طهران | تفاوتت الآراء والتعليقات إزاء العفو الذي أصدره المرشد الإيراني، علي خامنئي، عن آلاف المتّهمين والمدانين على خلفية الاحتجاجات الأخيرة. وإذ رأى البعض أن من شأن القرار أن ينفّس الاحتقان المعتمل في الشارع، يذهب آخرون إلى التقليل من شأنه، معتبرين إيّاه غير كافٍ لترميم الشرخ الذي أحدثتْه الحالة الاحتجاجية. بالتوازي مع ذلك، برز «شقاق» في «التيار الإصلاحي» جلّاه بيان مير حسين موسوي، ودعوته إلى ضرورة تغيير الدستور، وهو الذي كان من أشدّ الداعين إلى «التطبيق الصارم للدستور» و«التحرّك في إطار الجمهورية الإسلامية»، فيما ردّ محمد خاتمي على المقترح المتقدّم بالحديث عن مقترحات لتحسين الوضع، لا تشمل تعديل الدستور أو المسّ به، وهو ما يضع «التيار الإصلاحي» أمام ثنائية: التحرّك في إطار النظام الحالي، أو الانخراط في المعارضة المعادية للجمهورية الإسلامية
لفتت موافقة المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، على اقتراح رئيس السلطة القضائية «العفو وتخفيف عقوبة عشرات الآلاف من المتّهمين والمدانين»، على خلفية الاحتجاجات التي شهدتها البلاد خلال الأشهر الأخيرة، الكثير من الأنظار تجاهها. وإذ رحّب البعض بهذه الخطوة، باعتبارها تصبّ في خانة «جَسر الفجوات»، نظر إليها آخرون بغير طريقة، واعتبروها «عملاً دعائيّاً». وعلى رغم أنه يجري، سنويّاً، العفو عن عدد كبير من المدانين لمناسبة ذكرى انتصار الثورة في إيران، لكن هذه السنة، فقد شمل العفو، فضلاً عن المدانين، عدداً كبيراً من المتّهمين أيضاً، ومعظمهم ممَّن اعتُقلوا على خلفية الاحتجاجات التي اندلعت في أيلول الماضي، في أعقاب وفاة الشابة مهسا أميني في أحد مراكز الشرطة في طهران، ودامت نحو أربعة أشهر. وفي حين كانت، في بادئ الأمر ضدّ الحجاب الإلزامي، لكنها أخذت تستهدف شيئاً فشيئاً مجمل النظام السياسي. ومن جهتها، تصِم السلطات الإيرانية، هذه الاحتجاجات بـ«أعمال الشغب»، وتتّهم دولاً أجنبية بالضلوع فيها.
وعلى رغم أنه لم يتمّ، حتى الآن، الإعلان رسميّاً عن أعداد قتلى الاحتجاجات، بيد أن تقارير غير رسمية مختلفة، تتحدّث عن سقوط ما لا يقلّ عن 500 شخص، هم مجموع المحتجّين وقوات الأمن. ومع ذلك، فإن المصادر الرسمية في إيران، لم تقدّم إحصاءات دقيقة عن الذين تمّ اعتقالهم، لكن المدّعين العامين تحدّثوا عن صدور لوائح اتهام في حقّ «آلاف الأشخاص»، فيما أشارت بعض المصادر غير الرسمية إلى اعتقال نحو 20 ألفاً من المحتجّين. وكانت الاحتجاجات قد أحدثت هزّة عنيفة للمناخ السياسي الإيراني، وزادت من عمق الفجوات السياسية. وإزاءها، رأى كثيرون أن على نظام الحُكم أن يتحرّك في اتّجاه تحديد الأسباب الكامنة خلف ما جرى، ومعالجتها، وكذلك سدّ الثُغر، وجَسر الفجوات الداخلية التي طفت إلى السطح عقب التظاهرات التي خرجت. ويعتبر البعض، في هذا السياق، العفو الصادر عن المتّهمين والمدانين، «إجراء إيجابيّاً». إذ قال علي مطهري، وهو سياسي أصولي معروف، إن العفو عن المحتجّين «يمكن أن يصلح ويسدّ الثُغر والتصدّعات التي حدثت»، فيما اعتبر مجيد أنصاري، وهو من الوجوه الإصلاحية، أن الأمر الأخير للمرشد الأعلى «يمكن أن يستحدث مناخاً اجتماعيّاً أكثر هدوءاً واستقراراً في البلاد». ورحب المحامي الإيراني الشهير، محمود علي زادة طباطبائي، من جهته، بالعفو الصادر، قائلاً إنه «سيسدّ الثُغر ويحقّق الانسجام والتماسك الاجتماعي». أمّا صحيفة «جوان» القريبة من «الحرس الثوري»، فرأت أنه «عفو ثوري يتّسم بالكرامة والعزّة وغير مسبوق».
لكن هذا العفو جاء مع استثناءات، إذ لم يشمل جميع المتّهمين والمدانين في الأحداث الأخيرة. ووفقاً للشروط التي أعلنتها السلطة القضائية، فإن الذين اتُّهموا بـ«التجسّس لمصلحة الأجانب، والتواصل بشكل مباشر مع عملاء أجهزة الاستخبارات الأجنبية، واجتراح أعمال القتل والجرح المتعمّدة، وتخريب وإحراق المنشآت الحكومية والعسكرية والعامة»، ورُفعت ضدّهم «شكوى أو دعوى خاصّتَين»، لا يمكن الإفراج عنهم. ومن جهة أخرى، تمّ الإعلان عن أن الذين شملهم العفو يجب أن «يعبّروا عن ندمهم، ويحرّروا تعهّداً خطيّاً» حتماً. وعليه، فإن بعض المنتقدين ذهب إلى أن الشروط المعلَنة للعفو أو تخفيف عقوبة المعتقلين، «متشدّدة»، وأنها تُبقي الباب موارباً أمام احتمال إعادة اعتقال قسم رئيس من المفرج عنهم.
جاء العفو مع استثناءات، إذ لم يشمل جميع المتّهمين والمدانين في الأحداث الأخيرة


وتعليقاً على صدور العفو، رأت «منظمة حقوق الإنسان الإيرانية»، التي تتّخذ من جنيف مقراً لها، والقريبة من معارضي النظام في إيران، أن الإجراء المعلَن «ينطوي على رياء»، وأنه «دعائي»، مبيّنةً أن المحتجّين مارسوا «حقّهم في الاحتجاج»، وأن الاعتقال والأحكام الصادرة في حق هؤلاء المواطنين «تفتقد إلى الوجاهة»، و«ليس أنه يجب إخلاء سبيل جميع المحتجين من دون قيد أو شرط فحسب، بل إن تقديم مَن أَصدروا الأوامر بالقمع ونفّذوها، إلى المحاكمة، هو حقّ جماعي في سياق تطبيق العدالة».
ومع الترحيب المبدئي لمعظم الصحف الإيرانية، أمس، بهذا القرار، إلّا أن بعضها، من مثل «فرهيختكان»، قد لوّحت بأن العفو لن يكون كافياً، إذا لم يترافق مع إجراءات حقيقية على أرض الواقع، كالعمل على ما سمّته «ترميم الشرخ المجتمعي» الحاصل في إيران. وقالت إنه إذا لم يتمّ العمل بشكل أساسي والبحث في حلول جذريّة للأزمة الحالية، فإن عودة الاحتجاجات من جديد ليست مستبعدة على الإطلاق. وفي هذا المجال أيضاً، تساءل الكاتب السياسي الإصلاحي، عباس عبدي، في مقاله في صحيفة «اعتماد»، عن سبب إظهار القضاء الإيراني في بيانه حول العفو، المن على المتظاهرين، وقال: «ما الذنب الذي ارتكبه المتظاهرون حتى تمنّوا عليهم بهذا العفو؟». ورأى أن العفو، إذا كان يشمل فقط الأفراد المغمورين الذين تم اعتقالهم في الشوارع وأثناء الاحتجاجات، فإن ذلك لن يحلّ المشكلة، والسبب هو أن تهمة «الإخلال بالأمن القومي» التي استثنت السلطات المتّهمين بها من العفو، سيكون من السهل إلصاقها بمَن أرادوا إبقاءه في السجن.
وبعد يوم من صدور العفو، أصدر مير حسين موسوي، زعيم الاحتجاجات التي أعقبت انتخابات عام 2009 الرئاسية والتي عرفت بـ«الحركة الخضراء»، والخاضع الآن للحجز المنزلي، بياناً أثار جدلاً. وتحدّث فيه بصراحة عن ضرورة «تغيير الدستور»، و«تشكيل مجلس تأسيسي» لصياغة دستور جديد. وكان موسوي إبان عهد الإمام الخميني، مؤسّس الجمهورية الإسلامية، رئيس وزراء إيران ومن المقرّبين والأوفياء له، وأكد في البيانات التي أعقبت احتجاجات الانتخابات الرئاسية لعام 2009، ضرورة «التطبيق الصارم للدستور، والتحرّك في إطار الجمهورية الإسلامية». لكنه يقول اليوم إن «التطبيق الصارم للدستور بوصفه شعاراً كان يُعقَد الأمل عليه قبل ثلاثة عشر عاماً، لم يَعد فاعلاً بعد الآن». واقترح موسوي تشكيل هيكلية ونظام جديدَين بدلاً من الجمهورية الإسلامية، لأن «إيران والإيرانيين بحاجة إلى تطوّر أساسي وجاهزون له، ترسم ملامحه الرئيسة، حركة المرأة، الحياة والحرية»، في إشارة منه إلى الشعار المحوري الذي أطلقه المحتجّون بعد وفاة أميني. وأعقب بيان موسوي، آخر أصدره محمد خاتمي، الرئيس الإيراني الأسبق وزعيم «التيار الإصلاحي» الذي دعم موسوي في انتخابات 2009 الرئاسية، لمناسبة ذكرى انتصار ثورة 1979، أقرّ فيه بـ«هزيمة الإصلاحات»، قائلاً إن «للشعب الحقّ في أن يخيب ظنه بها». ومع هذا، قدّم اقتراحات لتحسين الوضع، فيما تنفيذها «ليس منوطاً بتغير وإصلاح الدستور (والذي هو ضروري حتماً في محلّه)، بل إن كل هذه الإصلاحات ممكنة في ظل العودة إلى روح (وحتى نصّ) هذا الدستور ذاته».
ويذهب بعض المراقبين إلى اعتبار أن بيان خاتمي جاء ردّاً على البيان الراديكالي لموسوي. ويبدو أن التباين في موقفَي موسوي وخاتمي، بوصفهما وجهَين رئيسَين لـ«التيار الإصلاحي» في إيران، إذ أكد أحدهما ضرورة تغيير الدستور والآخر ضرورة العودة إليه، يمكن أن يجعل التيار يواجه تصدُّعاً وتحدّيات جادّة، ويضعه أمام هذه الثنائية: إمّا التحرك في إطار النظام الحالي، أو الانخراط في المعارضة المعادية للجمهورية الإسلامية.