عيب إجرائي أو شكلي، فيما ينصّ المسار الطبيعي للعدالة على ثلاثة سيناريوات بعد لائحة الاتهام:
- إسقاط التهم؛ وهو إجراء شائع نسبيّاً، وقد يكون مرتبطاً خصوصاً بوصول مدّعٍ عام جديد (يقود التحقيق مدّعي عام نيويورك، الديموقراطي ألفين براغ)، ولكنّه غير مرجّح في حالة ترامب.
- يمكن المتّهم عقْد اتّفاق مع النيابة العامة، والموافقة على الاعتراف بالذنب لتجنّب المحاكمة والحصول على عقوبة أخفّ. لكن ذلك أيضاً غير مرجّح في حالة ترامب الذي يؤكد أنه لم يرتكب أيّ خطأ.
- ينظّم القضاء محاكمة، لكن يجب أوّلاً احترام العديد من الإجراءات مع جلسات استماع سابقة عديدة. ومرّة أخرى، قد يستخدم محامو ترامب كلّ الوسائل الممكنة لتأخير هذا الموعد النهائي.
على أن الراجح هو أن يرفض ترامب التهمة، بسبب ما يعتبره «اضطهاداً سياسيّاً» يمارَس ضدّه، فضلاً عن تشكيكه بنزاهة المدّعي العام الذي يقول إنه يقوم بـ«العمل القذر» لمصلحة الرئيس جو بايدن. وفي هذه الحالة، يجري أخذ بصمات المتّهم، ثمّ يتقدَّم فريق دفاعه بطلبٍ لاستئناف القرار، يتبعه أمر من القاضي بإخلاء سبيل المتّهم مقابل دفع كفالة مالية. وفي هذا الجانب، قال محامي ترامب، جيمس تراستي، في تصريح إلى شبكة «فوكس» الإخبارية الأميركية، إنه «بناءً على ما نتوقّع أن يكون عليه الاتّهام، ستشوبه ثغرات قانونية، وسيواجَه مبكراً بطلب ردّ مشروع». وتوجيه التهمة هذا، يمكن أن يمهّد الطريق أمام سلسلة متاعب قضائيّة أخرى: فترامب مستهدَف أيضاً بتحقيق حول إدارة محفوظات البيت الأبيض، وممارسة ضغوط انتخابية في ولاية جورجيا، فضلاً عن دوره في اقتحام «الكابيتول». لكن توجيه التهمة يمكن، في المقابل، أن يفيد المرشّح الرئاسي؛ إذ يرى جوليان زيليزر، الأستاذ في جامعة «برينستون»، أن «معظم المرشّحين للرئاسة كانوا سيشعرون بالهلع من تبعات مثل هذه القصّة - من العلاقة مع نجمة أفلام إباحية إلى نصّ اتهام -»، غير أن أحد أبرز مواهب ترامب «هو الاستفادة من الهجمات التي يتعرّض لها».
وسواء كان توجيه التهمة إلى ترامب خطوة لا بدّ منها كما يقول البعض، أو «حملة شعواء» بنظر البعض الآخر، فإن هذه السابقة التاريخية بالنسبة إلى رئيس أميركي، تلقي ضوءاً جديداً على الشقاقات الحزبية العميقة في الولايات المتحدة. ومع التصعيد القضائي الحاصل، تداعى ترامب مجدّداً إلى قلْب الساحة السياسية، في ما يُعدّ استمراراً لدوره في بلورة الانقسامات في هذا البلد، وتأجيجها في آن معاً. ومن إرهاصات ذلك الشرخ، أنْ سارع الجمهوريون من الجناح المؤيّد لترامب إلى التنديد بما وصفوه «اضطهاداً سياسيّاً»، و«فضيحة مطلَقة»، و«يوماً حزيناً لأميركا»، والتفّوا صفّاً واحداً حول مرشّحهم الضحيّة. وحتى خصمه لنَيْل ترشيح الحزب الجمهوري، رون ديسانتيس، الذي يُطرح اسمه بشكل متزايد لانتخابات 2024، هبّ لمؤازرته، مندّداً بتُهم «مخالفة لقيم أميركا»، فيما اكتفى الديموقراطيون، من جهتهم، بالترحيب بفتور بالإعلان، مؤكدين أن «لا أحد فوق القانون». وبحسب ويندي شيلر، أستاذة العلوم السياسية في جامعة «براون»، فإن «الرأي العام يَنظر اليوم إلى كلّ شيء من خلال الانقسامات السياسية». وقام ترامب نفسه بتأجيج هذه المشاعر، متّهماً الديموقراطيين على شبكته الاجتماعية «تروث سوشال»، بأنهم «أعداء الرجال والنساء الكادحين في هذا البلد... إنهم لا يستهدفونني أنا، بل يستهدفونكم أنتم، أنا في طريقهم لا غير». وتسهم تلك التصريحات في تدعيم نظريّة حصول «طلاق وطني» يروّج لها بعض منتسبي اليمين الجمهوري، مِن مِثل النائبة مارجوري تايلور غرين.
تُظهر استطلاعات الرأي أن ترامب سيفوز في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري بفارق كبير

ومع ذلك، هناك مَن يحذّر من المبالغة في تقييم أهميّة الانقسامات، على اعتبار أن المجتمع الأميركي شهد فترات من الانقسامات الأشدّ والأعمق: الحرب الأهلية، والمواجهات حول الحقوق المدنية، وصولاً إلى حرب فيتنام. لكن الفرق، برأي ويندي شيلر، أن «البلد أصبح اليوم أكثر تنوّعاً والتزاماً بالسياسة ممّا كان عليه في أيّ وقت مضي»، ولذا، «لا يمكن المقارنة بين ما يجري اليوم، وبين الوضع قبل 50 عاماً، حين كان الصمت مفروضاً على كثيرين». وإنْ كان توجيه التهمة إلى ترامب يعطي انطباعاً بأنه يعمّق الشرخ بين الأميركيين، فهو برأي روبرت تاليس، خبير الاستقطاب السياسي في جامعة «فاندربيلت»، «هدية سياسية لمديري الحملات وواضعي الاستراتيجيات في الحزبَين الكبيرَين»، إذ أوضح أن «توجيه التهمة يعطي الطرَفين فرصة لتأجيج مشاعر الاستنكار بين المواطنين».
في عام 2016، فجّر دونالد ترامب أكبر مفاجأة سياسية في التاريخ الأميركي الحديث بفوزه برئاسة الولايات المتّحدة، ثم غادر البيت الأبيض بعدها بأربع سنوات، وسط فوضى عارمة، وأصبح، اليوم، أوّل رئيس سابق توجَّه إليه تهمة جنائية. معتمداً على «حدس» لطالما تباهى به. سيحاول هذا الرجل الذي أعلنت وفاته السياسية مراراً، النهوض مرة أخرى من كبوته ليحارب، تحت قوس المحكمة في نيويورك هذه المرة، التّهمة الجنائية الموجّهة إليه، فيما لم يتخلّ عن مبدئه البسيط القائل: «إمّا أنّك معي وإمّا ضدّي». بنظر السناتور الجمهوري النافذ، ليندسي غراهام، «اشتغل مدّعي عام نيويورك أكثر من أيّ شخص آخر في الولايات المتحدة، لمساعدة دونالد ترامب في انتخابه رئيساً للولايات المتحدة»، فيما معظم استطلاعات الرأي ما زالت تُظهر أن الرئيس السابق سيفوز في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري بفارق كبير.