استفاقت تركيا، صباح أمس، على جمْع مبلغ قيمته حوالى مئة وعشرة مليارات ليرة (نحو ستّة مليارات دولار) لكلٍّ من «هيئة إدارة الكوارث والطوارئ» و«الهلال الأحمر التركي»، وذلك بعد فتْح الهواء بصورة مشتركة بين محطّات التلفزة في تركيا وأذربيجان وقبرص التركية، أمام تبرّعات المتّصلين لضحايا زلزال السادس من شباط. على أن أكثر من نصف هذه التبرّعات جاء عبر المركزي التركي (30 مليار ليرة)، «بنك الزراعة» (20 مليار ليرة) و«وقف بنك»، علماً أنها جميعها مملوكة للدولة، ما أثار تساؤلات عن مصدر الأموال التي دُفعت، ليردّ «المركزي» بأنها جزء من أرباحه لعام 2022. وبرزت في هذا السياق أيضاً، جمعية «أحباب» أو «منبر الشعب والسلام في الأناضول»، التي أسّسها المغنّي التركي، خلوق ليفينت، والتي تُقابَل أنشطتها بتجاوب واسع من جانب المجتمع الأهلي، فضلاً عن أنها تحظى بثقته، ما جعلها هدفاً للتصويب من قِبَل السلطات. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن المغنية العالمية، مادونا، دعت الجميع إلى التبرّع لمساعدة منكوبي الزلزال، مشيرةً إلى أن «العنوان الأنسب للمساعدة هو منظمة أحباب»، فيما قال ليفينت إنه أراد المشاركة في التبرّعات عبر التلفزيون، لكنهم «لم يسمحوا له بالظهور، ومنعوه من الاتصال».وفي ظلّ تواصُل ارتفاع عدد الضحايا ليلامس الأربعين ألفاً، واستمرار عمليّات هدْم الأبنية المتصدّعة وإزالة الأنقاض والركام، لا يزال كثيرون يحمّلون الحكومة المسؤولية، ويتّهمونها بالتقصير والفشل في مواجهة حدث الزلزال منذ لحظة وقوعه. وفي هذا الإطار، رأى الكاتب المعروف، فهيم طاشتكين، في صحيفة «غازيتيه دوار»، أن هناك «حملة وقحة تغطّي مسؤوليات وجرائم الأقوياء في السلطة، وهذا يُعتبر تعذيباً منظَّماً بعد القتل في الزلزال». وبحسبه، فإن «السلطة تبذل كلّ الجهود للتخفيف من فشلها، وما القول إنها "كارثة القرن" سوى الوجه الآخر لما يجب أن يقال وهو "إخفاق إنقاذ القرن"، وكارثة تنسيق القرن وفضيحة القرن. هذا بالضبط ما يجب أن يكون عليه التوصيف. فالدولة غير موجودة لا في الأمن ولا في الإنقاذ. السلطة لا تهتمّ بالإنقاذ بل بما بعد الموت. تقول إن مجال الإعمار فُتح والدماء ستُضَخّ في الاقتصاد. وفي وقت تَنتظر فيه يد طالعة من بين الأنقاض مَن ينقذها، بدأت ماكينة مُهندسي السياسة العمل لتأجيل الانتخابات». وقال طاشتكين إن «تحذيرات علمائنا لا تساوي قيمة صوت المؤذّن. ولا قيمة بالتالي لمَن يصرخ من تحت الأنقاض. هذه هي نكبتنا».
وفي «قرار»، كتب عثمان سرت أنه بعد عشرة أيام على زلزال قهرمان ماراش، «يمكن مقاربة الوضع بهدوء أكبر. محصّلة التقييم أن الحكومة فشلت، ولم تُظهر ردّة الفعل المطلوبة على مدى أربعة أيام. صحيح أن الزلزال كبير جدّاً، لكنّ الحكومة أدارته بطريقة قلَّلت من حجمه، واعتبرت أن الوضع تحت السيطرة». ورأى سرت أن «خطاب "الدولة القوية" جاء هذه المرّة بنتائج عكسية. كذلك كان توصيف الزلزال بأنه "كارثة القرن" لتقليل الضرر السياسي»، معتبراً أن «كتْم أصوات المعارضة وتهميش المجتمع المدني وتعطيل كلّ المدارس والجامعات وسياسة الاستقطاب السابقة على الزلزال، كلّها أَظهرت الحكومة بموقف الضعف. ولا شيء يغيّر من هذه الخسارة سوى أن نرى ما يجب القيام به غداً من خلال المساءلة: أين أخطأنا؟ وأين كنّا مقصّرين من دون التذرّع بأيّ حجج؟».
على رغم أن الزلزال طاول تركيا وسوريا، لكن أيّ تواصل لم يحصل بين مسؤولي البلدَين


في هذا الوقت، لفت الانتباهَ توالي زيارات مسؤولين أجانب إلى تركيا، وفي مقدّمهم وزير الخارجية الأرميني، آرارات ميرزويان. فبعد فتْحها بدايةً معبراً مع تركيا، ونقْلها العديد من شاحنات الإعانة لضحايا الزلزال، أوفدت يريفان وزير خارجيّتها الذي التقى نظيره التركي، مولود تشاووش أوغلو، ليعلن الأخير بَعد لقائهما أن أرمينيا «مدّت يد الصداقة إلى تركيا في الأيام الصعبة، وعرضت التعاون المشترك»، فردّ الضيف قائلاً إن بلاده ليست غريبة على الزلازل، وهي التي عانت منها في عام 1988. وفي الإطار نفسه، جاءت زيارة وزير الخارجية اليوناني لتركيا وجولته في المناطق المنكوبة، حيث تعهّد الطرفان بتحسين العلاقات. كذلك، سارع العديد من زعماء الدول الخارجية إلى زيارة تركيا للتعزية، من مِثل أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، ورئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم. ومع أن البعض يرى في الزلزال فرصة لفتح كوّة في العلاقات بين الدول المتخاصمة، إلّا أنه من المبكر الحديث عن تطوّرات جذريّة تقرّب بين المتخاصمين. أمّا على خطّ تركيا - سوريا، فعلى رغم أن الزلزال ضرب كلا البلدَين، إلّا أن أيّ تواصُل لم يحصل بين مسؤوليهما، في ما يؤشّر إلى أن محاولات التقارب التي بدأت قبل الكارثة ربّما أصابها أيضاً «زلزال التأجيل»، ولا سيما على ضفّة أنقرة التي ستنشغل بالواقع الداخلي وتأجيل الانتخابات. أيضاً، من غير الواضح ما إذا كانت المساعدات الأجنبية ستفضي إلى تغيير في موقف العواصم الغربية من إردوغان، ولا سيما بعد انسحاب العديد من فِرق الإنقاذ الغربية من تركيا تحت ذريعة «وجود مخاطر أمنية»، واستمرار الحملات الإعلامية ضدّ الرئيس التركي في أكثر من بلد غربي.
وفي هذا المجال، لفت أحمد طاش غيتيرين، في صحيفة «قرار»، إلى تعبير «القوى الخارجية» الذي ما فتئ الرئيس التركي يستخدمه لاتّهام الدول الغربية خصوصاً بأنها تريد إزاحته من موقعه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وبحسب الكاتب نفسه، فإنه «حتى مصطلح "مسألة البقاء" غالباً ما يستخدمه إردوغان ربطاً بمسألة "القوى الخارجية". وفي مقدّمة القوى الخارجية المعنيّة هنا، الولايات المتحدة والصهيونية العالمية. وغالباً ما يربط إردوغان "القوى الخارجية" بعلاقتها مع بعض قوى المعارضة في الداخل التي تراها السلطة على أنها "قابلة للاستخدام"». ورأى غيتيرين أن «الكوادر السياسية تغذّي المجتمع بهذا التفكير. لكن هل تهديدات القوى الخارجية لتركيا حقيقية أم أنها مخاوف مبالَغ فيها؟»، علماً أن «تركيا تقع في منطقة حسّاسة جغرافيّاً وأمنيّاً، لكن لا يمكن أن يكون لديك "مسألة بقاء" طوال الوقت»، بحسب الكاتب الذي أضاف: «لقد حدث الزلزال، ولكنّ "القوى الخارجية" هذه سارعت إلى الإنقاذ. وجاء حوالى عشرة آلاف منقذ من أميركا وروسيا وإسرائيل. حتى وزير الخارجية اليوناني جاء إلى هاتاي، وجال مع نظيره التركي بالطوّافة فوق المناطق المنكوبة. صحيح أن بعض فرق الإنقاذ عادت إلى بلادها بسرعة بسبب أخطار أمنية مثل إسرائيل والنمسا، لكنّ هذه الدول في النهاية كانت تساعد على قاعدة إنسانية في المبدأ». وختم طاش غيتيرين مقالته بالتساؤل: «لماذا لا تزال لغة التحذير من القوى الخارجية قائمة؟»، ليجيب بأنها «موروث عثماني، ولا سيما من المرحلة الأخيرة قبل سقوط الدولة. ولكنّ انعدام الثقة في النفس لا يزال يَطبع حكّامنا».
وعن «مسألة البقاء» أيضاً، كتب يوسف ضيا جومرت أن «عارنا الوطني نتوارثه من حكومة إلى حكومة، ومن رئيس وزراء إلى آخر... كنّا نبني كما لو أنّنا في بلد غير معرّض للزلازل. نبني أبنية ليدمّرها الزلزال كما لو أنه لا يوجد علماء ومهندسون ولا جيولوجيون في البلاد»، مضيفاً: «يتحدّثون عن كلفة إعادة الإعمار ولكن لا يتحدّثون عن كلفة إنقاذ الذين سقطوا تحت الأنقاض. أنا لا أتحدّث عن الموتى بل على الأقلّ عن مَن بقي حيّاً تحت الركام». وقال الكاتب إن «"مسألة البقاء" الحقيقية في تركيا ليست القوى الخارجية بل الزلزال نفسه. فهل يفهم الآن زعماؤنا ما هي مشكلة بقاء تركيا الحقيقية؟ أعتقد أنه حتى الآن ليست هناك من إشارة إلى أنهم فهموا بعد».