على أشدّها تبدو المعركة الداخلية الإسرائيلية، وسط تصعيد متدرّج من قِبَل المعارضة ضدّ حكومة بنيامين نتنياهو، وجنوح متزايد لدى الأخيرة نحو قمْع مُناوئيها، في الوقت نفسه الذي تمضي فيه في طريق إحداث تغييرات جذرية في نظام الحُكم من شأنها أن تَنقل إسرائيل من ضفّة إلى أخرى. وإذ يَظهر، وفقاً للاحتساب المنطقي للمقدّمات والنتائج، أن الكيان العبري مقبلٌ على حالة من الاحتراب الأهلي، فإن دون الانتقال إلى ذلك المصير مسافةً معتدّاً بها، قد يقتنع خلالها أطراف الانقسام بضرورة التنازل لبعضهم البعض قبل أن ينهار الهيكل على رؤوس الجميع. لكن إلى الآن، وعلى رغم تصاعد التحذيرات من «أنّنا نمرّ بأزمة عميقة وخطيرة تُهدّدنا جميعاً»، وفق توصيف يتسحاق هيرتزوغ، ومع أن استطلاعات الرأي تُظهر أن أكثر من نصف مَن صوّتوا لصالح نتنياهو يعارضون خطّة حكومته لـ«الإصلاح القضائي»، لا يزال الائتلاف الحاكم مصرّاً على استكمال هذا المسار الذي تتكشّف، يوماً بعد يوم، المزيد من معالمه «الكارثية»، ومن بينها مثلاً منْح المحاكم «الحاخامية» مكانة مُوازية لتلك التي تحوزها المحاكم المدنية، بما يشكّل موجة كبرى من موجات «التسونامي المصمَّم لتعزيز الإكراه الديني». وأيّاً كان ما ستؤول إليه هذه المواجهة، فالأكيد أن ما بَعد حكومة نتنياهو - بن غفير - سموتريتش، لن يكون كما قَبلها، وأن تخلخُل التماسك المجتمعي وصل إلى مرحلة لم يَعُد معها من الممكن إخفاؤه أو تطنيشه
في أحْدث تعليقاته على احتدام الأزمة الداخلية وتعمُّق الانقسام السياسي والاجتماعي والتهديدات التي بات ينطوي عليها، أعاد الرئيس الإسرائيلي، يتسحاق هرتسوغ، توجيه البوصلة من جديد، مُحذّراً الإسرائيليّين بقوله: "دولة إسرائيل، والمجتمع الإسرائيلي، كلّنا نمرّ بوقت عصيب من أزمة داخلية عميقة وخطيرة تُهدّدنا جميعاً، إذ إنها تُهدّد صمود إسرائيل وتضامنها الداخلي". لا يعني التحذير، بالضرورة، حتميّة الإيال إلى ذلك المصير، لكن في المقابل لا يمكن القول إن شيئاً اعتيادياً يحدث في شوارع تل أبيب والقدس المحتلّة وغيرهما من المدن والمستوطَنات، حيث حركة الاحتجاجات المتواصلة تُعيد كشْف واقع اجتماعي ربّما ظنّ الإسرائيليون أنهم تجاوَزوه، وهو الانقسام المبنيّ على خلافات يتعذّر إنهاؤها، والآن يَصعب القفز على تداعياتها السلبية. والجدير ذكره، هنا، أن التركيز على العنوان الرئيس والمباشر للتظاهرات والمواجهات، والمتمثّل في تعديل صلاحيات القضاء، قد يحجب جوانب أكثر أهمّية من بين ما تميط الاحتجاجات اللثام عنه. وفي ذلك، يُشار إلى الآتي:
أوّلاً: جميع المقدّمات الحاصلة تنبئ، وفق الربط المنطقي بين الأسباب والنتائج، بإمكانية أن تنزلق إسرائيل إلى احتراب داخلي، لكن الجزم بحتميّة حدوث ذلك يبدو ضرباً من المبالغة. إذ ما بين الواقع الحالي كما هو بتعقيداته وتداخلاته، وما بين الوصول إلى الحرب الأهلية، مسافة معتدّ بها قد يتمكّن خلالها الإسرائيليون من تجاوُز "القطوع"، بعد أن يتلمّس الأطراف على اختلافهم أن التهديد بات ساخناً جدّاً، ومن شأنه أن يَهدم الهيكل على مَن فيه.
ثانياً: استبعاد الاحتراب الداخلي لا يعني أن الأمور قد لا تصل إلى أعتاب الاحتراب، وأن "الدم اليهودي" لن يُراق بهذا القدر أو ذاك. فالانقسام حادّ ومشبَع بإرادة الإضرار بالآخر، وهو ما لا يمكن حجْبه أو التعامي عنه، بل إن هذه الإرادة باتت بوصْفها مطلباً ومصلحة، عنواناً رئيساً للانقسام الحاصل، الذي يميّزه أيضاً أنه ليس انقساماً ثُنائياً، بل هو رُباعيّ أو يزيد.
المعركة في إسرائيل، وإنْ كانت تحمل عنوان السلطة القضائية، ليست مقصورة على ذلك


ثالثاً: على رغم أن أيّ تعديل في صلاحيات القضاء وتشكيلاته وكيفية تعيين قُضاته، يوجب ولادة معارضة في الدول الديموقراطية السويّة، إلّا أنه في إسرائيل يستدعي معارضة أكثر من مضاعَفة، لعدّة أسباب على رأسها ما يلي:
1- ثمّة رئيس حكومة، وهو بنيامين نتنياهو، يضع على رأس جدول اهتماماته، التملّص من محاكمته بتُهم فساد ورشى. وهو مستعدّ لغاية إسقاط هذه التُهم عنه، لأن يَخضع لابتزاز شركائه، الذين يطالبون بتحقيق أجندة خاصة بهم، تُخالف في شكلها ومضمونها أيّ ديموقراطية.
2- 13 في المئة من اليهود الإسرائيليين هم من "الحريديم" أو المتديّنين الأرثوذكس، وهم يزيدون قليلاً بعد إضافة اليهود المتديّنين الصهاينة إليهم، وهؤلاء يريدون من نتنياهو جدولاً مليئاً بالمطالب والتشريعات مقابل تمكينه من نيل الحصانة.
3- خضع رئيس الحكومة إلى الآن للابتزاز، ووقّع مع المبتزّين اتّفاقات تُعطيهم ما يريدون، وهو يعمل حتى الساعة على تنفيذ هذه الالتزامات، ومن بينها تعديل صلاحيات القضاء ومنْعه من إبطال قوانين وإجراءات "مخالِفة للديموقراطية وحقوق الإنسان ومصلحة إسرائيل الأمنية والقومية وصورتها الدولية ومكانتها".
4- لدى "الحريديم" شهيّة كبيرة لفرض الأحكام الدينية والمعاقبة على مخالفتها، إضافة إلى تحصيل الفائدة المادّية والمساعدات ومنْع التجنيد وغير ذلك من مطالب يجدون أن لديهم الآن فرصة مثالية لتحقيقها. أمّا أحزاب "الصهيونية الدينية"، فشهيّتها مفتوحة لترجمة أيديولوجيّتها الفاشيّة أفعالاً ضدّ الفلسطينيين، عبر شرعنة التجاوزات والاعتداءات بحقّهم حتى لو كانت مخالِفة لأبسط حقوق الإنسان، وإلى الحدّ الذي يمكّن من إسقاط هويّة هؤلاء الإنسانية وفعْل أيّ شيء بهم وبأملاكهم.
5- تَلاقي المصالح مكّن الحكومة الحالية من القيام، لكن مع شرط التزام نتنياهو بما اتُّفق عليه، وفي المقدّمة منْع القضاء من التدخّل في قوانين الائتلاف ومقرَّراته، مهما كانت مناقِضةً للعقد الاجتماعي في إسرائيل، ممّا هو مكتوب أو غير مكتوب، وهو ما يثير معارَضة شرسة من قِبل غالبيّة الإسرائيليين، سواءً كانوا تقليديين أو علمانيين.
6- الضرر الناجم عن أداء الحكومة لا يتعلّق بالغير، أي غير اليهودي - وإلّا لكان المشهد مختلفاً -، بل باليهود أنفسهم، وهو ما لا يُطاق لدى الغالبية التي لا تريد سنّ قوانين في "الكنيست" تَفرض أحكام الشريعة اليهودية عليها، مع المعاقبة على مخالفتها. كما أنها لا تريد استفزاز الفلسطينيين إلى الحدّ الذي يَدفع نحو مواجهات على خلفيّة رؤية مسيحانية ترى من واجبها طرْد الفلسطينيين وسلْب ممتلكاتهم - في ظروف غير ملائمة لتحقيق هذا الهدف من وُجهة نظر المعارضين -، إضافة إلى استبطانها أطماعاً أخرى ترتبط بالهويّة اليهودية والتمييز بين اليهود.
رابعاً: اللافت أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن أكثر من خمسين في المئة مِمَّن صوّتوا لنتنياهو، يعارضون التعديل في النظام القضائي، في ما يمثّل نسبة معتدّاً بها كثيراً، وكفيلة بالتأكيد أن معظم الإسرائيليين يعارضون خطّة التعديل القضائي، خاصة في ما يتعلّق بتمكينها المتديّنين، في الاتّجاهَين "الحريدي" و"الديني الصهيوني"، من فرْض طُرق عيش وأيديولوجيّة متطرّفة على بقيّة اليهود الإسرائيليين.
إذاً، هي معركة بين أقلّية يهودية ذات أجندات خاصّة بها، تحالفت في ظرف مؤاتٍ مع رئيس حكومة مأزوم ومستعدّ ليكون موضع ابتزاز لتحقيق مصالحه الخاصّة، وبين غالبية يهودية لا تريد التعديل القضائي لأنه يمكّن الأقلّية من فرّض إرادتها على الغالبيِة من دون رادع أو مانع، متمثّل الآن في صلاحيات "المحكمة العليا". وهكذا، يَظهر أن التهديد كبير جدّاً على التركيبة وعلى "الستاتيكو" اللذَين مكّنا إسرائيل، على رغم خلافاتها الداخلية وانقساماتها، من البقاء والاستمرار.
على أن المعركة في إسرائيل، وإنْ كانت تحمل عنوان السلطة القضائية، ليست مقصورة على ذلك، بل هي معركة على خلفيّة الانقسام المجتمعي، وسعي أحد طرفَيه إلى ضرْب الصيغة المعمول بها إلى الآن، والتي أدارت الاشتباك المجتمعي بنجاح طوال السنوات الماضية. وبنتيجة هذه المعركة، إمّا تتمّ العودة إلى الصيغة القديمة ويُمنع المسّ بها، أو تنزلق الأمور إلى مواجهة أكبر يتعذّر تقدير مآلاتها من الآن.