أفرز زلزال السادس من شباط، مجموعة هائلة من التحدّيات، التي ستتطلّب مواجهتها الكثير من التضامن الاجتماعي وكلفة اقتصادية كبرى، وتعالياً على الانقسامات، واعترافاً أيضاً بالمسؤوليات وتجرّؤاً على تحمُّلها. لكن هذا لا يبدو هو الحال في تركيا، حيث تحوّلت حملة التبرّعات التي أُطلقت مساء الأربعاء تحت شعار «تركيا قلب واحد»، من فرصة لإبداء ذلك التضامن والتراحُم، إلى عنوان خلاف جديد، يُضاف إلى عناوين أخرى تصدّرت المشهد منذ الكارثة التي ضربت قهرمان مراش وتسع محافظات أخرى. الحملة التي حصدت تبرّعات بقيمة 114 مليار ليرة تركية، أي ما يوازي ستّة مليارات دولار تقريباً، سرعان ما قابلتْها المعارضة بانتقادات لاذعة، بدعوى أن مجموع المبالغ التي تبرّعت بها بنوك أو مؤسّسات تابعة للدولة يتخطّى الثمانين مليار ليرة، أي ما يعادل ثلُثُي المبلغ الإجمالي. وفي السياق، عنونت صحيفة «جمهورييات»، أمس: «يهَبون مال الناس للناس»، ملمّحة إلى أن الأموال المُسداة من المصارف الحكومية هي أصلاً أموال الناس وتُستخدم من أجل الصرف على الاحتياجات والمشاريع العامّة. وتُضاف إلى ما تَقدّم، إشكاليّات طُرحت حول مصير تلك الأموال، وما إذا كان سيتمّ تقييدها في السجلّات بمعزل عن ما تبقّى في المصارف. ومن هنا، طالب رئيس «حزب المستقبل»، أحمد داوود أوغلو، بتسجيل كلّ قرش من التبرّعات لصالح «هيئة إدارة الكوارث والطوارئ» و«الهلال الأحمر التركي»، في صندوق خاص، ليُعرف لاحقاً أين وكيف تمّ صرْفها، مقترحاً أن «تتشكّل لجنة من البرلمان التركي، تقوم هي بمراقبة وتعقّب مسار ووُجهة إنفاق الأموال»، لافتاً إلى أن «الموظّفين الرسميين لا يمكن أن يتبرّعوا إلّا من رواتبهم... تصرُّف حكّام المصرف المركزي هو نوع من فساد السمعة»، فيما شدّد رئيس «حزب الديموقراطية والتقدّم»، علي باباجان، على «ضرورة إعطاء التبرّعات لمستحِقّيها من أفراد ومؤسّسات، وبصورة شفّافة وعادلة».من جهته، أوضح الخبير الاقتصادي، حاقان قاران، أن «المصرف المركزي لا يمكنه، في المبدأ، القيام بالتبرّع، كما أن المال الذي يتمّ التبرّع به للهلال الأحمر وإدارة الكوارث هو مال يَدخل الخزينة أوّلاً»، في حين أشار نائب المدير العام السابق لبنك الزراعة، شينول بابجتشو، إلى أن «أموال المصرف المركزي والبنوك الرسمية الأخرى هي أموال عامّة، أي أن الدولة تأخذ من جَيب وتعطي لجيب آخر». وفي الاتّجاه نفسه، رأى البروفسور دوران بلبل أن «ما جرى هو هِبات من الشعب إلى الشعب»، معتبراً أنه «ضِمن النظام الحالي، لا يمكن مراقبة كيفية صرْف الأموال ومتابعة مسارها، ولذا يجب تأسيس صندوق خاص بها». وبيّن بلبل أنه «لو قسّمنا مجموع الأموال التي تمّ التبرّع بها من المؤسّسات الرسمية على عدد السكّان، يتبيّن أن كلّ مواطن دفَع من جيبه عبْر هذه المؤسّسات 1354 ليرة (72 دولاراً)»، مضيفاً أن «ميزانية إدارة الكوارث قد تمّ تخفيضها قبل الزلزال بنسبة 33% (8 مليارات ليرة)، والمال الذي انتقصتْه الدولة من الهيئة الخاصة بالزلازل تُعيده الآن إليها، هذا كلّ ما يحصل». وحذّر حاقان قره، وهو كبير الاقتصاديين في المصرف المركزي التركي، بدوره، من أن «تبرّعات المركزي تعني أن أرباح المصرف في الموسم المقبل ستتراجع، ونسبة التضخّم ستزيد، خصوصاً أن الإنفاق سيزيد هذه السنة بسبب الزلزال»، موضحاً أن «ما قدّمه المركزي لا يُعتبر تبرّعاً، بل إنفاق من خزينته».
تحوّلت حملة التبرّعات التي أُطلقت مساء الأربعاء تحت شعار «تركيا قلب واحد» إلى عنوان خلاف جديد


وانتقد كريم روتا، رئيس السياسة الاقتصادية لـ«حزب المستقبل»، من جانبه، طريقة جمْع التبرّعات، معتبراً أنه «كان من الأجدى أن تُعلن الحكومة كلفة إعادة الإعمار، ومن ثمّ تَطلب من الناس التبرّع»، مضيفاً أن «التبرّع من مؤسّسات الدولة ليس تبرّعاً»، فيما نبّه الاقتصادي أوغوز ديمير إلى أن «المشكلة الرئيسة هنا هي أن الدولة يجب أن تقوم بواجباتها، لا أن تتبرّع عبر البنوك الرسمية». وفي الإطار نفسه، رأى إبراهيم تشاناقجي، رئيس السياسة المالية في «حزب الديموقراطية والتقدم»، أنه «لا معنى لتبرّع المصرف المركزي وإعادة إرسال الأموال المتبرَّع بها إلى الخزينة من جديد؛ فهو إمّا أن يحسمها من قيمة الأرباح وهذا لم يحصل، أو أن يطبع أوراقاً نقدية جديدة وهذا سيزيد من التضخّم، فضلاً عن أنه لا يمكن طبْع نقود مجّانية للتبرّع إلى جهة معيّنة». ووصفت ألف تشاكير، في صحيفة «قرار»، ما جرى بأنه «استعراض لا حاجة إليه، والدولة ليست شركة إعلانية بل مؤسّسة تدير البلاد»، مشيرةً إلى أن «الحكومة التي لم تُسعف المنكوبين في الوقت المناسب في الأيام الأولى للزلزال، وتركت اللناس تحت الأنقاض، تُحاول عبر حملة التبرّعات إظهار مدى سخائها»، متسائلةً: «أين كانت الدولة عندما كان الناس تحت الأنقاض؟».
وتهكّم يلماز أوزديل من جهته، في صحيفة «سوزجي»، على تبرّعات «المركزي»، راوياً حكاية ساعة يد أُهديت عام 1959 من بنك الزراعة إلى أمين الخزانة، ضياء مؤذن أوغلو، الذي أصرّ على أن تبقى الساعة في دائرة الخزانة على رغم أنها ملكه الشخصي، مٌقارناً ذلك بحادثة حصول زوجة رجب طيب إردوغان، عندما كان الأخير رئيساً للوزراء، على هدية من أحد المحالّ في موسكو، أجاب إردوغان الصحافيين بخصوصها: «أنتم قليلو الأدب وتَنقصكم اللياقات. لقد كتبتم أن سعره 30 ألف دولار بينما هو عشرة آلاف دولار فقط»، قبل أن يأمر بوضع الشال كأحد مقتنيات رئاسة الوزراء تحت رقم واحد، أي أن يُجعل «مُلكاً للأمّة»، علماً أن «أحداً لا يدري أين هو الآن». وعلّق أوزديل على ما تَقدّم بالتساؤل: «كيف يمكن لمؤسّسات مثل المصرف المركزي والبنوك الأخرى أن تتبرّع بالمال كما لو أنه من جَيبها وتتظاهر بأنها فاعلة خير؟»، مضيفاً: «أليست تركيا عبارة عن صورتَين؟»، في إشارة استهزاء بشعار «تركيا قلب واحد». وفي سياق متّصل، انتقد الكاتب طه آقيول، في «قرار»، منْع الكثير من الفنّانين ورجال السياسة وحتى المنكوبين من الظهور في برنامج التبرّعات، ولا سيما المغنّي خلوق ليفينت، صاحب مؤسّسة «أحباب»، مُديناً ضغوط محطّة «سي إن إن تورك» على الإعلامي الناجح جيم سايمان، الذي كان يعمل في المحطّة منذ إنشائها، فقط لأنه كتب تغريدة تنتقد أداء الحكومة، فاضطرّ أمس إلى الاستقالة، واصفاً تلك الممارسات بـ«الإقصائية التي تلغي شعار "تركيا قلب واحد"».
على خطّ موازٍ، وبينما رفض نائب رئيس الجمهورية، فؤاد أوكتاي، مسارعة رئيس بلدية أنقرة المُعارض، منصور ياواش، إلى إعادة إعمار وترميم مطار هاتاي، قائلاً له: «مَن تكون أنت لتقوم بهذا العمل الذي لم تَقُم به الدولة؟»، شنّ وزير الثقافة السابق، فكري صاغلار، هجوماً لاذعاً على إردوغان، معتبراً، في مقالة في صحيفة «بركون»، أن «تركيا لم تتعلّم بعدُ الدرس الذي يقول إننا بحاجة إلى إدارة مستنِدة إلى العلم، وليس كما هو اليوم إلى إدارة من تحالف طوائف». ورأى صاغلار أن «السلطة ليست لديها نوايا حسنة، وتحاول التستّر على شيء. وإلّا لماذا بدأت تزيل الأنقاض من دون البدء بتحقيقات لمعرفة أسباب سقوط الأبنية؟ وإلى أين ستذهب بالردم؟ وما هي التأثيرات التي ستُحدثها المكبّات الجديدة على البيئة والناس»، مضيفاً أن «في تركيا 330 ألف مقاول، بينما في ألمانيا 3500 وفي كلّ أوروبا 25 ألفاً. نحن الأخيرون في كلّ شيء، لكن الأوائل في عدد المقاولين»، متابعاً أن «الحكومة سارعت إلى تهديم المستشفيات والأبنية العامّة الرسمية، فيما حوّلت ما تبقّى إلى مستودعات للجثث بدلاً من أمكنة لمداواة الجرحى». واعتبر أنه «لا نيّة لدى حزب العدالة والتنمية لإيجاد حلول جذرية لمشكلاتنا، فيما كلّ همّ إردوغان ليس معالجة آثار الزلزال، بل كيفية إيجاد مخارج دستورية ليبقى في السلطة، ومن ذلك تأجيل الانتخابات».