تتكشّف، يوماً بعد آخر، مشاهد مروّعة من آثار الزلزال الأعظم الذي ضرب تركيا وسوريا فجر الـ6 من شباط الجاري، والذي وصفه الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بأنه «أكبر بثلاث مرّات» من زلزال مرمرة عام 1999، فجاءت نتائجه التدميريّة أيضاً أكبر بثلاث مرّات. وإذ تشير التوقعات إلى أن أعداد الضحايا ستتخطّى الـ25 ألف قتيل والمئة ألف جريح، ذلك أن عشرات الآلاف من الناس لا يزالون عالقين تحت الأنقاض، مع نفاد الأمل بإنقاذهم، هامَ سكّان المناطق التركية المتضرّرة في كلّ صوْب. بعضهم لجأ إلى مدن الخيام التي بدأت السلطات بإنشائها، وبعضم نام في العراء، وآخرون التجأوا إلى المغاور سقفاً، فيما ارتحل مئات الآلاف من مناطق الزلزال إلى الغرب التركي.وإلى مئات آلاف المباني المهدّمة والمتصدّعة، كانت الأرض تنشقّ في قرية تبه خان، ذات السبعة آلاف نسمة، في قضاء ألتين أوزي قرب أنطاكيا، فتَشطر حقلاً من الزيتون محدِثة جُرفاً بطول ثلاثمئة متر، وعرض خمسين متراً، وعمق أربعين متراً، ما بات يُعرف بوادي الزلازل. ويقول أحد المواطنين إنه سمع، لحظة الانفلاق، صوتاً أشبه بصوت حرب لم يَسمع مثله من قَبل. ومِن جبل قوش قاياسي في محافظة قهرمان ماراش، كانت ترتفع سحب الدخان الأسود من بين الثلوج التي تغطّي الجبل، مثيرةً الخوف في نفوس السكّان، فيما أكد الخبراء أن ما جرى مجرّد انزياح لبعض الكتل الترابية نتج منه دخان أسود. وفي الوقت ذاته، سُجِّل اعتقال العديد من متعهّدي الأبنية المنهارة، بينما كانوا يهمّون بالهرب عبر المطارات إلى قبرص وغيرها، وذلك بتهمة «الغشّ في البناء».
ولا شكّ في أن إحدى أكبر المشكلات التي تواجه أنقرة، تتمثّل في كيفيّة إيواء أولئك الذين أصبحوا بلا مأوى، وأعدادهم بالملايين. ولهذا، أًمر الرئيس التركي بإغلاق الجامعات حتى مطلع الصيف المقبل، والتدريس فيها عن بعد، وبالتالي إخلاء جميع بيوت الطَّلبة الجامعيّين في جميع أنحاء تركيا، لإسكان منكوبي الزلزال بدلاً منهم. لكن هذا القرار لاقى اعتراضات كثيرة، إذ توجّه الرئيس السابق لـ«حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، صلاح الدين ديميرطاش، من سجنه، إلى إردوغان، قائلاً إن عليه أن يَفتح قصوره للمنكوبين، وليس بيوت الطَّلَبة الذين لا يعرفون إلى أين يذهبون. من جهتهم، فوجئ عدد كبير من الطلاب في إسطنبول ومرسين وغيرهما، بعدما وجدوا أغراضهم في المدن الجامعية وقد جُمِعت ووضِعت في أكياس نفايات كبيرة، أمام المساكن ليأتي أصحابها ويأخذوها. واعترض آخرون بالقول: «أليس لدى الدولة مال لتُسكن المنكوبين في الفنادق، بدلاً من تشريد الطلاب». وفي هذا الجانب، رأت صحيفة «قرار» أن قرار إخلاء بيوت الطَّلبة أثار، من جديد، مسألة الوجود السوري في تركيا، حيث إن معظم طلاب المدينة الطالبية للبنات في مرسين هم من أبناء اللاجئين السوريين الذين يقطنون في المناطق المنكوبة سواء داخل تركيا أو في الداخل السوري، ولا يمكنهم متابعة التعلم عن بعد. وفي هذا الإطار أيضاً، حذّر وهاب سيتشير، رئيس بلدية مرسين الكبرى التابعة لـ«حزب الشعب الجمهوري» المعارِض، من الأعداد الضخمة التي تفِد إلى المدينة، قائلاً إنها غير قادرة على استيعاب الوافدين واستضافتهم. وحمّل رئيس البلدية، محافظ المدينة مسؤولية إصدار أمر إخلاء بيوت الطلاب السوريين والأجانب، لإسكان الأتراك محلّهم. وعلى هذه الخلفية، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي حملات ضدّ اللاجئين السوريين، فاتُّهم الطلاب السوريون بأنهم لا يكترثون بما يجري، ويدخّنون النرجيلة، مستفزّين بذلك مشاعر المواطنين الأتراك. وبحسب «قرار» أيضاً، فإن المئات من المغرّدين، أيّدوا موقف رئيس البلدية، وقالوا: «نحن أيضاً كشعب لم يَعُد بإمكاننا التعامل مع اللجوء السوري. كفى». وغرّد آخرون: «إن اللاجئين السوريين باتوا يشكّلون مشكلة أمنية، ويجب إسكانهم على الحدود في الخيم التي ترسلها الدول الخارجية. وليس مرسين فقط، بل كلّ الأمّة التركية لم تَعُد لديها القدرة على تحمّل هذا العبء».
ومع دخول الزلزال التركي سوق الصراع السياسي الذي انفتح على مصراعيه قبل مئة يوم من الانتخابات الرئاسية المقرّرة في 14 أيار المقبل، شنّ زعيم «حزب الشعب الجمهوري»، كمال كيليتشدار أوغلو، هجوماً على إردوغان، قائلاً إن «تسليم البلاد لإدارة شخص واحد هو الخطر بعينه. وبسببه، تمّ تهميش كلّ المؤسّسات التي كنّا نراها خلال الأزمات والكوارث، مثل الهلال الأحمر التركي الذي أُلحق بهيئة إدارة الكوارث والحالات الطارئة». وأضاف أنه «في خضمّ الزلزال، يهدّد إردوغان المعارضة بفتح الدفاتر. عن أيّ دفاتر يتحدّث سوى دفاتر الغضب والحقد. إنهم يأكلون عقولهم مع الخبز والجبنة. إردوغان يقول: «أنا رأس الدولة. وما أقوله هو الذي سيُعمَل به». بهذه العقلية يديرون الدولة. تركيا لا يمكن أن تُدار من قِبَل هذا الشخص الذي أصبح رهينة غطرسته. العالم كلّه استنفر، فيما لم يُسمع صوت رئيس هيئة الكوارث. إنه لا يقوم بدوره أو لا يسمحون له القيام بدوره. لقد أصبح الهلال الأحمر التركي مجرّد منظّمة للتبرّع بالدم. لقد نزعوا منها هويتها التاريخية. لم تعد هيئة إدارة الكوارث مؤسّسة ثقة، وأموالها تذهب للرواتب العالية ولوجهات لا يعرفها أحد». وتابع كيليتشدار أوغلو: «المؤسسات الأمنية من جيش ودرك وغيرهما، كانت الأولى في الميدان لدى وقوع الكوارث والزلازل، وخلال 12 ساعة كانت تبني الخيم والمستشفيات الميدانية والمراحيض وتؤمّن المطابخ الطازجة. أما اليوم فينتظرون التعليمات من أعلى الهرم وينتظرون ساعات وساعات، ومن أجل التحقُّق من الخسائر ألّفوا لجاناً من المعلمين والأئمة بدلاً من الخبراء». وفي تصريح آخر بعد جولة في مناطق الزلزال، رأى زعيم «الشعب الجمهوري» أن «تغيير النظام وحده لم يَعُد كافياً. المطلوب إجراء تغييرات ضخمة جدّاً»، مضيفاً: «يتّهمونني بإدخال السياسة في الفاجعة. لكن هل يعقل أن يبدأ عمر تشليك (الناطق الرسمي باسم «حزب العدالة والتنمية») ذلك، والقول إن نواب حزبَي العدالة والتنمية، والحركة القومية، موجودون على الأرض؟ أيّ استثمار في السياسة هذا؟ ثمّ يتّهموننا بإدخال السياسة في كلّ شيء. لكن أقول إن السياسة خُلقت لمثل هذه الحالات من أجل الشعب وإيصال صوته. وأنا أفعل ذلك».
بدأت تتقدَّم التكهنات حول مصير مدينة إسطنبول، حيث يُطلِق الخبراء تحذيرات شديدة في شأن ما قد ينتظرها في قادم الأيام


وتعليقاً على ما تقدَّم، كانت الصحافة التركية ذكرت أن خبراء «هيئة إدارة الكوارث» أعدّوا، منذ فترة، تقريراً لم يُنشر حول التعفّن الذي أصاب الهيئة، والتوصيات اللازمة التي لم يُنفّذ منها شيء، بل عملوا على محاولة إخفاء التقرير عن الصحافة. وكشفت كيف أن «موازنة رئاسة الشؤون الدينية، تبلغ خمسة أضعاف موازنة إدارة الكوارث». وعلى رغم أن القضيّة لم تُطرح بعد بشكل جدّي، ولم تَدخل بازار الصراع، لكنّ آثار الزلزال والدمار الذي لحق بمئات آلاف المنازل، ولا سيما في أنطاكيا وقهرمان ماراش، ونزوح الملايين من المناطق المنكوبة، ستلقي بكامل ثقلها على مصير الانتخابات الرئاسية والنيابية التي ستجري بعد مئة يوم، واحتمال تأجيلها ولو بضعة أشهر حتى تستعيد البلاد بعض توازنها الجغرافي والسكاني. ذلك أن إجراء الانتخابات في ظلّ هذه الظروف، لن يكون ممكناً لوجستياً في المناطق المنكوبة، ولن يصبّ في مصلحة إردوغان، على رغم كلّ محاولات استيعاب نتائج الزلزال ومحو آثاره المدمِّرة، حيث يتمّ تحميل السلطة الحالية كل موبقات ما جرى.
وتابع كتّاب المعارضة حملتهم على السلطة التي اتهموها بالفشل الذريع، بل وبـ«التواطؤ» في ما أصاب البلاد من نكبة. ووصف إبراهيم كيراس، في «قرار»، ما جرى بأنه «تهدّم الدولة على رأس الأمّة التركية»، وأن الدولة «تمارس الأخطاء واحداً تلو الآخر، وليس آخرها إغلاق كلّ حساب على «تويتر» يمارس السياسة في يوم كهذا»، مبيّناً أن «السلطة تدعو المواطنين إلى التزام الصمت والسكوت على أخطائها، فيما أفراد السلطة الحاكمة يمرّون بمرحلة هستيريا تجاه الانتقادات التي تُوجَّه إليهم، ويحاولون حجب الحقيقة عن الناس. لكن هؤلاء سيرفعون صوتهم وهم يدركون أن الذي وقع فوق رؤوسهم لم يكن ركاماً خرسانيّاً، بل سوء الإدارة، وما وقع تحت الحطام هو السياسات المروّعة التي حاولت تقديم نفسها على أنها دولة حديثة». وبحسب كيراس، فإنه «لا يمكن التستُّر على السياسات التي تُبقي حتى جيش الدولة بعيداً من منطقة الكوارث. ولا يمكن عرض القضيّة على أنها بين يمين ويسار وبين علمانية ودين. أُمّتنا طاهرة وليست غبية». أما في صحيفة «جمهورييات»، فكتب أورخان بورصه لي، قائلاً إنه «في الذكرى المئوية للجمهورية، يجب إعادة إنشاء الجمهورية من جذرها... إن مثل هذه الرشوة والإهمال والربح السريع والغشّ لا يمكن أن تستمرّ، ويجب تغيير النظام من قمّة الرأس وحتى أخمص القدمين. والانهيار الكبير الذي نشهده في الذكرى المئوية يُظهِر كم أن هذا التغيير عاجل جدّاً».
وعلى رغم قدوم مئات فرق الإنقاذ إلى تركيا، غير أن قضيّة جديدة أثارت علامات استفهام حول دوافعها، وهي إعلان فرق إنقاذ النمسا وألمانيا التي تعمل في هاتاي وقهرمان ماراش وغيرهما، أنها أوقفت عملها لأسباب أمنية مع سماع إطلاق نار في محيط عملها. وقد اعتبر وزير الداخلية، سليمان صويلو، بيان هذه الفرق «افتراء، ولا يوجد أيّ حادث أو تهديد أمني حيث تعمل كل الفرق الأخرى من دون مشكلات». وفي ظلّ استمرار تدفُّق المساعدات الأجنبية إلى البلاد، سُجّل تطور لافت، إذ فُتحت الحدود بين تركيا وأرمينيا للمرّة الأولى منذ 35 عاماً لمرور خمس شاحنات أرمينية محمّلة بمساعدات إنسانية لمنكوبي الزلزال.
ومع مرور الوقت على زلزال 6 شباط، بدأت تتقدَّم التكهنات حول مصير مدينة إسطنبول، حيث يُطلِق الخبراء تحذيرات شديدة في شأن ما قد ينتظرها في قادم الأيام. ووفق ماركو بونهوف، من «مركز أبحاث الجيولوجيا» الألماني، فإن «زلزال 6 شباط قد أخّر زلزال إسطنبول. لكنه أتى بمثابة إنذار قوي للمدينة. ويمكن أن يحدث في أيّ لحظة». ومن جهته، يلفت الباحث الألماني في شؤون الزلازل، غيرنو هارتمان، من «معهد الزلازل الفدرالي» في هانوفر، إلى أن «الزلازل التي حصلت لا تُغيِّر شيئاً حول مخاطر الزلزال في إسطنبول. مخاطر حدوث زلزال في إسطنبول لا تزال عالية». ويضيف أن «الزلزال يمكن أن يحدث قريباً أو بعد سنوات. لذا، يجب الاستعداد له منذ الآن». أمّا الباحثة الأميركية في الزلازل في جامعة «كورنيل» في ولاية نيويورك، جوديث هوبارد، فتردّ، في هذا الإطار، بأن «ما تقوله جدّي إلى آخر درجة، وهو أن إسطنبول معرّضة لزلزال كبير، أكثر من أيّ زمن مضى». فإلى الجنوب من المدينة، تضيف: «يقع الآن فالق جاهز للانكسار، حيث يوجد «فراغ زلزالي». وهذا الفالق، بحسبها، تعرّض لزلزالَين كبيرَين عامَي 1509 و1766، وربّما يتكرّر كل 200-250 عاماً، وربّما بقوّة سبع درجات. ولكنّ الزلزال الأخير الذي جاء عبر أكثر من انكسار، يمكن أن يجعل من زلزال إسطنبول المحتمل متعدّد الانكسارات أيضاً. لهذا، تدعو الباحثة إلى تشييد أبنية ذات جودة عالية، ولو كانت مكلِفة.