في وقت عادت فيه أنظار العالم لِتَتركّز مجدّداً على أوكرانيا، مع مشارفة الحرب هناك على دخول عامها الثاني، وفي ظلّ ترقُّب مصير مدينة باخموت الصناعية، برز حديث لرئيس مجموعة «فاغنر» شبه العسكرية الروسية، يفغيني بريغوجين، لام فيه «البيروقراطية العسكرية» الروسية على التأخُّر في الاستيلاء على المدينة. وجاء ذلك في ظلّ اهتمام غربي متزايد بالدور المنوط بالمجموعة في أوكرانيا، وأيضاً في العديد من الدول الأفريقية المأزومة، حيث تزامنت «الحملة» عليها هناك، مع جولة للخبير الأممي المعنيّ بوضع حقوق الإنسان في مالي، السنغالي أليون تين (6 - 17 الجاري)، في هذا البلد، الذي تنشط فيه «فاغنر» بالخصوص.
«فاغنر» في أفريقيا: ما الجديد؟
استعرضت مجلّة «فورين بوليسي»، منتصف العام الماضي، تفاصيل حول صِلة «فاغنر»، منذ عام 2019، باللواء الليبي المتقاعد، خليفة حفتر، أي إبّان عهد إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ودور قوّاتها في دعم حملة حفتر على طرابلس، فضلاً عن مساعدتها إيّاه في الحفاظ على القواعد العسكرية الرئيسة ومرافق النفط تحت سيطرته. على أن تلك الصِّلات القويّة لم تحظَ، في حينه، بانتباه إعلامي غربي يناهز فورة الاهتمام الراهنة بأدوار المجموعة في أفريقيا، والمبالَغ فيها - عمداً على ما يبدو -، وذلك على خلفيّة اعتبارات من قَبيل علاقة حفتر بترامب وقتها، وما تردَّد عن تفاهمات بين هذا الأخير ونظيره الروسي فلاديمير بوتين.
ولربّما يمكن قراءة التركيز على «فاغنر» حالياً في أفريقيا، على ضوء تطوّرات الأزمة الروسية - الأوكرانية، بوصفه أداة لتوجيه سياسات عدد من الدول الأفريقية. وعلى سبيل المثال، فقد عوّلت إدارة جو بايدن بقوّة على مصر، جارة ليبيا والسودان، لمواجهة «فاغنر» في البلدَين المذكورَين. وبحسب مصادر غربية، فإن مدير «الاستخبارات المركزية الأميركية»، وليام بيرنز، ووزير الخارجية، أنتوني بلينكن، التقيا في مناسبات عدّة، الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وعدداً من مسؤوليه، ليقنعاهم بالتوسّط لدى القادة العسكريين في دولتَي الجوار الأفريقيتَين، لإنهاء علاقتهم بـ«فاغنر»، وهو ما آتى بعضاً من الأُكُل - على الأرجح - في السودان، مع توجّه المسؤولين المصريين لإثارة تخوّفهم إزاء «فاغنر» هناك (وفي جمهورية أفريقيا الوسطى).
وفي المقابل، دعا محلّلون أميركيون، واشنطن، إلى اتّخاذ موقف أكثر تشدّداً إزاء الإمارات، على خلفيّة تعاونها مع المجموعة الروسية في تهريب الذهب (من عدّة دول أفريقية)، وتمويلها أنشطتها في ليبيا. وكانت عقوبات أميركية طاولت شركات إماراتية متورّطة مع «فاغنر» في تشرين الثاني 2022، لمساعدتها الأخيرة في تهريب طائرات من دون طيّار (UAVs) إلى روسيا. كما تمّت، مطلع العام الجاري، معاقبة «شركة طيران إماراتية»، على خلفيّة دورها في نقْل أفراد ومعدّات لمصلحة عمليّات «فاغنر» في جمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا ومالي.

ملامح «مكارثية» غربية؟
سادت، في الأسابيع الأخيرة، رواية غربية متكرّرة، في منافذ إعلامية متنوّعة، عن مجموعة «فاغنر» في أفريقيا، في ما بدا حملة منسَّقة من قِبَل الحكومات الغربية والمنظّمات الدولية والإقليمية ضدّ المجموعة. وعلى رغم الغضب الدولي من تمدُّد المجموعة، إلّا أن العقوبات التي فرضتْها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، ومِن أَحدثها تصنيف الخزانة الأميركية «فاغنر» «جماعة إجرامية»، لم تَحُل دون توقّع استمرار هذا التمدُّد. ورصدت «لوموند» الفرنسية، مطلع العام الجاري، «غزو فاغنر» للقارّة السمراء، وتعاظُم مساعيها لتوطيد أقدامها هناك.
تبدو مسألة دور «فاغنر» في أفريقيا أحد مظاهر تحوّلات العلاقات الدولية على خلفية الأزمة الروسية - الأوكرانية


وبالتزامن مع جولة أليون تين في مالي، والتي انتهت في 17 الجاري، أصدرت هيئة تُعرف بـ«المبادرة العالمية ضدّ الجريمة المنظّمة عبر الوطنية» (GIATOC) (برلين - 16 شباط) تقريراً حمل عنواناً دعائياً لافتاً: «المنطقة الرمادية: الجيش والمرتزقة والتورّط الجرائمي الروسي في أفريقيا»، استعرض في قسمه الرابع والأخير، عمليات «فاغنر» في أفريقيا الوسطى، السودان، موزمبيق، ليبيا، مالي، مدغشقر، ثمّ بوركينا فاسو وكينيا والكاميرون. ورأى التقرير أن حالة جمهورية أفريقيا الوسطى هي النموذج الأنضج لوجود المجموعة في القارّة، حيث يعود حضورها في هذه الدولة إلى تشرين الأوّل 2017، بعد اجتماع بين مسؤولي البلدَين في سوتشي، أعقبهَ إرسال موسكو وفداً أمنيّاً رفيع المستوى لدعم الرئيس فوستين توديرا في بانجي، وتوسيع شركة «سيوا» الأمنية عمليّاتها هناك - علماً أن الأخيرة هي واجهة لـ«فاغنر» -، وصولاً إلى تحصيل الجمارك نيابة عن الحكومة بمقتضى تعاقُد تمّ إلغاؤه في نيسان 2021. وفي ما يخصّ بوركينا فاسو، تحدّث التقرير عن مخاوف غربية من التطوّرات في الدولة الأفريقية الصغيرة نسبيّاً، ووصف الوضع في كينيا بأنه أشبه بنقطة انتقال لعمليات «فاغنر» في دول شرق أفريقيا، مشيراً إلى «شركة تعمل نيابة عن المجموعة، وتقدّم لها خدمات في مطار ويلسون في نيروبي، وتوفّر دعماً جويّاً لعملياتها في الدول القريبة - مثل موزمبيق -...».

جذور تمدّد «فاغنر»
تصاعَد الاهتمام بدور «فاغنر» في أفريقيا، منذ مطلع العام الجاري، في ديناميات الدبلوماسية الدولية، إذ دعا عدد من خبراء الأمم المتحدة، نهاية كانون الثاني، إلى «تحقيق مستقلّ وفوريّ في انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب المحتملة والجرائم ضدّ الإنسانية، المُدانة بها في مالي القوّات الحكومية، والمتعهّد العسكري الخاص المعروف بمجموعة فاغنر». وأَعقب ذلك توجّهُ الخبير الأممي، تين، إلى مالي، لمناقشة التقدّم في تطبيق السلطات الماليّة الالتزامات التي تعهّدت بها بهذا الخصوص، فيما كان لافتاً انتقاد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أثناء وجوده في باماكو (7 الجاري)، مهمّة تين مباشرة، حيث قال: «بعض خبراء الأمم المتحدة ممّن يتقصّون عن جرائم حرب مدّعاة من قِبَل فاغنر، لا أرى أن أيّاً منهم سيكلَّف بالنظر في أيّ جانب من جرائم الحرب، بغضّ النظر عن مرتكِبها». وفي المقابل، برزت ملاحظات ريتشارد ميلز، نائب ممثّل الولايات المتحدة في الأمم المتحدة (9 شباط)، في مجلس الأمن، عندما أشار إلى دور المجموعة في نشْر آلاف المقاتلين في أوكرانيا منذ تشرين الثاني 2022 لاستخدام أسلحة تمّ نقلها من كوريا الشمالية إلى ساحات القتال الأوكرانية، متوقّعاً استمرار نقل «فاغنر» للأسلحة الكورية إلى مناطق أخرى (ربّما مناطق النزاعات في أفريقيا).
لكن على الأرض، تبدو ارتباطات الدول الأفريقية بـ«فاغنر» أكثر واقعية وإلحاحاً لتلبية مخاوف هذه الدول من تمدُّد الأنشطة الإرهابية وحالة عدم الأمن التي تسبّبت بها قوى غربية فيها؛ إمّا بالتجاهل أو بالتدخُّل المحسوب لمصلحة استدامة الأزمات. وقد كشفت محادثات رئيس الوزراء البوركيني، أبولينير دو تامبيلا، مع السفير الروسي في واغادوغو، في كانون الثاني الفائت، بحسب مراقبين غربيين، عن تقارب أوثق بين الأخيرة وموسكو في ملفّات عدّة، من بينها التوسّع في نشْر عناصر «فاغنر» في البلاد. وفي محاولة للتعمية على التأييد الشعبي المتزايد داخل العديد من الدول الأفريقية لوجود روسيا و«فاغنر»، رأت أجهزة غربية أن أسلوب الأخيرة يعتمد على «تكوين مَظهر من الدعم المحلّي عبر حركات قاعدية زائفة يقودها مؤثّرون مأجورون يقومون برفع الأعلام الروسية في التظاهرات المتقطّعة»، وأن «انتشار النفوذ الروسي وموجة الانقلابات في الساحل لم يجلبا سوى مزيد من المعاناة في الإقليم».

خلاصة
تبدو مسألة دور «فاغنر» في أفريقيا أحد مظاهر تحوّلات العلاقات الدولية على خلفية الأزمة الروسية - الأوكرانية، والتي باتت تمسّ عصب فكرة الدولة وسياساتها الخارجية وضوابط التحالفات، على نحو يتيح هوامش غير مسبوقة من التناقض والتصارع بين أطراف هذه التحالفات. وفيما ركّز أليون تين - على سبيل المثال - جهوده أخيراً في تقصّي وانتقاد أوضاع حقوق الإنسان في مالي، فإنه سرعان ما انشغل بالشأن السياسي، وأطلق تصريحات خطيرة حذّر فيها من سقوط محتمل للسنغال، على خلفية اتّهامات للنظام في داكار بإقصاء المعارضة وتهديد السلم والاستقرار، مع ملاحظة ميل الرئيس ماكي صال إلى بناء علاقات متوازنة مع روسيا، وهو ما يصعّب عزْل دور «فاغنر» عن سياقات التنافس الدولي وحساباته.