على بُعد مئة يوم من الانتخابات الرئاسية التركية، يتصاعد التوتّر بين أنقرة والعواصم الغربية، التي لا تفتأ تستدعي المزيد من أسباب الخلاف مع تركيا، عامِدةً، في الأيام الأخيرة، إلى إغلاق عدد من قنصلياتها تِباعاً في إسطنبول، بدعوى وجود «تحذيرات أمنية» من هجمات «إرهابية». وإذ قابلت أنقرة تلك الخطوات بالتهوين من شأن الحديث عن «المخاطر»، وإدراج القرارات الغربية في سياق «حملة دولية» على تركيا التي لا تزال على موقفها الرافض تسهيل انضمام السويد إلى حلف «الناتو»، فإن الرغبة الغربية باتت جليّة في إلحاق أكبر أذى سياسي ومعنوي بالرئيس رجب طيب إردوغان، أملاً بخروجه من رئاسيات 2023 مهزوماً
إلى ما قبْل قرار ثماني دول أوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة، إغلاق قنصليّاتها في مدينة إسطنبول التركية، لم يكن في الأفق ما يشير إلى تطوّرات تستدعي تصعيداً من هذا النوع. ولذلك ربّما، وصف وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، القرار بأنه «حرب نفسية» ضدّ تركيا، تأتي في إطار «عملية دولية». وبرّرت الدول التسع، وهي: إيطاليا، إسبانيا، السويد، هولندا، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، الدانمرك والولايات المتحدة، خطوتها بوجود «تحذيرات أمنية» من وقوع هجمات «إرهابية» ضدّ سفاراتها وقنصليّاتها، كما ضدّ مراكز عبادة مسيحية ويهودية، وأماكن تسكنها جاليات غربية في إسطنبول. وإلى أبعد من ذلك، ذهبت القنصلية الأميركية، بتحديدها في بيانها الصادر في 27 كانون الثاني، أماكن بعينها «مهدَّدةً» في المدينة التركية، مِن مِثل تقسيم وباي أوغلو واستقلال وغلطة، قبل أن تحذو حذوها البلدان المذكورة الأخرى، ولا سيما فرنسا التي أغلقت أيضاً مؤسّسات تربوية تابعة لها كـ«ثانوية بيار لوتي» في باي أوغلو.
في المقابل، استنكرت الخارجية التركية حالة الذعر التي يحاول بعض الغرب خلْقها في تركيا، معتبرةً أن ما تفعله تلك القنصليات «لا يخدم سوى الإرهاب بعينه». وأكّدت الوزارة، بعد استدعائها سفراء الدول التسع، أن «تركيا تقوم بكامل التزاماتها لجهة حماية المؤسّسات الأجنبية»، فيما وصف الناطق باسم «حزب العدالة والتنمية» الحاكم، عمر تشيليك، التحذير من «مخاطر أمنية» بأنه «عمل غير مسؤول لا يمكن قبوله»، قائلاً إن «مصدر المخاطر ليس تركيا، بل الحركات السياسية المعادية للإسلام في أوروبا وعمليات حرْق الكتاب المقدّس للمسلمين»، مؤكداً أن «تركيا ترفض كلّ محاولات اتّهامها وتشويه صورتها». وربَط وزير الداخلية، سليمان صويلو، بدوره، قرارات الإغلاق التي تتابعت في الأيام الأخيرة من الشهر المنصرم، بـ«حملة غربية على تركيا لا تريد لها أن تكون مستقلّة وحرّة»، لافتاً إلى أن تلك الحملة «كان لها شقّ قانوني يتعلّق بطلب الإفراج عن بعض المعتقَلين السياسيين، وخصوصاً المؤيّدين للغرب، وعندما فشلت هذه الدول في ذلك، انتقلت إلى التحذير من زيارة تركيا»، التي زارها في عام 2022 أكثر من 51 مليون سائح، مُحقِّقين لها مدخولاً لا يقلّ عن 46 مليار دولار. وتساءل صويلو مستنكراً: «إذا كانت الدول الغربية المعنيّة على اطّلاع مسبق على احتمال قيام عمليات إرهابية ضدّها، فلماذا لم تتوقّع قيام حزب «العمال الكردستاني» بعملية شارع الاستقلال قبل فترة؟ ولماذا لم تتبادل المعلومات مع السلطات التركية؟».
وإذ يَذكر الكاتب مراد يتكين أن مصادر دبلوماسية غربية أبلغتْه أن قرار إغلاق القنصليات جاء بناءً على «معلومات موثوقة» تعمل تركيا على دراستها، فإن معظم المحلّلين يربطون بين القرار والتوتّر السائد على خطّ أنقرة - استوكهولم، على خلفيّة قيام كلّ من المتطرّفَين: راسموس بالودان في السويد، وإدوين واغنسفيلد في هولندا، بإحراق نسخ من القرآن الكريم، وفتْح المدّعي العام لأنقرة تحقيقاً في ذلك. مع هذا، تَنقل محطّة «خلق» التلفزيونية المعارضة عن بيدروس شيرين أوغلو، رئيس «اتّحاد الأوقاف الأرمنية» في تركيا، قوله إنه بناءً على معلومات، أَرسل إلى مسؤولي الجماعة الأرمنية رسالة عبر هواتفهم جاء فيها: «لا أريد أن أزعج مزاجكم، لكنّني مضطرّ لأنقل إليكم أن ثلاثة من عناصر داعش المدرَّبين عسكرياً قد دخلوا البلاد». كما تَنقل عنه أن هدف هؤلاء هو محاولة اغتيال بعض الزعماء الدينيين والمدنيين، وأنه أوعز إلى «الجماعة» باتّخاذ التدابير والاحتياطات اللازمة في النشاطات العامّة والمدارس، وتجميد النشاطات من شهرَين إلى ثلاثة أشهر، وإلغاء كلّ الاجتماعات المخطَّط لها، وهو أبلغ السلطات التركية بالأمر، لتعْمد الأخيرة إلى مضاعفة إجراءات الحماية. وعلى رغم ما تَقدّم، يعتقد شيرين أوغلو أنه «لا داعي للذعر»، لافتاً إلى أنه نَصح رؤساء «الأرمنية» بتبرير الإجراءات الجديدة بـ«إنفلونزا الخنازير».
يربط معظم المحلّلين بين قرار إغلاق القنصليات والتوتّر السائد على خطّ أنقرة - استوكهولم


من جهته، يرى الكاتب صولي أوزيل، في حوار تلفزيوني، أن مبرّرات إغلاق القنصليات هي بالفعل المعلومات الاستخبارية الموثوقة حول وجود تهديدات، لافتاً إلى أن «العديد من عناصر داعش دخلوا أخيراً إلى تركيا من سوريا، بعدما قُتل بعض قياداتهم في إدلب»، وأن هؤلاء «ربّما يسعون إلى الانتقام». على أن نهاد أولوداغ، وهو مدير الأخبار في تلفزيون «سي أن أن تورك»، يعتقد بأن حجّة الدول الغربية ليست في محلّها؛ إذ إن «السلطات الأمنية التركية نفّذت بنجاح عمليات أمنية، واعتقلت قبل أيام 15 عنصراً من داعش، أُودعَ ستّة منهم السجن»، مضيفاً إن «هذه العملية لم تكن جديدة، بل هي استمرار لمكافحة تركيا تنظيم داعش، حيث نفّذت 1042 عملية ضدّه في عام 2022، واعتقلت 1981 عنصراً تابعين لها»، مضيفاً إن «كلّ أوروبا لم تعتقل هذا القدْر من الإرهابيين لأن تركيا هي التي تقوم بمحاربة داعش بشكل جدّي». من هنا، يرى أولوداغ أن إغلاق القنصليات جاء بهدف إظهار تركيا «أنها بلد غير آمن»، بعدما أعلن محافظ إسطنبول أن 36 في المئة من السائحين الأجانب، أي حوالي 16 مليوناً و18 ألفاً و726 سائحاً، كانت وُجهتهم مدينة إسطنبول تحديداً، مبيّناً أن هؤلاء يأتون من روسيا وألمانيا وإيران والولايات المتحدة وإنكلترا، ويقصدون إسطنبول «لأنها منطقة آمنة وليس فيها أيّ مخاطر جدّية». ويتابع أن «إغلاق القنصليات هدفه نشر الخوف ومنع مجيء السائحين»، وخصوصاً أن تركيا تنتظر موجة كبيرة منهم في عام 2023، لافتاً إلى أن «السلطات الأمنية تعرف كيف يجري تسريب معلومات استخبارية إلى عناصر أجنبية، واتّخاذها ذريعة لقرار الإغلاق وتشويه سمعة تركيا». ويُذكّر الإعلامي التركي بأن بلاده «تخوض حروباً استخبارية على أرضها؛ فهي فكّكت خليّة إيرانية كانت تريد استهداف معارضين إيرانيين، وأخرى للموساد الإسرائيلي كانت تستهدف فلسطينيين في تركيا، ومن ثمّ شبكة تجسّس يونانية»، متابعاً أنهم «يريدون تحويل تركيا إلى مركز للعملاء والجواسيس».
وتأتي التطوّرات المتعلّقة بإغلاق القنصليات في سياق حملات متوالية في الأوساط الغربية ضدّ تركيا، ولا سيما بعد اعتراض الأخيرة على انضمام السويد إلى حلف «الناتو». وفي هذا الإطار، يحمّل الكاتب جورج موناستيرياكوس، في صحيفة «كاتيميرني اليونانية»، أنقرة، مسؤولية تأخير الانضمام، داعياً إلى طرْدها من الحلف، ومعتبراً أنه «حان الوقت لنقول لها كفى». كذلك، صنّف «تقرير الديموقراطية في العالم»، الذي أصدرتْه مجلّة «الإيكومونيست»، تركيا في المرتبة 103 من أصل 164 دولة، وفي خانة «الهجينة» التي تسبق خانة «الأنظمة الاستبدادية»، وتلي خانتَي «ديموقراطية كاملة» و«ديموقراطية ناقصة». وكان تقرير سابق قد صدر عن الاتحاد الأوروبي، انتقد «وضْع الديموقراطية» في تركيا بسبب الاعتقالات في صفوف المعارضين، وإقالات رؤساء البلديات الأكراد، وتماهي الأداء القضائي مع توجّهات السلطة السياسية. ويجيء كلّ ما تَقدّم على بُعد مئة يوم تقريباً من الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في 14 أيار المقبل، والتي لا يخفي الغرب، بمسؤوليه ووسائل إعلامه، رغبته القوية في أن يَخرج الرئيس رجب طيب إردوغان منها خاسراً.