أكمل الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، مصالحاته مع كلٍّ من الإمارات والسعودية وإسرائيل، في شتاء عام 2022. لكن المفاجأة كانت، بعد انتظار دامَ بضعة أشهر، أن «العون» المالي العربي لم يؤثّر في اتّجاه وقْف تراجع شعبيّته، كما لم تَقُد واشنطن أيّ مبادرة لتخفيف الضغوط الاقتصادية التي تمارسها على أنقرة. في هذا الوقت أيضاً، كان ملفّ اللاجئين السوريين يضغط أكثر على السلطة المتّهَمة من جانب معارضيها بأنها تميل إلى خيار إبقاء اللاجئين على حساب لقمة عيش المواطن التركي، من أجل حسابات انتخابية، واستمرار ابتزاز أوروبا بهؤلاء، في مقابل الحصول على المال. ولكن سرى اعتقاد بأن الاقتصاد قد ينتعش بعض الشيء في حال تيسّر مسار التطبيع مع سوريا، بحيث يَخرج إردوغان من صورة المعرقل لعودة اللاجئين. وعلى هذا، خرج وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، في 6 آب 2022، ليتحدّث عن رغبة بلاده في المصالحة، وهو ما تلاه تصريح للرئيس التركي في الاتّجاه نفسه. وشكّل الإعلان الآنف مفاجأة لكثيرين، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة إلى روسيا التي ظَهر أنها تدفع بمِثل هذه المصالحة بين تركيا وسوريا، للتخفُّف من عبء الملفّ السوري في غمرة انشغالها وتركيزها على الحرب ضدّ «حلف شمال الأطلسي» في أوكرانيا.قابلت دمشق الموقف التركي المستجدّ بحذر شديد، وبصمت استمرّ أياماً. ومِن بَعدها، أكدت أنه ليس لديها أيّ حسابات أو اعتبارات شخصية في التعامل مع أنقرة، وأنه إذا اقتضت مصلحة البلدَين، وفق الرئيس بشار الأسد، فليس من مانع حتى للقاء بينه وبين إردوغان. ومع ذلك، مرّت خمسة أشهر إلّا قليلاً من دون أن تَظهر علامات على جديّة الجانب التركي؛ فمن جهة، لم يقدّم هذا الأخير أيّ مقترح ملموس ومفصّل وواضح في شأن خططه للمصالحة مع نظيره السوري؛ ومن جهة ثانية، فإن ملفّاً شائكاً ومعقّداً كذاك لم يُطرح إلّا قبل وقت قصير من الانتخابات الرئاسية التركية التي كان من المقرّر أن تَجرى في 18 حزيران 2023، فكيف يمكنه بالتالي أن يسلك ولو تدريجيّاً في هذه المدّة القصيرة؟ من هنا، برزت شكوك في كون تركيا تَطرح فكرة المصالحة، من الأساس، من أجل توظيف أيّ لقاء بين الأسد وإردوغان على طريقها، لتعزيز حظوظ هذا الأخير في انتخابات الرئاسة ليس إلّا، انطلاقاً من رهان - ربّما كان لديها - على أن سوريا التي تعاني حصاراً وضائقة اقتصادية ستكون مستعدّة للتجاوب مع الرغبة التركية، ولو في حدّها الأدنى، وخصوصاً في ظلّ وجود ضغوط روسية عليها. وفي هذا المجال، يقدّر البعض أن إردوغان لم يكن ليضطرّ إلى الانفتاح على سوريا، لو أن استطلاعات الرأي بعد المصالحات مع السعودية والإمارات وإسرائيل عكست تحسُّناً في شعبيّته.
بات واضحاً أن المصالحة مع سوريا ستكون مؤجَّلة إلى ما بَعد الانتخابات الرئاسية


على أيّ حال، وعلى رغم كلّ الملاحظات على المواقف التركية، كانت دمشق تبدي تجاوباً مع فكرة المصالحة، وهي لم تمانع إعطاء نفسها فرصة لسبر نيّات أنقرة، ومعرفة ما إذا كانت جديّة أو لا. إلّا أنه عقب اجتماع وزراء دفاع كلّ من سوريا وتركيا وروسيا في موسكو، في 28 كانون الأوّل الماضي، والذي وصفتْه الأطراف كلّها بـ«الإيجابي»، ظهر أن هناك تعثّراً في هذا المسار، وهو ما تُرجم في عدم انعقاد لقاء آخر، لا على مستوى وزراء الدفاع ولا على مستوى وزراء الخارجية، ومن ثمّ إلغاء اجتماع كان سيُعقد في العاصمة الروسية، يومَي 15 و16 آذار، على مستوى نواب وزراء خارجية الدول الأربع، على رغم ما أثاره الحديث عن ذلك الاجتماع من تساؤلات من بينها حول ما يتّصل بكيفية انتقال التنسيق من وزراء الدفاع، إلى نواب وزراء الخارجية، وليس مثلاً إلى وزراء الخارجية. أمّا الخبر اليقين فجاء من الرئيس السوري نفسه، الذي قال، على هامش زيارته لموسكو قبل أيام، إن أيّ لقاء مع إردوغان لا معنى له إذا لم يرتبط بشرط الانسحاب التركي الشامل من سوريا، والقضاء على الجماعات الإرهابية. وأنبأ الموقف المتقدّم باعتقاد دمشق أن الرئيس التركي أراد «صورة» اللقاء مع الأسد، كورقة اقتراع انتخابية قويّة لمصلحته، وأنه ليس ثمّة سبب للوثوق بأنقرة «حتى في ظلّ وجود ضمانات روسية وإيرانية»، لأن أحداً «لا يضمن إردوغان لعدّة أيام»، كما قال الرئيس السوري. من هنا، بدا أن فعالية الضغط الروسي على تركيا للتنازل في الملفّ السوري تقف عند حدود أولويّة حاجة موسكو إلى أنقرة في الصراع الدائر على الأراضي الأوكرانية ضدّ الغرب.

المعارضة بديلاً؟
اليوم، لم يتبقّ على الانتخابات الرئاسية سوى شهر ونصف شهر، فيما بات واضحاً أن المصالحة مع سوريا ستكون مؤجَّلة إلى ما بَعدها، وبالتالي مرتبطة بنتائجها. فإذا بقي إردوغان في السلطة - وقد يبقى -، فهو سيَعدّ ذلك انتصاراً على كلّ العالم المعادي له، وفي الحالة السورية، يُحتمل أن يشدّد موقفه من شروط السلام، وإنْ بات محسوماً أن هذا الأخير لن يتمّ من دون انسحاب الجيش التركي، وضرْب الجماعات الإرهابية، وتوقيع اتّفاق أمني متوازن (أو تعديل «اتفاق أضنة» الذي لا يؤمّن بصيغته الحالية توازناً كهذا، بالنظر إلى أن التهديد كان، على مدى الأعوام الـ 12 الماضية، من الداخل التركي في اتّجاه سوريا وليس العكس)، بينما من دون تحقيق هذه الشروط، ستستمرّ الأزمة، ومعها معضلة اللاجئين، واحتمالات التفجير العسكري، مع ما تستبطنه من انعكاسات على تركيا. أمّا إذا فازت المعارضة، فإن المشهد قد يكون مختلفاً، على اعتبار أن هذه الأخيرة أبدت استعدادها للحوار مع سوريا حول مسألتَي الانسحاب واللاجئين، واللقاء مع الأسد، وإقامة «أفضل العلاقات» مع دمشق، وهو ما تستمرّ في إعلانه على رغم دأْب المنابر الموالية للحكومة على وصْف المعارضة بـ«الأطلسية» الهوى، بهدف تخويف الحكومة السورية منها، على ما يبدو.