«من وُجهة نظر واشنطن، يبدو خصومها ضعفاء، وهذه هي اللحظة المناسبة لاتّخاذها مواقف أكثر عدوانية تجاههم في مختلف أرجاء العالم، من آسيا إلى أوكرانيا إلى إيران». هذا الكلام ورد في مقال للسفير الأميركي السابق في سوريا، روبرت فورد، في «الشرق الأوسط» في الـ 12 من الشهر الجاري، وعنوانه «تصعيد أميركي في مواجهة الخصوم». مؤشّرات هذه العدوانية الجامحة تكاثرت في الأسابيع الماضية، وبينها اتّهامات نائبة الرئيس الأميركي، كامالا هاريس، لروسيا، «بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية في أوكرانيا»، ودعوتها إلى محاكمة القيادة الروسية، وذلك في خطابها الذي ألقتْه في «مؤتمر ميونيخ للأمن». هذا المؤتمر، الذي يُعقد سنوياً بمشاركة حوالي 350 شخصية دولية تضمّ مسؤولين سياسيين وعسكريين واقتصاديين، وعلماء وممثّلين عن المجتمع المدني، شكّل، في ما مضى، منتدى لمناقشة أبرز الأزمات والتحدّيات العالمية، لكنه أضحى، بعد انعقاده هذه السنة، منصّة غربية للتحريض والتحشيد والتعبئة ضدّ الأعداء؛ أوّلاً بوجه روسيا وإيران، وثانياً ضدّ الصين. شارك الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في «ميونيخ» في 2007، وأطلق منه تحذيره المعروف من مغبّة الإصرار على توسيع «الناتو» شرقاً. ومِن على المنبر نفسه في 2018، دعا وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، دول الغرب إلى تخفيف توتّرها حيال عملية انتقال العالم إلى «حقبة ما بعد الغرب»، والتأقلم مع الواقع الجديد. الدورة الأخيرة للمؤتمر أكدت نهاية وظيفته كمنتدى دولي - على رغم مشاركة وزير الخارجية الصيني فيه -، وصيرورته إطاراً غربياً خاضعاً للأجندة الاستراتيجية العامّة للولايات المتحدة ومَن يسير في ركْبها، مع وجود بعض التمايزات في مواقف أطرافه بالنسبة إلى أهداف الحرب الدائرة مع روسيا على الساحة الأوكرانية. المواقف التي تمّ التعبير عنها خلال الدورة الأخيرة، وخاصة تجاه روسيا وإيران، تستحقّ التوقّف عندها، إضافة إلى التطوّرات الجارية خارج قاعاته طبعاً، لأنها تسهم في توضيح السياسات الفعلية المتّبعة من قِبَل التحالف الغربي تجاه البلدَين المذكورَين.تلت نائبة الرئيس الأميركي، والمدّعية العامة السابقة، أمام المؤتمِرين، «مضبطة اتّهامات» ضدّ روسيا، وبينها القصف المنهجي للمدنيين والبنى التحتية الأساسية، وأعمال التعذيب والاغتصاب المنسوبة إلى جنود روس، ونقْل أوكرانيين قسراً إلى أراضيها، بينهم آلاف الأطفال الذين فُصلوا عن عائلاتهم، لتَخلص إلى أن جميع هذه الأفعال هي جرائم بحقّ الإنسانية. وتابعت هاريس: «أقول ذلك لكلّ الذين ارتكبوا تلك الجرائم وقادتِهم أو المتواطئين معها: سوف تحاسَبون عليها». وذهب وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في الاتّجاه نفسه، عندما شدّد على أن «لا إفلات من العقاب». هي المرّة الأولى التي يُوجِّه فيها مسؤولون أميركيون هكذا اتّهامات إلى روسيا. ثمّة فارق كبير على المستوى السياسي بين «جرائم حرب» و«الجرائم ضدّ الإنسانية». فكثيراً ما تَرتكب الجيوش، وفي طليعتها جيوش الغرب، جرائم حرب خلال خوضها النزاعات، كقتل الجنود الأسرى أو الإجهاز على الجرحى، وتَجري في بعض الأحيان تحقيقات وحتى محاكمات، غالباً ما تكون صورية، للجنود والضبّاط المسؤولين عن ارتكابها، فيما يَجري توجيه اللوم إلى القادة السياسيين على عدم تشديدهم على ضرورة احترام «قوانين الحرب» من قِبَل قوّاتهم المسلّحة. أمّا الجرائم ضدّ الإنسانية، أي الاستهداف المنهجي المتعمَّد للمدنيين بهدف قتْلهم و/أو تهجيرهم والتنكيل بهم، فهي تفترض تورّطاً للمستوى السياسي فيها، وتستدعي محاسبة أولئك المسؤولين السياسيين عنها، وليس منفِّذيها المباشرين حصراً.
كانت لإيران أيضاً حصّتها من الاتّهامات والتهديدات في ما يمكن تسميته «مؤتمر الحرب في ميونيخ»


ما الغاية السياسية من كيْل اتّهامات من هذا القبيل للقيادة الروسية من قِبَل مسؤولين أميركيين؟ إذا وضعنا جانباً الحجج الأخلاقية التي ينبغي أن تثير سخرية كلّ ذي عقل عندما تَرِد على ألسنتهم، لدى تصنيف قادة العدو على أنهم «مجرمون ضدّ الإنسانية يجب أن يساقوا إلى المحاكمة»، فإن أوّل استنتاج يَفرض نفسه هو أن صاحب ذلك التصنيف لا يريد حتى الآن حلّاً تفاوضياً للصراع القائم. لقد اتّضح، خلال الشهرَين الماضيَين، أن روسيا استعادت المبادرة في الميدان، وأنها تعدّ لهجوم مضادّ كبير في نهاية الشتاء بمشاركة ما يقارب 500.000 جندي، فيما بدأت أصوات وازنة، كصوت رئيس هيئة الأركان الأميركية، تطالب بالبحث عن حلّ تفاوضي لنزاع لن يُحسم لمصلحة أوكرانيا. وصدرت، أيضاً، عن مؤسّسة «راند»، الوثيقة الصلة بـ«البنتاغون»، في أواخر الشهر الماضي، دراسة بعنوان «تجنُّب حرب طويلة»، تحذّر من خطورة إطالة أمد هذه الحرب، من منظور المصالح العليا لواشنطن، وتحضّ على بلورة رؤية لتسوية لها. ما تُظهره مواقف هاريس وبلينكن هو أن الاتّجاه السائد في داخل إدارة جو بايدن حتى اللحظة، لم يقتنع بـ«النصائح» المُشار إليها، وأنه يفضّل استطالة الحرب. وقد أشار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى تلك الحقيقة، بطريقة غير مباشرة، في مقابلة أجراها مع «لو فيغارو»، بينما هو عائد على متن طائرته من «مؤتمر ميونيخ»، عندما أعلن أنه يريد «هزيمة روسيا في أوكرانيا، وأنْ تستطيع الأخيرة الدفاع عن موقعها، لكنّني مقتنع بأن هذا الأمر لن يُحسم عسكرياً. لا أظنّ، كما البعض، أن المطلوب هو هزيمة كاملة لروسيا ومهاجمتها على أراضيها. هؤلاء يسعون قبل أيّ اعتبار آخر إلى سحْق روسيا. لكن هذا لم يكن يوماً موقف فرنسا ولن يكون كذلك أبداً». وكان وزير الخارجية الفرنسي الأسبق قد أدلى بدلوه في النقاش الراهن، في مقابلة مع «لو فيغارو» أيضاً، حول المآلات المحتملة للمجابهة في أوكرانيا، حيث حذّر من تصويرها على أنها «صراع حضارات بين الديموقراطيين والمستبدّين، وآملُ ألّا تصبح كذلك بفعل تكرار هذه المقولة، لأنها إنْ أضحت حرب حضارات، فليس من المؤكّد أن الغرب سيكون منتصراً في النهاية».
كانت لإيران أيضاً حصّتها من الاتّهامات والتهديدات في ما يمكن تسميته «مؤتمر الحرب في ميونيخ». وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، قال إنه عند الحديث عن «منْع إيران من الحصول على سلاح نووي، يجب أن نحتفظ بكلّ الأدوات الممكنة، أكرّر: دعونا نضع كلّ الأدوات الممكنة على الطاولة». سبق هذا التصريحَ تكثيفٌ للهجمات الإسرائيلية على أهداف في إيران وخارجها، كقصف الموقع العسكري في أصفهان، والغارات على مواقع أو قوافل في سوريا، والقصف الأخير لحيّ مدني في دمشق، والذي تزامَن مع انعقاد المؤتمر. غابت إيران عن «ميونيخ» بسبب عدم توجيه دعوة رسمية إليها على عكْس السنوات السابقة، فيما تحدّثت تقارير صحافية عن مشاركة معارضين إيرانيين في أعماله كنازلين فنادي ورضا بهلوي، ابن الشاه المخلوع، ومسيح على نجاد. لكن اللافت أيضاً هو ارتفاع حدّة العدائية الأوروبية تجاه هذا البلد، والتي تجلّت في محاولات متكرّرة لإدراج مؤسّسة «الحرس الثوري» على «القائمة الأوروبية للإرهاب»، بدعم من ألمانيا خاصة، والمواقف العنيفة التي أدلت بها وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، في مقابلتها مع «الشرق الأوسط»، حيث أكدت «عزم فرنسا على الوقوف في وجه التهديدات الآتية من إيران». هل يعني ذلك أنّنا أمام نوع من تقسيم العمل بين التحالف الغربي وإسرائيل، تتولّى فيه الأخيرة مهمّة تكثيف الضغوط العسكرية على إيران لحملها على تغيير توجّهاتها حيال الحرب في أوكرانيا وثوابتها في الإقليم؟ المؤكد أن الحصول على تفويض كهذا هو أولوية لنتنياهو. لكن ما يمكن الجزم به أيضاً، استناداً إلى حديث فورد في مقاله المذكور سالفاً، أن واشنطن تعتقد أن خصومها في حالة ضعف، وهو ما يثير لدى السفير الأميركي السابق خشية من ميلها (ومن الممكن أن نضيف مَيل التحالف الغربي كلّه) إلى المبالغة في تقدير قدراتها، على نحوٍ يدفعها إلى تجاوُز خطوط حمر تستثير ردوداً غاضبة.