كان صوت المنكوبين في زلزال السادس من شباط واحداً: «لقد انتهينا وأفلسنا». وفي كلّ مكان، كانت الحافلات والسيّارات والقطارات والطائرات ووسائل النقل المختلفة تغصّ بعشرات آلاف السكان الذين يغادرون المناطق المنكوبة إلى النواحي الغربية من تركيا. وخلال يومَين فقط، نقلت الخطوط الجوّية التركية، وفقاً لصحيفة «آقشام» الموالية، أكثر من خمسين ألف مسافر، في ما سمّته الصحيفة «هجرة الزلزال». في هذا الوقت، كانت أعداد الضحايا تقترب بسرعة من العشرين ألفاً، والجرحى يتعدّون السبعين ألفاً، مع بقاء عشرات الآلاف تحت الأبنية المهدّمة، وسط نقص كبير في المعدّات وفِرق الإنقاذ، التي تُسابق الوقت لمحاولة إنجاء مَن بقوا أحياء وسط الركام. وتجاوَز الرقم الرسمي للضحايا، حتى الآن، عددهم في زلزال 1999 في شرق بحر مرمرة، والذي بلغ حوالي 18 ألف قتيل و43 ألف جريح. وبحسب صحيفة «يني شفق» الموالية، فإن الزلزال الأوّل في قهرمان مراش، والذي كان بقوّة 7.7 درجات، دمّر أربعة آلاف مبنى، فيما بلغ عدد المباني المدمَّرة نتيجة الزلزال الثاني، والذي كان بقوّة 7.6 درجات وحدث بعد تسع ساعات في المنطقة نفسها تقريباً، ستمئة ألف. وبرّرت صحيفة «يني عقد» الموالية اتّساع حجم الخسائر بالقول إن الدولة لم تكن عاجزة، ولكن الزلزال كان أكبر من التوقّعات، بينما قالت صحيفة «يني تشاغ» إن تركيا خسرت السباق مع الزمن لمواجهة آثار الزلزال.وتُجمع الأخبار التي تُنشر على أن وقائع الأرض تفوق بمرّات ما يُسمع عنها أو يُرى منها على شاشات التلفزة. وفي هذا الإطار، يَكتب مراد آغيريل، في صحيفة «جمهورييات»، أن مباني أنطاكيا تضرّرت منها 70% بصورة كبيرة جدّاً «لا يمكن وصفها»، ذاهباً إلى القول إن المدينة «انتهت، ولكن لا بدّ من المحاسبة لاحقاً». وتَذكر صحيفة «مللي غازيتيه»، بدورها، في عنوانها الرئيس، أن أنطاكيا أصبحت «مدينة من الماضي»، فيما تصف إيلاي أقصوي، نائبة رئيس الحزب الديموقراطي المعارض، في اتّصال مع «الأخبار»، منطقة الزلزال بأنها «تحوّلت إلى صحراء من شدّة الدمار واتّساعه». ويشبّه المهندس شرف ألباغو، من جهته، انهيار المباني الجماعي في وسط قهرمان مراش بـ«فارس رماه الحصان بقوّة مِن على ظَهره»، لافتاً إلى أن «أعمدة الأبنية تكسّرت، وهذا من جرّاء الغشّ في مواد البناء». كذلك، بدت لافتةً استقالة المذيعة المعروفة، ديلارا غوندير، على الهواء مباشرة من تلفزيون «شو تي في»، أثناء حوار لها مع أحد خبراء الجيولوجيا احتجاجاً على ما يسوقه المؤيّدون للحكومة حول أسباب الزلزال، مُخاطِبةً ضيفها بالقول: «هل ستعطيني درساً في أسباب الموت؟ دائماً نعطي دروساً في الموت، لكن هذه المرّة لن تمرّ مثل هذه الدروس».
وإذ تدفّقت المساعدات من كلّ أنحاء العالم على تركيا، بدا لافتاً أن الولايات جاءت إلى السواحل التركية بحاملة طائراتها «جورج إتش دبليو بوش» للمساعدة، ما خلق نفوراً من هذه الطريقة وقلقاً أمنياً. ويقول الأميرال المتقاعد والمعروف، جيم غوردينيز، إن «هناك علامات استفهام كبيرة حول ما إذا كانت الحكومة التركية بالذات طلبت من أميركا توجيه حاملة الطائرات. وفي جميع الأحوال، هي ليست مجهّزة بما يُمكّنها من المساعدة في عمليات الإنقاذ. كما أن تَوجّهها إلى ساحل الإسكندرون يثير حساسيات وطنية كثيرة وقلقاً أمنياً». ويرى العقيد المتقاعد، علي توركشين، بدوره، أن «المساعدة لا تكون بإرسال سفن حربية»، متسائلاً: «لماذا تأتي الحاملة الآن بعد أربعة أيام من وقوع الزلزال؟ إذا كان من مساعدة، فلتكُن الطريقة التي قدّمتها اليونان للمساعدة منذ اليوم الأول، على رغم خلافنا معها، هي النموذج الذي على أميركا أن تحتذي به».
على الرغم من هول الكارثة، فإن تبادُل الاتهامات بالمسؤولية متواصل


وتُحاول الحكومة أن تُسابق الزمن لمواجهة الكارثة والانتقادات. وإذا كان إعلان حال الطوارئ وارداً في مِثل هذه الحالات لتجاوز البيروقراطية، فإن موجة تحفّظات قابلت هذا الإعلان، عادّةً إيّاه مجرّد ذريعة لإسكات حملات الانتقاد، خصوصاً أن إردوغان دافع عن الخطوة بأنها ستتيح للحكومة مواجهة «مجموعات الفتنة». ويرى الحقوقي طورغوت قازان أن «حال الطوارئ يُراد منه قمْع المعارضين، تماماً كما حدث بعد انقلاب 2016، وهي ليست سوى وسيلة للدخول في مناخ الانتخابات والمعارضة تحت الضغط»، فيما يعتقد الحقوقي جلال أولغين أنه لا حاجة إلى هكذا إعلان، و«لكن السلطة التي بقيت تحت الأنقاض تريد استثمار ذلك لتجميع بعض القوّة التي لن يضمنها لها القانون». ويتساءل الرئيس السابق لـ«حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، صلاح الدين ديميرطاش، الموجود في السجن منذ خمس سنوات، بدوره: «ما الذي لم يحصلوا عليه من صلاحيات حتى يفرضوا حال الطوارئ»، متسائلاً: «هل كان عدم الإعلان سيمنع الدولة من مكافحة السرقات وجمع المساعدات ورفع الأنقاض؟ بالتأكيد هناك مخطّط آخر من وراء ذلك».
من جهة أخرى، ينبّه مدير «مرصد قنديللي» الأشهر في تركيا، خلوق أوزأونير، إلى أن الهزّات الارتدادية قد تستمرّ لأكثر من سنة، فيما ينسب معظم الخبراء قوّة التدمير في الزلزال الأخير إلى أنه وقع على دفعتَين متتاليتَين، وهذا يحدث للمرّة الأولى في تاريخ تركيا. ويشير الخبير في «جامعة غازي»، بولنت أوزمين، إلى أن «الزلازل في هذه المنطقة متوقَّعة بشكل دائم، لكن ليس بمثل تلك الضخامة»، مضيفاً أنه «من المدهش أن يحصل زلزال ثانٍ بقوّة أكبر من سبع درجات في المنطقة نفسها. هذا حدث نادر جدّاً». ويرى الباحث ضياء الدين تشاكير، بدوره، أن «الارتدادات ستستمرّ لفترة طويلة، لأن الأرض هنا تحرّكت بقوة، وستستغرق وقتاً طويلاً استعادة الأرض توازنها. لذا لا يزال خطر حدوث زلزال كبير آخر قائماً»، فيما يبيّن عضو «أكاديمية العلوم التركية» وعالم الجيولوجيا، نامق تشاغاتاي، أن «الصفيحة العربية ضغطت على صدْع الأناضول، فتحرّكت هذه غرباً بمقدار ثلاثة أمتار. لكن ليس من المتوقّع أن ينعكس هذا على شمال الأناضول، مع استمرار هزّات صغيرة منفصلة بقوّة 4 درجات إلى الجنوب من هاتاي (الإسكندرون)». كذلك، لا يستبعد عضو الأكاديمية نفسها وعالم الجيولوجيا، جهيد حاوجي، حدوث زلزال جديد منفصل، لافتاً إلى أن «هناك أماكن صدع كثيرة كامنة إلى الجنوب، ويمكن إذا انكسرت صفائحها دفعة واحدة أن تُحدث زلزالاً أكبر بكثير من الزلزال الذي حدث». وفي الاتّجاه نفسه، يعتقد المهندس الجيولوجي، يوجيل يلماز، أن «الارتدادات الزلزالية ستستمرّ شهوراً وليس أياماً»، متوقّعاً أن «يَحدث زلزال قوي جدّاً في إسطنبول، لكن لا أحد يعرف متى. وتركيا لا تستطيع تحمُّل زلزال كهذا. وإذا لم نَقُم باستعداداتنا الآن، فلن يكون هناك مستقبل مشرق».
وعلى الرغم من هول الكارثة، فإن تبادُل الاتهامات بالمسؤولية متواصل. ويرى الكاتب المعروف، مصطفى قره علي أوغلو، في صحيفة «قرار»، أن وصْف الزلزال بـ«كارثة القرن» محقّ للغاية، لأنه نتيجة «إهمال القرن». ويلفت إلى أن «الناس يصرخون من تحت الأنقاض متوسّلين المساعدة، لكنهم يبحثون بشكل يائس عن يد تمتدّ إليهم، ولا نعرف كم عدد هؤلاء تحت الأنقاض، والسؤال دائماً أنه على رغم أنّنا بلد زلازل، فالكارثة والعجز كبيران»، مضيفاً: «لقد تجاهلنا زلزال 1999، وتجاهلنا التحذيرات التي أُطلقت بعده. وحدث الزلزال في قهرمان مراش، والذي كان متوقّعاً أن يَحدث هناك، ولكن لم نعرف فقط متى سيحدث». ويرى قره علي أوغلو أن «الدولة أهملت ربع قرن، من دون أيّ إجراءات، وتُواصل البناء في كلّ مكان من دون الالتزام بشروط السلامة. لو كانت لدينا خطّة، لما مات شعبنا. كلّ البلدان المعرّضة للزلازل تضع مِثل هذه الخطط ولكنّنا لم نفعل. الزلزال كان صدمة، لكن الكارثة كان يمكن تفادي آثارها المدمّرة. الآن، لا فائدة من الشكوى. وما الفائدة بعد أن دُمّر البلد؟».
لكنّ التعليق الأكثر لفتاً للنظر، كان الرسالة التلفزيونية التي وجّهها الصحافي والمخرج المعروف، جان دوندار، الذي كان اضطرّ للهروب إلى ألمانيا، بعدما نشر في عام 2015 وثائق عن تهريب السلاح التركي إلى سوريا في صحيفة «جمهورييات» التي كان يرأس تحريرها. واتّهم دوندار، إردوغان، بأنه «استغلّ زلزال 1999 ليمتطي صهوة الانتخابات ويفوز بها في عام 2002. ومِن بَعدها، كلّ الضرائب التي فُرضت لتذهب إلى صندوق الزلازل، تبخّرت وذهبت إلى المشاريع الربحية وإلى مصالحه والمقرّبين منه، لنجد الآن في زلزال قهرمان مراش النتيجة الثقيلة الماثلة للعيان». وأضاف أن «من جاء إلى السلطة بزلزال سيذهب منه بزلزال. زلزال قهرمان مراش كان القطرة الأخيرة التي جعلت كأس سلوكه تطفح وتنكشف أمام الجميع».
وفي الاتّجاه نفسه، رأى الصحافي مراد يتكين أن إردوغان لم يكن أمامه «سوى تبرير الزلزال بأنه من صُنع القدَر، لكنه في عام 1999 شنّ هجوماً لاذعاً على حكومة بولنت أجاويد بسبب الزلزال والإهمال». وأضاف يتكين: «الآن إردوغان موجود في السلطة منذ عشرين عاماً، هل يمكن أن يقول لنا ماذا فعل اليوم وهو يمسك بكلّ السلطة بشخصه، بدل اتّهام الصحافيين بأنهم "بلا شرف"». وتابع أن «إردوغان عمل بإجراءاته في السنوات الأخيرة على تسريع هدم هياكل الدولة. حتى العديد من مواقع التواصل الاجتماعي يتمّ حظرها الآن كي لا تكشف الحقائق. إن الناس يصابون بالاكتئاب من مجرّد طرح أسئلة لها علاقة بإردوغان»، متسائلاً: «هل ستستفيق تركيا صباح اليوم التالي للانتخابات وتستريح (من إردوغان) مثل رشفة من الماء؟».