في وقت كانت تتعايش فيه المنطقة مع احتمالات تصعيد عسكري إسرائيلي مرتقب ضدّ إيران، و«اختراق» دبلوماسي محتمَل بين الرياض وتل أبيب، جاء مسار الأحداث في اتّجاه معاكس، مع الإعلان عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران. حفاوة إيران بما وصفتْه بـ«الزلزال السياسي لأميركا»، قابلها موقف أميركي، تَراوح بين القلق والترقُّب. موقفٌ بدا منزعجاً من دور الوساطة الصينية في تخريج الاتفاق، أكثر من انزعاجه من الاتفاق في ذاته، ولا سيما أن إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، كانت قد روّجت لصيغة هي أقرب إلى «التحاصص الإقليمي» بين الغريمَين. بداهةُ التعليقات الغربية على الإعلان السعودي - الإيراني حذّرت من «تداعيات واسعة النطاق»، باعتباره مؤشّراً إلى «تغيُّر قواعد اللعبة» في ظلّ تنامي النفوذ الإقليمي لبكين، من ناحية، وتراجُع أهمّية الشرق الأوسط على سُلّم الأولويات الأميركية، من ناحية ثانية. وفي استعراضها لعوامل نجاح الدبلوماسية الصينية في التقريب بين قوّتَين إقليميَّتين، تتحاربان بالوكالة في أكثر من ساحة على نطاق الشرق الأوسط، استندت تلك التقديرات إلى «نقطتَي تفوّق فريدتَين» تتمتّع بهما بكين، ولا تتوفّران لدى واشنطن، وهما تتمثّلان أساساً في علاقات «الدولة الشيوعية» الجيّدة بكلٍّ من المملكة والجمهورية الإسلامية، إضافة إلى عدم اكتراثها بشكل النظام السياسي للدولتَين، أو السجلّ الحقوقي لكليهما. ولفَهم الدوافع الصينية، يرى موقع «ستراتفور» أن الصين استفادت من نهجها الخارجي «غير التدخّلي» عموماً في الشؤون الداخلية للدول الأخرى لحساب الدفع بأجندتها التجارية، وعَمدت إلى توظيفها في دينامية جديدة في إطار مساعيها لتعميق علاقاتها الثنائية مع دول المنطقة، عبر جهود دبلوماسية نشطة، من جهة، وتوسعة نشاطها الاستثماري عبر آسيا الوسطى وأفريقيا والشرق الأوسط، عن طريق تشجيع رجال الأعمال الصينيين على التوجّه إلى تلك الأسواق، من جهة أخرى، كجزء من مبادرة «الحزام والطريق» التي أطلقها الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في عام 2013. ويشير الموقع الاستخباري إلى أن المصالح الصينية الكامنة في تعزيز التقارب السعودي - الإيراني، تتعلّق برغبة حكومة هذا البلد في تعزيز مناخات الاستقرار في الشرق الأوسط على نحوٍ يمكّنها من تلبية احتياجاتها المتزايدة من الطاقة بشكل موثوق، فضلاً عن عزمها على تكريس حضورها الإقليمي بصورة أكبر، في مقابل النفوذ الأميركي. ويرى الموقع أن من شأن عودة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية أن تمهّد الطريق نحو مزيد من الانخراط الصيني في الملفّات الإقليمية من خلال تأكيد بكين أن في إمكانها القيام بدور مساعد في معالجة التحدّيات التي تعصف بدول المنطقة، وهي تحدّيات أَثبتت الولايات المتحدة أنها غير راغبة أو غير قادرة على التصدّي لها، في إشارة إلى تردّد واشنطن في الإيفاء بالتزاماتها حيال أمن حلفائها الخليجيين.
قد يكون لدى الحكومة الصينية اقتناع بأن تحدّي الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط بات أمراً ممكناً


وعن التداعيات الجيوسياسية للاتفاق، يرى كبير المحلّلين في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في مركز «Verisk Maplecroft» للدراسات، تورب غورن سولفيدت، أن الدور الصيني في تقريب وجهات النظر بين طهران والرياض «من شأنه أن يعزّز نفوذ بكين في الخليج». ويدعم سولفيدت حجّته من خلال الإشارة إلى تحوُّل الصين، خلال الأعوام الأخيرة، إلى «نقطة الجذب الرئيسة» لصادرات دول الخليج من الطاقة، لافتاً إلى أن «العام الجاري شهد مؤشّرات إلى نيّة الجانب الصيني الاستفادة من تلك التطوّرات بهدف تعزيز حضوره في المنطقة، دبلوماسياً، وتجارياً على حدّ سواء». وفي تحليل يورده «المجلس الأطلسي» للبحوث، فإن ما جرى «يشي بوجود استعداد صيني للقيام بدور أكبر، وأوسع في المنطقة»، ويعكس «ثقة صينية متزايدة» في منطقة الشرق الأوسط. ويرى المجلس في الاتفاق الإقليمي الجديد «نصراً دبلوماسياً للصين»، يستبطن دلالات على «ابتعاد الأخيرة عن نهجها الدبلوماسي المعتاد في القضايا الدولية والإقليمية (نهج يفتقر إلى عنصر المبادرة)»، محتمِلاً أن «يكون لدى الحكومة الصينية اقتناع بأن تحدّي الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط بات أمراً ممكناً».
وبخصوص الموقف الأميركي الرسمي من الاتفاق المذكور، يعتقد الباحث في «معهد دول الخليج العربية»، حسين آيبش، أن المستجدّات الحاصلة على مستوى العلاقات الإيرانية - السعودية، برعاية صينية، سوف تسهم في توتير العلاقات المتوتّرة أصلاً بين واشنطن والرياض. ومع ذلك، يرجّح أن تَنظر إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى تلك المستجدّات نظرة إيجابية، لناحية انعكاساتها المتوقّعة على مستوى تهدئة التوتّرات الإقليمية، وذلك على اعتبار أن واشنطن «تقيّم إيجاباً، وبصورة عامّة، أيّ إجراء من شأنه خفْض التوتّرات بين إيران والدول العربية الخليجية». في المقابل، بدت علامات القلق واضحةً في ردود فعل بعض السياسيين الأميركيين المخضرمين إزاء تصاعد الدور الصيني في الشرق الأوسط، ومن هؤلاء نائبة الرئيس التنفيذي لشؤون الدراسات السياسية في «مركز التقدُّم الأميركي»، مارا رودمان، التي ترى أن «الاتفاق الأخير بين الرياض وطهران هو بمثابة تذكير بأن التنافس (الصيني - الأميركي) إنّما يدور على المسرح العالمي ككلّ، وبأنه تنافس لا يقتصر، بأيّ حال من الأحوال، فقط على منطقة المحيطَين الهندي والهادئ». وبحسب رودمان، التي شغلت منصب المبعوث الخاص لشؤون الشرق الأوسط خلال عهد الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، فإن التطوّرات الإقليمية تُظهر أن التنافس بين الصين والولايات المتحدة بات يشمل كلّ جوانب الاقتصاد والأمن والدبلوماسية.
وعن العلاقة بين التباينات الأميركية - السعودية، والدور الصيني المستجدّ، تلحظ صحيفة «نيويورك تايمز» تحوّلات جديّة في أدوار الفاعلين الدوليين في الشرق الأوسط، لافتة إلى أن الولايات المتحدة، ذات النفوذ التقليدي الوازن في المنطقة، تجد نفسها اليوم مهمّشة، ولا سيما من قِبَل حلفائها التقليديين في السعودية، على خلفية تمنّعها عن منْح حليفتها الخليجية ما طلبتْه، سواء على صعيد الضمانات الأمنية، وتزويدها بالمعدّات العسكرية من دون شروط، أو على صعيد دعمها لبناء مشروع نووي خاص بها. في المقابل، تَحوّل الصينيون، المعروفون بأدوارهم الثانوية، إلى «اللاعب القوي الجديد» على الساحة الإقليمية، مدفوعين برغبة وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، في تطوير علاقات الرياض مع بكين، والانضمام إلى «منظّمة شنغهاي للتعاون»، كردّ على محاولات واشنطن تهديده بعقوبات عقب تقاربه مع الصينيين والروس، وفق الصحيفة. وتخلص «التايمز» إلى أن التحوّلات المُشار إليها «تعكس كيفيّة ركون حلفاء واشنطن إلى تدشين انعطافتهم نحو الصين»، متسائلة عمّا إذا كان الأمر ينطوي على تهديد للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط، مع الجزم بأن «النظام الإقليمي يتغيّر». وفي الاتجاه نفسه، يذهب السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل ومصر، دانيال كيرتزر، إلى حدّ القول إن الاتفاق بين السعودية وإيران «يعبّر عن مدى براعة الصينيين في توظيف الغضب السعودي من واشنطن». أمّا الباحث المتخصّص في دراسات الشرق الأوسط في «مجلس العلاقات الخارجية»، ستيفن كوك، فيلمّح إلى أن الأمر ينطوي على خطورة ومجازفة، معتبراً أن محاولات وليّ العهد السعودي مساومة واشنطن، من خلال التودّد إلى بكين «قد ترتدّ سلباً عليه».