تتناسل أزمة إسرائيل، بينما تحبو الأخيرة بشِقّ الأنفس على آخر درجات السلّم لتبلغ عقْدها الثامن بأقلّ الخسائر. العقد، الذي يُخشى من أن يكون موصوماً بالخراب واللعنة، بدأت تتظهّر معالمه في مزيجٍ من الأزمات الداخلية المتفاقمة، والانقسام المتعمّق بين «الأسباط». انقسامٌ يقف على أحد طرفَيه اليهود «الأشكناز» الذين هيمنوا على «المعبد» بكامل مؤسّساته وقطاعاته طوال العقود الماضية، وعملوا على غسل الاحتلال كما تُبيَّض الأموال «السوداء»، ليظلّ القتل «العقلاني» مقبولاً لدى «الديموقراطيات» الغربية. وأمّا على طرفه الآخر، فاليهود الشرقيون الذين صعدوا وتعاظموا من داخل البقع المهمَّشة والمساحات الدونية، حتى استطاعوا حسْم الصراع لصالحهم في الانتخابات الأخيرة، ووصلوا، للمفارقة، تحت قيادة زعيم «أشكنازي» عريق يُدعى بنيامين نتنياهو، إلى سدّة الحكم، ليبدأ تنفيذ سياساتهم ومخطَّطاتهم الأيديولوجية، مستغلّين حاجة رئيس الحكومة إليهم، انطلاقاً من أزمته كسياسيّ تلاحقه تهم الفساد وخيانة الأمانة، وكيميني لا يختلف كثيراً عنهم. ولعلّ ما قاله أحد مراسلي «القناة 14» الإسرائيلية أخيراً، ومفاده أن «هذه أوّل ثورة (في إسرائيل) للأغنياء على الفقراء»، هو أبلغ تعبير يختصر ما يجري في الكيان، بصرف النظر عن أنه لا ينطلق في الواقع من مسوّغات اجتماعية - اقتصادية حصراً. لكن الأزمة العميقة التي منحها نتنياهو «عطلة»، بإعطاء الإسرائيليين حقنة مُهدّئة من طريق تجميد خطّة «الإصلاحات القضائية» عقب التظاهرات وإضرابات القطاعات الحيوية التي كادت تشلّ الكيان بالكامل، لم تنحصر في الداخل، بل ما فتئت تنعكس على علاقات إسرائيل مع أعظم حلفائها: الولايات المتحدة، التي أعلن رئيسها، جو بايدن، صراحة، أنه «لن يدعو نتنياهو قريباً لزيارة البيت الأبيض». إعلانٌ أضيف إلى حقيقة أن بايدن نفسه لم يخُض محادثة مع رئيس الحكومة الإسرائيلية قُبيل التطوّرات الأخيرة؛ إذ اكتفى، عقب إقالة وزير الأمن، يوآف غالانت، بالتبليغ عن موقفه برسالة مع سفير بلاده لدى تل أبيب، والذي كان نفسه مَن أثار اللغط عندما أعلن أن «نتنياهو سيزور البيت الأبيض قريباً». أمّا ردّ نتنياهو فكان حازماً تجاه الإدارة التي تتجاهل دعوته منذ تنصيبه قبل ثلاثة أشهر؛ إذ قال إن «إسرائيل هي دولة مستقلّة تتّخذ قراراتها وفقاً لإرادة مواطنيها وليس على أساس ضغوط خارجية، ومن ضمنها من جانب أفضل أصدقائنا». وأضاف في تغريدة على صفحته الرسمية في موقع «تويتر»: «أعرف الرئيس بايدن منذ أكثر من 40 عاماً، وأنا أُقدّر التزامه لإسرائيل منذ سنوات طويلة. الحلف بين إسرائيل والولايات المتحدة صامد وتَغلّب دائماً على خلافات الرأي التي تنشأ بيننا بين حين وآخر. والحكومة برئاستي ملتزمة تعزيز الديموقراطية بواسطة إعادة التوازن اللائق بين السلطات الثلاث، والذي نتطلّع إلى تحقيقه بتوافق واسع».
في المقابل، اعتبر زعيم المعارضة، يائير لبيد، أن «إسرائيل كانت طوال عشرات السنين الحليف الأقرب للولايات المتحدة، فيما الحكومة الأكثر تطرّفاً في تاريخ الدولة أفسدت (هذه العلاقة) خلال ثلاثة أشهر». وتقاطَع ذلك مع ما قاله رئيس «المعسكر الوطني» ووزير الأمن السابق، بيني غانتس، من أن «الرئيس بايدن أرسل الليلة الماضية (الثلاثاء - الأربعاء) دعوة عاجلة للاستيقاظ إلى الحكومة الإسرائيلية»، وأن «المسّ بالعلاقات مع الولايات المتحدة، صديقتنا الأفضل وحليفتنا الأهمّ، هو ضرر إستراتيجي». وعلى هذا الأساس، طالب غانتس، نتنياهو، بـ«إصدار تعليمات لطواقمه التي تُفاوض حول التشريعات القضائية، بالعمل بسرعة من أجل تصحيح الوضع والحفاظ على الديموقراطية الإسرائيلية التي هي في أساس هذه القيم»، مضيفاً أن على رئيس الحكومة «التصرّف بمسؤولية سياسية وأمنية، والإعلان فوراً أن الوزير غالانت سيبقى في منصبه، وأن يصادر الصلاحيات الأمنية من الوزير سموتريتش وألّا يسمح بانفلات الوزير بن غفير».
أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، صراحة، أنه «لن يدعو نتنياهو قريباً لزيارة البيت الأبيض»


أمّا هذا الأخير فـ«شطح» بعيداً؛ إذ قال في مقابلة مع «إذاعة الجيش الإسرائيلي» إن على الأميركيين أن «يستوعبوا أن إسرائيل هي دولة مستقلّة وليست نجمة أخرى في العلم الأميركي. وينبغي أن يكون واضحاً في جميع أنحاء العالم أن الشعب هنا ذهب إلى انتخابات وأن لديه إرادته الخاصة به». وعلى الرغم من أن وزير التربية والتعليم، يوآف كيش، «احترم» موقف الرئيس الأميركي، إلّا أنه شدّد على أن «إسرائيل هي دولة ذات سيادة وقراراتها تُتّخذ هنا»، فيما لم يتأخّر وزير الثقافة، ميكي زوهر، عن المشاركة في الدراما السياسية، معتبراً أن بايدن «سقط ضحية أخبار مضلّلة نُشرت في إسرائيل ضدّ إصلاحنا القضائي العادل»، وذلك قبل أن يحذف تغريدته، «انطلاقاً من الاحترام لعلاقاتنا الهامّة مع حليفتنا الأكبر، الولايات المتحدة» كما قال. وفي الإطار نفسه، رأى وزير الشتات، عميحاي شيكلي، أن «إسرائيل هي دولة ذات سيادة. وبالإمكان توجيه انتقادات، لكن الذي يقرّر مَن يقود الدولة هو الشعب، والشعب فقط بواسطة منتخِبيه، كما هو الحال في أميركا».
وكشفت حدّة التصريحات هذه، طبقاً للمحلّل السياسي في صحيفة «هآرتس»، يوناتان ليس، أن المعنيّين في ديوان نتنياهو «فوجئوا» من تصريحات بايدن، وتأكيده عدم دعوة الأوّل قريباً لزيارة البيت الأبيض. إذ كانت أوساط رئيس الوزراء الإسرائيلي قد قدّرت بأن التوتّر الحاصل حول الانقلاب القضائي «بات تحت السيطرة»، ربطاً بتصريح السفير الأميركي لدى إسرائيل، توم نايدس، الذي قال إن «نتنياهو سيُدعى إلى البيت الأبيض بعد عيد الفصح». غير أن الرسائل التي صدرت أخيراً من واشنطن «تفاقمت تدريجياً» بحسب ليس، انطلاقاً من التوضيح بأن «نتنياهو سيزور واشنطن في مرحلة ما»، وصولاً إلى تصريحات بايدن التي وُصفت بـ«المهينة». ورأى المحلّل أن كلام الرئيس الأميركي «عكس خشية الإدارة الأميركية من أن نتنياهو لا يسيطر على حكومته، إنّما يُدار عبر الجهات المتطرّفة فيها، وأن خطّة الثورة القضائية لم تُسحب من جدول الأعمال، بل جُمّدت لضرورات تكتيكية». ولذلك، بحسبه، فإن «الإدارة الأميركية تَعتبر أنه يجب كبح نتنياهو، الذي فضّل إقالة وزير الأمن وإقامة حرس وطني في ذروة شهر رمضان». وفي الاتّجاه نفسه، شبّه المراسل العسكري لموقع «واللا»، باراك رابيد، عدم رغبة بايدن في استقبال نتنياهو بأنه مِثل «امتناع البيت الأبيض عن استقبال وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان»، وهو ما يؤشّر بحسبه إلى «القلق الكبير لدى البيت الأبيض تجاه خطّة الإصلاحات القضائية». ونقل رابيد عن مصدر إسرائيلي قوله إن إدارة بايدن «بدأت تدرك الوضع الحقيقي منذ زيارة وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، لإسرائيل قبل أسابيع عدّة، عندما اضطرّ إلى لقاء نتنياهو وغالانت في مطار بن غوريون بسبب الاحتجاجات على الخطّة القضائية»، مضيفاً أن ما حصل «ذكّر الأميركيين بزياراتهم إلى العراق».
وعلى إثر كلّ هذه «الحفلة»، وبعدما «فات القطار»، أوعز نتنياهو إلى وزرائه بـ«عدم التعقيب على تصريحات الرئيس الأميركي»، قائلاً، في بيان أصدره مكتبه، إنه «لا شيء يمكن أن يؤثّر في العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتحالف بين الطرفَين لا يتزعزع».