خلال فعاليات «مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي»، الذي انعقد قبل أيّام، أعلن كبير الديبلوماسيين الصينيين، وانغ يي، استعداد بلاده لتقديم اقتراح للسلام بين روسيا وأوكرانيا، من دون إعطاء تفاصيل إضافية. الموقف الصيني المستجدّ، تَرافق مع حملة إعلامية وديبلوماسية أميركية غير مسبوقة ضدّ بكين، عزّزتها خصوصاً أزمة المنطاد الصيني. ولم يَغفل خطاب وزير الخارجية الصيني، خلال المؤتمر، الذي جاء بعد عودة العلاقات الصينية - الأميركية إلى مربّع التأزّم جرّاء إسقاط واشنطن المنطاد فوق مياهها الإقليمية، الإشارة إلى التزام بكين بحلّ ديبلوماسي للأزمة بين موسكو وكييف، مشدّداً على أن حرب أوكرانيا «لا يجب أن تستمرّ». وتزامنت الخطوة الديبلوماسية الصينية، مع تصعيد واشنطن لهجتها التحذيرية ضدّ بكين، في حال قرّرت هذه الأخيرة تقديم الدعم العسكري لحليفتها الروسية، وذلك إثر لقاء وزير خارجية الأولى، أنتوني بلينكن، مع نظيره الصيني، أخيراً، وتهديده الصين بعواقب، على وقْع تسريب معلومات استخبارية أميركية حول وجود نوايا صينية لتزويد موسكو بأسلحة وذخائر لم تُحدّد طبيعتها. كما أن المبادرة الصينية لإحلال السلام في أوكرانيا، المصحوبة بتشديد على رفض استخدام الأسلحة النووية، في مؤشّر تحذيري فسّره مراقبون غربيون على أنه موجّه إلى القوى النووية الكبرى، من دون أن يستثني موسكو، استبقت زيارة مفاجئة قام بها الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى أوكرانيا، وكلمة مرتقبة للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لمناسبة الذكرى الأول لانطلاق الحرب اليوم الثلاثاء.واقع الأمر، أن الحديث الديبلوماسي الصيني ينطلق من عدّة عوامل؛ فمن جهتها، تستشعر بكين خطر توجّه الغرب إلى تصعيد وتيرة الحرب في أوكرانيا، ومحاولة زيادة دعمه العسكري لكييف لإفشال ما يُشاع حول هجوم عسكري واسع تتحضّر موسكو للقيام به بحلول الربيع المقبل، وما قد يستتبعه ذلك من تشديد للضغوط الغربية على «شراكة استراتيجية بلا حدود» بين بكين وموسكو، على حدّ وصفها من قِبَل زعيمَي البلدَين خلال قمّة جمعتهما مطلع شباط من العام الماضي. فالصين، وإنْ كانت تحرص على دعْم الموقف الديبلوماسي لموسكو في وجه الحملة الغربية، من خلال إلقاء اللوم على سياسة «الناتو» التوسعيّة في الجوار الروسي، كسبب رئيس للحرب، إلّا أنها تتجنّب الظهور بمظهر المنحاز إلى موسكو، خشية التعرّض لعقوبات أميركية، وبدافع القلق من تبعات ذهابها بعيداً في تأييد الأهداف العسكرية الروسية في أوكرانيا، بصورة تنعكس سلباً على مكانتها الدولية، وعلى علاقاتها بالدول الأخرى، بخاصّة الآسيوية منها. إلّا أن استراتيجية التوازن التي تنتهجها بكين حيال الأزمة الأوكرانية، لا تخلو من مخاطر سياسية واقتصادية، حيث أدّى رفْضها إدانة موسكو إلى توتُّر علاقاتها مع بعض جيرانها، وبعض الدول الأخرى التي انحازت إلى صفّ المحور الغربي الرافض للعملية العسكرية الروسية. وبهدف تلافي تضرُّر علاقاتها الخارجية، ترجّح مصادر مقرّبة من الحكومة الصينية، التزامها مقاربتها غير المنحازة في هذا الصدد، معتبرة أن السبب الوحيد الذي يمكن أن يغيّر حساباتها في اتّجاه موقف أكثر انحيازاً حيال موسكو، يرتبط بتطوّرات السياسة الأميركية تجاه تايوان، وتحوّل واشنطن إلى دعم «الخيار الانفصالي» للجزيرة.
تتوجّس بكين من إحياء الإدارة الأميركية والكونغرس برنامجاً سرّياً لدعم كييف


الثابت هو وجود قناعة لدى القادة الصينيين، بإصرار الولايات المتحدة على سياسة الاحتواء تجاه بكين، بصرف النظر عن موقف الأخيرة من الأزمة الأوكرانية، أو ما تروّجه الدوائر الأميركية حول وجود دعْم صيني قائم أو وشيك لروسيا، على غرار ما أشاعته صحيفة «نيويورك تايمز» عن مشاركة القيادتَين العسكريتَين الروسية والصينية خطط اجتياح أوكرانيا قبيل الحرب. وما استرعى الانتباه أكثر في حديث رأس الديبلوماسية الصينية خلال المؤتمر، هو تلميحه إلى وجود رفْض غربي للجهود الرامية إلى وضع حدّ لحرب أوكرانيا، حين أشار وانغ يي إلى وجود قوى دولية لديها أهداف في استمرار الحرب هناك، لأسباب استراتيجية بعيدة المدى، في إشارة إلى رغبة واشنطن في استنزاف روسيا في معركة طويلة الأمد على الساحة الأوروبية. وبحسب محلّلين صينيين، فقد دلّت التجربة التفاوضية بين البلدَين المتنازعَين، في أكثر من مناسبة، على فتور الرغبة الأميركية في وقْف الحرب، لا سيما حين عمدت موسكو إلى سحْب قوّاتها من محيط كييف في الأسابيع الأولى من الصراع، بهدف إعطاء دفعة للمفاوضات، وهو ما قابلتْه واشنطن يومها بتشكيك وتسريع في وتيرة تحريض كييف، ومدّها بمساعدات عسكرية بقيمة 500 مليون دولار لحثّها على المضيّ في الحرب، والحفاظ على زخمها لتحقيق هدف مزدوج، هو استنزاف موسكو على المدى القصير، وتوجيه رسالة ردع إلى بكين على المدى البعيد. ويستذكر هؤلاء تصريحاً لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، قال فيه إن «واشنطن لن ترضى بحلّ للأزمة بين كييف وموسكو، يقلّ عن تحييد قدرات الأخيرة على شنّ هجوم عسكري مشابه على دولة أخرى». كما يشيرون إلى كلام للرئيس الأميركي، جو بايدن، في شهر آذار الماضي، اعتبر فيه أن «حرب أوكرانيا، ليست حرباً يمكن كسْبها خلال أيّام أو أشهر»، موجّهاً الدعوة إلى شركائه في حلف «الناتو» لتقوية جيوشهم، وتحضير أنفسهم لـ«معركة طويلة مقبلة» هناك. ومن منظور هؤلاء، فإن القيادة الصينية تقيّم تلك المواقف والتصريحات بوصفها دليلاً على وجود ممانعة أميركية لوقْف المواجهة العسكرية بين كييف وموسكو، وهو أمر أبرزته توجّهات الصحافة الصينية التي تعبّر عن السياسة الرسمية للبلاد، حين وصفت النهج الأميركي المتّبع في حرب «الجارَين اللدودَين» بسياسة «صبّ الزيت على النار»، و«عرقلة المساعي الرامية إلى حلّ سياسي للأزمة». من جهته، يشدّد عميد معهد العلاقات الدولية في جامعة «شيخوا» الصينية، يان تشيتونغ، على أن الولايات المتحدة لم تغيّر أولوياتها إزاء التصدّي لِما تَعتبره «تهديداً صينياً»، مشيراً إلى أن بكين واثقة من أن السلوك الأميركي العدائي تجاهها سيستمرّ حتى وإنْ نأت بنفسها عن موسكو. ويشرح أن القادة الصينيين يدركون ذلك جيداً، ويَرَون أن تبنّي العقوبات ضدّ روسيا، لن يحول دون إمكانية فرْض عقوبات على بكين نفسها لأسباب وذرائع مختلفة.
وفي سياق شرحه لمدى الضرر الذي تُلحقه الحرب بكافة الأطراف، أكد السفير الصيني لدى واشنطن، تشين غانغ، أواخر كانون الأول الماضي، التزام بلاده أهميّة قيام نظام عالمي قائم على الاحترام المتبادل، والتعايش السلمي. وجدّد الديبلوماسي الصيني، في مقالة له في مجلة «ناشونال إنترست» الأميركية، تمسّك بلاده بمعادلة «رابح - رابح» في العلاقات الدولية، لافتاً إلى أهمية تجنّب النزاعات المسلّحة والحروب، بخاصّة بين القوى الكبرى. وفي حديثه عن الأزمة الأوكرانية، شدّد غانغ على أن المسألة الأكثر إلحاحاً في الوقت الراهن تتعلّق بإعادة تنشيط المفاوضات بين كييف وموسكو، مستنكراً ما اعتبره مساعي تقودها دول معينة، لتحقيق أمنها على حساب دول أخرى. ففي حسابات الربح والخسارة، تشير تقارير اقتصادية إلى خسائر الصين جراء النزاع في أوكرانيا، باعتبارها الشريك التجاري الأبرز لطرفَي الصراع، لا سيما وأن حوالى 6 آلاف مواطن صيني كانوا يعملون على الأراضي الأوكرانية عشية الحرب. كذلك، عانت شركات صينية عدّة من تضرُّر شبكة سلاسل التوريد العالمية بفعل النزاع، مثل شركة «Tsingshan Holding Group» المتخصّصة في تجارة النيكل، والتي بلغت خسائرها حوالى 8 مليارات دولار على خلفية تقلّب أسعار المعادن منذ بدء الحرب. كذلك، سَجّل النشاط التصنيعي والتجاري الصيني أسوأ انكماش شهري منذ آب من عام 2021، بسبب إلغاء العديد من الزبائن عقود استيراد بضائع صينية خلال الفترة نفسها.
وما تتوجّس منه بكين أكثر، هو ما تعكف دوائر في الإدارة الأميركية والكونغرس، منذ مطلع الشهر الجاري، على دراسته في شأن إحياء برنامج سرّي لدعم كييف، يشمل نشر عناصر أميركية عسكرية على الأراضي الأوكرانية، تستنسخ مهام غير عسكرية مزعومة سبق أن قامت بها القوات الأميركية الخاصة على مسرح الشرق الأوسط، وهو خيار يُطرح كبديل رخيص، تُقدَّر تكلفته بنحو 15 مليون دولار سنوياً، مقابل الخيار الأكثر تكلفة، والمتمثّل في مواصلة وتيرة الدعم التسليحي والتدريبي نفسها لكييف على المدى الطويل، والمقدّرة تكلفته بعشرات مليارات الدولارات حتى الآن، سواء لناحية استنزافه القدرات المالية، أو مخزون الأسلحة الاستراتيجي لواشنطن. وبحسب مصادر عسكرية أميركية، فإن البرنامج المذكور، والذي أُوقف العمل به قبل سنوات من اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، سوف يقتصر على قيام عسكريين أميركيين بأدوار في مجال الاستطلاع، والحرب الإلكترونية، مع نشرهم حصراً في «مناطق معزولة» على مسرح العمليات الأوكراني. وفي حين يلقى المشروع المذكور معارضة على المستوى السياسي لدى بعض أعضاء الكونغرس، بخاصة الجمهوريين، إلّا أنه يحظى بتأييد المؤسسة العسكرية ووزارة الدفاع بداعي تعزيز العلاقة بين واشنطن وكييف وإظهار مساندتها لحليفها فولوديمير زيلينسكي، واكتساب مزايا عسكرية واستخبارية وتوظيفها في تحسين قدرات عناصرها وعناصر حلفائها على صعيد «الحرب غير التقليدية». وخلال الأسابيع الماضية، استمزجت إدارة الرئيس بايدن آراء 15 مسؤولاً حالياً وسابقاً معنيّين بملفّ البرنامج المعروف باسم «1202 Program»، المتخصّص في تمويل برامج «الحرب غير التقليدية» في أكثر من بلد.