في الجزء الثالث والأخير من السلسلة التي تنشرها «الأخبار» حول موجة «العسكرة» المتصاعدة في الشرق الآسيوي، تَبرز كوريا الجنوبية بوصفها أحد أبرز الأطراف الساعية إلى تعزيز قدرتها وحضورها العسكريَّين، في مواجهة ما تراه «تغوُّلاً» متزايداً لدى جارتها الشمالية، التي تبدي، بدورها، نزوعاً متعاظماً نحو ضمان الردع المطلوب ضدّ أعدائها. وعلى رغم تأكيد الولايات المتحدة، مِراراً، التزامها بـ«إجراءات الردع التقليدية لحماية كوريا الجنوبية» وفق ما كرّره وزير دفاعها، لويد أوستن، قبل أيّام، في محادثاته مع نظيره الكوري الجنوبي، فإن أوستن نفسه أعلن الاتفاق مع حليفة بلاده على إجراء «مراجعة استراتيجية» لتلك الإجراءات، بناءً على إلحاح سيول، في وقت يرى فيه خبراء أن واشنطن لم يَعُد أمامها إلّا خياران: إمّا إشراك حلفائها الكوريين في إدارة «الأصول الاستراتيجية» الأميركية المتمركزة على أراضيهم، وبصورة خاصة الأسلحة النووية، أو إعطاء موافقتها على مقترح الرئيس يون سوك يول بتطوير قنبلة نووية خاصة ببلاده
مع وصول جو بايدن إلى سدّة الرئاسة الأميركية، كان السؤال المطروح لدى حلفاء واشنطن الآسيويين على الدوام، يتعلّق بكيفية مقاربته لأحد أكثر الملفّات الداهمة والمتفجّرة في الشرق الأقصى، وتحديداً ملفّ الأزمة في شبه الجزيرة الكورية. وبين مَن رجّح أن يحذو بايدن حذوَ إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما - تولّى إبّانها الأوّل منصب نائب الرئيس -، بتبنّي نهج يمزج بين الانفتاح الديبلوماسي والعقوبات الاقتصادية، وبين مَن ذهب إلى أن المقاربة الأميركية للملفّ الكوري الشمالي خلال عهد بايدن ستتركّز على إبقائه ضمن وضعية «الطيّار الآلي» من دون تغيير، أي أن يراوح مكانه في الدائرة المفرغة من متابعة التجارب الصاروخية والنووية لكوريا الشمالية، من ناحية، وفرْض المزيد من حُزم العقوبات ضدّ بيونغ يانغ، من ناحية ثانية، مع الاكتفاء بترحيل الملفّ برمّته إلى الإدارة المقبلة، وسط ترجيحات بأن تكون «جمهورية». ومنذ أن شرح وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، خلال جلسة المصادقة على تعيينه في الكونغرس، مقاربته في شأن ضرورة تكثيف الضغوط على بيونغ يانغ لدفعها إلى حلّ تفاوضي لملفّها النووي، بدا واضحاً أن الإدارة «الديموقراطية» تجترّ السياسات المعهودة للإدارات الأميركية السابقة حيال هذا الملفّ، والتي تدمج بين أدوات الردع، والاحتواء، وأسلوب العزلة والعقوبات.

تطوّرات غير مسبوقة منذ 2017
أواخر العام الماضي، ارتعدت فرائص أرض شبه الجزيرة الكورية وسمائها، حين أجرت بيونغ يانغ تجربة صاروخية فوق اليابان، هي الأولى من نوعها منذ عام 2017، كجزء من تدريب عمليّاتي على شنّ ضربة نووية، وذلك بموازاة تسيير طلعات جوّية على مقربة من المجال الجوّي لكوريا الجنوبية. التجربة الصاروخية الجديدة لكوريا الشمالية، والتي تَخلّلها إطلاق نحو 65 صاروخاً باليستياً، في ما يمثّل أعلى معدّل إطلاق يومي تسجّله البلاد خلال يوم واحد في تاريخ مناوراتها العسكرية، أعقبت تدريبات عسكرية شاركت فيها جارتها الجنوبية، إلى جانب الولايات المتحدة. فواشنطن، شأنها شأن حلفائها القلقين في سيول، تتخوّف بشدّة من تحوُّل ميزان القوى رويداً رويداً لمصلحة بيونغ يانغ، في ظلّ مُواصلة الأخيرة تحديث قوّاتها المسلّحة كمّاً ونوعاً، بخاصّة على الصعيدَين الصاروخي والنووي، عبر نجاحها في تصنيع «القنبلة الهيدروجينية»، وترسانة نووية تُراوح بين حوالى 100 و300 رأس، وفق التقديرات الغربية، إضافة إلى إنتاج صواريخ قادرة على الوصول إلى أهداف داخل الأراضي الأميركية، بعضها يمكن إطلاقه من الغوّاصات. حجم الخوف المسيطر على الجانب الآخر، يوجزه مسؤول كوري جنوبي رفيع، بالقول: «على مدى 20 عاماً، لم يتغيّر شيء سوى أن ترسانة (الكوريين) الشماليين أصبحت أكبر، وأشدّ قوّة ممّا كانت عليه».
لكن عام 2022 كان استثنائيّاً داخل الكوريتَين؛ ذلك أن كوريا الشمالية، ناهيك عن تسجيلها رقماً قياسياً في عدد الصواريخ الباليستية التي تمّ إطلاقها خلال تجارب العام المذكور، حيث تجاوز 90 صاروخاً، من بينها نحو 10 صواريخ عابرة للقارات، بادرت إلى تعديل عقيدتها النووية، وسط تكهّنات باكتمال استعداداتها لإجراء تجربتها النووية السابعة، فضلاً عن توجيهات زعيمها، كيم جونغ أون، بالشروع في تطوير صواريخ باليستية قصيرة المدى، تكون قادرة على حمْل رؤوس نووية، بعد النجاح في تطوير صواريخ مماثلة بمديات أبعد عابرة للقارات، كصاروخ «هواسونغ -17»، الذي ظهر خلال عرض احتفالي بالذكرى الـ75 لتأسيس «حزب العمّال» الحاكم في 10 تشرين الأول 2020، واختُبر عملانيّاً فوق بحر اليابان إبّان مناورات كانون الأول الماضي. وفي مناورات صاروخية سابقة أخرى، جرت خلال شهرَي آذار وتشرين الأول، حلّق أحد الصواريخ الكورية الشمالية على ارتفاع 4000 ميل، قبل أن ينحرف في اتّجاه الشرق على مسافة 600 ميل، ليَسقط قرب السواحل اليابانية، في حين عبر آخر شرقاً فوق جزيرة هايكدو اليابانية لمسافة قُدّرت بـ2800 ميل، وهي أكبر مسافة تحليق في هذا الاتّجاه على الإطلاق يسجّلها صاروخ باليستي أَطلقته بيونغ يانغ.
وعلى الرغم من أن التجارب الصاروخية والنووية لكوريا الشمالية، باتت تشكّل نمطاً «استعراضياً» مألوفاً من جانب الأخيرة، بغرض اختبار قدراتها العسكرية، وإظهار العزيمة السياسية لديها لمواصلة تحدّي السياسات الأميركية المعادية لها في سياق جولات متكرّرة من التصعيد والتصعيد المضادّ بين واشنطن وسيول من جهة، وبيونغ يانغ من جهة ثانية، يبدي الباحث في «معهد كارنيغي لبحوث السلام الدولي»، أنكيت باندا، خشيته من بروز دينامية تصعيد على جانبَي الصراع في الوقت الراهن، مؤكداً أن الأمور «تسير بوتيرة تصاعدية إلى حدّ ما» على خلفيّة لجوء كلّ طرف إلى الردّ على المناورات العسكرية للطرف الآخر بمناورات مشابهة. ويحذّر من أن تلك الدينامية تنطوي على «مخاطر متزايدة قد تنجم عن سوء فهم أو سوء تقدير» من قِبَل أحد الأطراف.
ارتعدت شبه الجزيرة الكورية حين أجرت بيونغ يانغ تجربة صاروخية فوق اليابان


وممّا يعزّز نشوء هذا النوع من المخاطر، مبادرة القيادة الكورية الشمالية إلى تعديل نسخة عام 2013 من العقيدة النووية للبلاد، مطلع أيلول من العام الماضي، لناحية تضمينها خطّة معدّة سلفاً لتوجيه ضربة نووية تلقائية في حال تمّ اغتيال كيم جونغ أون، على أيدي القوى المعادية، في إشارة إلى الولايات المتحدة، وكوريا الجنوبية تحديداً. وتنصّ الوثيقة النووية الجديدة، وهي للمناسبة تقتبس عقيدة اتّبعها الاتحاد السوفياتي خلال حقبة الحرب الباردة، على أنه «في حال تعرُّض رأس منظومة القيادة والسيطرة للقوّات النووية (الزعيم الكوري الشمالي) للخطر بسبب هجوم من قِبَل القوات المعادية، فإنه يتعيّن الشروع فوراً، وبصورة تلقائية، في إطلاق ضربة نووية لتدمير تلك القوّات، بما في ذلك نقطة انطلاق الأعمال العدائية ومقرّ منظومة القيادة والسيطرة المسؤولة عن توجيهها».
وبحسب خبراء عسكريين متابعين للملفّ الكوري الشمالي، فإن إقرار العقيدة النووية الجديدة، يكشف كيفية سعي بيونغ يانغ، ذات العمق الاستراتيجي المحدود، لضمان الردع ضدّ أعدائها في حال تعرُّض زعيمها للاغتيال، وذلك تزامناً مع ما روّجته دوائر استخبارية أميركية في شأن مخطّط لإسقاط نظام كيم من الداخل، أو تصفيته وتحريض قيادات عسكرية وديبلوماسية كورية شمالية على الانشقاق. وهذا يتقاطع بالضبط مع ما يشير إليه مدير «معهد أكاديمية القوّات الجوّية الأميركية لدراسات الأمن القومي»، شاين سميث، معتبراً أن الإجراء الذي اتّخذه الزعيم الكوري الشمالي يجنّبه خيار الاضطرار إلى اختيار وريث له منذ الآن، إذا ما كُتب النجاح للمخطّط المشار إليه. كما أن توقيت القرار المذكور لم يكن وليد الصدفة، وهو إذ يدلّل على مدى «النضج النووي» الذي باتت تتمتّع به بيونغ يانغ، إضافة إلى كوْنه يندرج ضمن معادلة الردّ على سياسة حكومة الرئيس يون سوك يول في الجارة الجنوبية، التي تتبنّى سياسة أكثر تشدّداً مع الجار الشمالي، وعكفت بالفعل على تطوير خطط لشنّ ضربات عسكرية انتقامية ضدّ نظام كيم، في أيّ حرب محتمَلة بين الكوريتَين، فضلاً عن عودة الزخم إلى المناورات المشتركة بين الجيشَين الأميركي والكوري الجنوبي، والتي كانت أُوقفت منذ عهد الرئيس السابق مون جيه إن. وإذا كانت بيونغ يانغ تأمل في أن تجعل الخططُ الجديدة كلّاً من واشنطن وسيول تفكران مرّتَين قبل توجيه أيّ ضربة إلى قيادتها، إلّا أن هذه الاستراتيجية لا تخلو من مخاطر وقوع حرب نووية، قد تنجرّ إليها واشنطن بسبب أيّ سوء تقدير أو خطأ في حسابات القيادة في كوريا الجنوبية، المرتبطة بمعاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، وهو أمر يسرّ به مسؤولون أميركيون.
كما أن للحدث الكوري الشمالي، دلالاته المتعلّقة بتضاؤل آمال القيادة في بيونغ يانغ بحلّ دبلوماسي تفاوضي لأزمتها مع الغرب، منذ فشل الانفراج النسبي في العلاقات مع إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بعد قمّتَي سنغافورة 2018 وهانوي 2019، في إنضاج أيّ تسوية على هذا الصعيد. وإذ تنطلق مديرة برنامج شبه الجزيرة الكورية في «مركز ستيمسون للدراسات»، جيني تاون، من النتائج المحدودة للقمّتَين المذكورتَين، لتَعتبر أن التغيّر في سلوك كيم جونغ أون، يمثّل «ثمن عدم حصول (الكوريين الشماليين) على ما أرادوه حين أبدوا رغبتهم في التفاوض»، فهي تعتقد أنه «إذا ما عُدنا إلى المفاوضات الآن، فإنها لن تنطلق من حيث انتهت إليه في المحادثات في قمّة هانوي»، مضيفةً أن التفاوض مع كوريا الشمالية حالياً «سيكون تحت سقف مطالب أعلى من جانبها، لكونها أصبحت أكثر قوّة». من جانبه، يؤكد مون تشونغ إن، الباحث في «معهد سيجونج» للدراسات السياسية، والذي شغل منصب مستشار رئيس كوريا الجنوبية السابق مون جاي إن، استنفاد نهج العقوبات ضدّ بيونغ يانغ أغراضه، مشدّداً على أنه «لا توجد أيّ أدوات عقابية متبقّية تُمكن إضافتها إلى قائمة العقوبات» المذكورة.

سيول تطوي صفحة مون التصالحية
في كوريا الجنوبية، يبدو الرئيس الجديد، يون سوك يول، سواء من خلال موافقته على استئناف التدريبات العسكرية بين الجيشَين الكوري الجنوبي والأميركي، بعد توقُّفها منذ عام 2018، وتنظيم مناورات مشتركة هي الأكبر من نوعها في آب الماضي، أو من خلال مشاركة قوّاته في تدريب عسكري بالاشتراك مع جيشَي الولايات المتحدة واليابان خلال الشهر نفسه، ماضياً في تنفيذ تعهّداته الانتخابية بتوسيع دور بلاده في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وتعميق العلاقات مع كلّ من واشنطن وطوكيو، للوقوف في وجه ما يراه تهديداً من جانب الصين وكوريا الشمالية. أكثر من ذلك، تبدي الحكومة الجديدة انفتاحها على ما تطرحه بعض الأوساط السياسية والعسكرية في الولايات المتحدة، بشأن مناقشة خيار نقْل صلاحيات قيادة العمليات في حال نشوب حرب، من القوّات الأميركية، إلى قوّاتها العسكرية، أو ما يُعرف بـ«OPCON transfer»، وذلك بهدف تكليفها بدور عسكري أساسي خلال أيّ نزاع مستقبلي مع الجارة الشمالية.
وبهدف إيصال رسائل مشفّرة إلى الأخيرة، باشر فور وصوله إلى سدّة الحكم في سيول، تعيين سفير خاص بقضايا حقوق الإنسان لدى كوريا الشمالية، للمرة الأولى بعد شغور المنصب منذ حوالي خمس سنوات، حيث أبقتْه إدارة الرئيس السابق في حالة الشغور بداعي الخوف من تعريض العلاقات بين الكوريّتَين للخطر. كذلك، أعلنت الحكومة الكورية الجنوبية الجديدة تخلّيها عن نهج الإدارة السابقة، والذي استند إلى سياسة «اللاءات الثلاث»، لناحية عدم الموافقة على نشْر منظومات إضافية من نظام الدفاع الجوّي الصاروخي البعيد المدى (ثاد) على أراضي البلاد، وعدم الانضمام إلى «شبكة الدفاع الصاروخي» التابعة للجيش الأميركي، فضلاً عن تعهّدات الحكومة السابقة بعدم الدخول في تحالف عسكري ثلاثي إلى جانب الولايات المتحدة واليابان، وحظْرها إطلاق بالونات عبر الحدود تحوي منشورات مناهضة لكوريا الشمالية، الأمر الذي يُظهر مدى استعداد الحكومة الجديدة، المحسوبة على حزب «قوّة الشعب» المحافظ، للتشدّد في سياستها الخارجية تجاه البلدَين الجارَين.

(أ ف ب )

وعلى رغم محدودية ما يمكن أن يذهب إليه يول في عدائه للصين، التي تُعدّ الشريك التجاري الأكبر لكوريا الجنوبية، إلّا أن حضوره قمّة حلف «الناتو» الأخيرة في مدريد الصيف الماضي، كأوّل رئيس كوري جنوبي يَحضر قمّة للحلف، ولقاءه رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، بَعدها، أبرزا رغبته في تحسين العلاقات مع اليابان، وتنسيق المواقف معها حيال الملفّ الكوري الشمالي، بعد تردّي العلاقات الثنائية خلال الأعوام الأخيرة، وصولاً إلى إمكانية تأسيس تحالف عسكري ثُلاثي أميركي - ياباني - كوري جنوبي، أشبه بحلف «ناتو شرق آسيوي»، وإمكانية تجديد واشنطن عرْضها لسيول بشأن ضمّها إلى منتدى «كواد» (يضمّ الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند)، وهو الأمر الذي رفضته حكومتها السابقة المحسوبة على التيّار التقدّمي، الذي يتبنّى مقاربة مرنة تجاه الصين وكوريا الشمالية، تُزاوج بين الاعتبارات الأمنية والاقتصادية، على عكس التيّار المحافظ الذي يعْلي من شأن المقاربة الأمنية. وما يؤكّد التزام يول بتحسين العلاقة مع طوكيو وواشنطن كأولوية في سياسته الخارجية، هو تعيينه البرلماني السابق، المعروف بحماسته لعلاقات أوثق مع اليابان، بارك جين كوزير للخارجية، واختياره الخبير المتخصّص في السياسة الخارجية، وأحد دُعاة قيام حلف ثلاثي بين البلدان الثلاثة، كيم سونغ هان، كمستشاره الخاص لشؤون الأمن القومي. ويُضاف إلى ما تَقدّم، وضْع القيادة الكورية الجنوبية، فوْر تسلُّمها السلطة، نصْب أعينها، عودة التدريبات العسكرية المشتركة مع الولايات المتحدة واليابان، واستئناف العمل باتفاقية التعاون الاستخباري مع طوكيو، إضافة إلى إحياء «استراتيجية الردع الموسَّعة» المُوقَّعة مع الجانب الأميركي، والتي تُركّز بشكل خاص على التصدّي لـ«التهديد الكوري الشمالي»، تزامناً مع تدشين خطط لتطوير الجيش الكوري الجنوبي، بما يسمح بشراء المزيد من أنظمة الدفاع الجوّي الأميركية، ومُواصلة تطوير أنظمة الدفاع الصاروخي الخاصة بها بهدف جعل جيشها أحد أقوى الجيوش في آسيا. وفي هذا الصدد، تلفت الخبيرة المتخصّصة في الشأن الكوري الشمالي في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، دانا كيم، إلى أن «قنوات التواصل المباشر مع كوريا الشمالية ربّما تكون معدومة في الوقت الراهن، غير أن تعزيز التعاون الثلاثي يبعث برسائل واضحة وقوية للغاية» إلى بيونغ يانغ. بدورها، تشير الباحثة المتخصّصة في شؤون آسيا والمحيط الهادئ في «مجلس العلاقات الخارجية» الأميركي، شيلا سميث، إلى أن «الولايات المتحدة وحلفاءها باشروا العمل على صياغة استراتيجية مشتركة لإدارة التحدّيات المتأتّية عن التحدّي الصيني والروسي للوضع الراهن» في شرق آسيا وأوروبا، مضيفة أن «تشجيع سيول وطوكيو على تحسين العلاقات له أهمّية استراتيجية حقيقية».
وانطلاقاً من أهمية كوريا الجنوبية على المستويَين التكنولوجي والصناعي، باعتبارها أحد أبرز مُصنِّعي الرقائق الإلكترونية والبطّاريات الكهربائية، فقد عكست مشاركة يول في المحادثات التمهيدية لإنشاء تحالف تكنولوجي رُباعي، يضمّ بلاده إلى جانب الولايات المتحدة واليابان وتايوان، ويُعرف باسم «Chip 4»، بهدف ضمان أمن سلاسل توريد أشباه الموصلات، نواياه بتحقيق «الاستقلال التكنولوجي»، وتخفيف اعتماد صناعة بلاده التكنولوجية على وارداتها من بكين، بخاصة في قطاع الاتّصالات. فخلال زيارة بايدن الأخيرة لكوريا الجنوبية، أعلنت شركتا «سامسونغ» و«هيونداي» عن خطط استثمارية كبيرة داخل الولايات المتحدة. وبعد شهرَين، وخلال لقاء مع الرئيس الأميركي، كشف رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات «SK» الكورية الجنوبية، تشي تاي وون، عن إطلاق برنامج استثمارات بقيمة 22 مليار دولار في الولايات المتحدة، وتحديداً في مجالات تصنيع أشباه الموصلات والطاقة الخضراء. ومن المتوقّع أن يَخلق هذا البرنامج عشرات الآلاف من الوظائف الجديدة للمواطنين الأميركيين، ويقلّل من اعتماد البلدَين على مصانع أشباه الموصلات في كلّ من الصين وتايوان، التي يتخوّف الجانبان من إمكانية وقوعها فريسة غزو صيني. ومع ذلك، لا تبدو مهمّة يول يسيرة أو خالية من العقبات، إذ تشير آخر استطلاعات الرأي إلى تدنّي مستوى شعبيته إلى حدود 24%، خلال أقلّ من سنة من تولّيه سدّة الحكم، مقارنة بشعبيّة سلفه التي وصلت إلى 45% لدى مغادرته منصبه في أيار الفائت.

«سيناريو الرعب» الوشيك: كوريّتان نوويّتان؟
باتت المؤسّسة الحاكمة في سيول أكثر اقتناعاً بأن واشنطن أمام خيارَين: إمّا إشراك حلفائها الكوريين في إدارة «الأصول الاستراتيجية» الأميركية المتمركزة على أراضيهم، وبصورة خاصة الأسلحة النووية، على غِرار الآلية التي تعتمدها القوّات الأميركية داخل عدد من البلدان الأوروبية، أو إعطاء موافقتها على مقترح الرئيس يون سوك يول بتطوير قنبلة نووية خاصة ببلاده. في الظاهر، تنطلق حسابات المُنادين بالخيار الأوّل، من تحوُّل ميزان الردع النووي لصالح كوريا الشمالية، منذ إبرام «معاهدة الدفاع المشترك» بين واشنطن وسيول عام 1953 وفق مبدأ «الردع الموسّع» حينذاك، مع امتلاك بيونغ يانغ اليوم وسائل عسكرية لتهديد القوّات الأميركية داخل الولايات المتحدة وخارجها، بحيث لم تَعُد الأخيرة وحدها التي تملك عنصر «المبادأة الاستراتيجية»، وبالتالي قد يُضطرّ الأميركيون إلى التراجع مستقبلاً عن ممانعتهم المزمنة للاعتراف بكوريا الشمالية كدولة نووية، من باب التسليم بالأمر الواقع. أمّا مؤيّدو الخيار الثاني، ومعظمهم من المحسوبين على التيّار الواقعي في السياسة الخارجية، فينطلقون من اعتبارات تتعلّق بالتشكيك في جدّية الالتزام الأميركي بحماية أمن بلادهم من التهديدات التقليدية والنووية على حدّ سواء، متسلّحين بمجريات الحرب في أوكرانيا، وما تمظهر من تردّد أميركي سواء في تزويد كييف بكلّ ما طلبتْه من أسلحة، أو في الردّ على تلويح موسكو بقدراتها النووية، ولا سيما أن ذلك تزامن مع ذهاب «اتفاقية بودابست»، المُوقَّعة عام 1994، والمتعلّقة بمنح كييف ضمانات أمنية مقابل تخلّيها عن أسلحتها النووية، أدراج الرياح.
يثير بعض الدبلوماسيين الأميركيين المخضرمين مخاوفهم من السماح لكوريا الجنوبية بتطوير أسلحة نووية


ومع احتدام النقاش خلْف الكواليس بين المسؤولين الأميركيين ونظرائهم الكوريين الجنوبيين حول السياسة النووية، وأهمّية تطوير قدرات «الردع المستقلّ» لدى سيول، يُطرح السؤال حول ما إذا كانت الولايات المتحدة على استعداد للمخاطرة بأرواح الملايين من مُواطنيها للدفاع عن أمن كوريا الجنوبية، ضدّ هجوم نووي كوري شمالي، وهو سؤال لا يحبّذه الأميركيون؛ باعتباره يستحضر مشادّة «أرشيفية» شهيرة بين الرئيس جون كينيدي، ونظيره الفرنسي شارل ديغول، على خلفية عدم ضمان وضْع باريس تحت الحماية النووية الأميركية في وجه التهديد السوفياتي، ما دفع فرنسا لاحقاً إلى السير نحو ما بات يُعرف بـ«الاستقلال النووي». وعلى ما يبدو، فإن الفكرة تحظى بتأييد واسع في أوساط النخبة العسكرية والسياسية في سيول، من بينهم الجنرال المتقاعد ليم هو يونغ، وعضو الجمعية الوطنية (البرلمان) تشو كيونغ تاي.
إزاء ما تَقدّم، يميل بعض صنّاع القرار والأكاديميين في واشنطن إلى تأييد الخيار الثاني، بما يفسح المجال أمام سيناريو نشوء «دولتَين نوويتَين» في شبه الجزيرة الكورية. بالتأكيد، هؤلاء لا يضعون في اعتباراتهم تصاعُد حجم التأييد الشعبي في كوريا الجنوبية للقبول بذلك الخيار، بقدر ما يفضّلون توظيفه في ممارسة الضغوط على الصين، للجم الاندفاعة النووية لبيونغ يانغ، أو إقناع الأخيرة بالعودة إلى طاولة المفاوضات. ومن بين جملة المتحمّسين للسيناريو المُشار إليه، عضو الكونغرس الأميركي، ستيف شابوت، الذي اقترح أخيراً دخول واشنطن في محادثات مع كلّ من طوكيو وسيول بشأن إطلاق برامج نووية خاصة بكلّ منهما، معتبراً أن إجراء محادثات مع الجانبَين «سوف يَلفت انتباه الصين، وربّما يدفع في اتّجاه تنشيط المساعي لكبح جماح كوريا الشمالية»، في إشارة إلى العلاقات الوثيقة بين بكين وبيونغ يانغ. وعن هذا الواقع «المرّ» الذي بات على واشنطن التعامل معه، يجزم الباحث في «معهد هوفر للسياسات العامّة»، مايكل أوسلين، أن «نظام كيم جونغ أون لن يتردّد في استخدام ترسانته النووية بمجرّد اتّضاح أن هزيمته (في أيّ حرب مقبلة) باتت قاب قوسين أو أدنى»، مؤكداً أن «واشنطن، وفي ظلّ اتّساع دائرة الخطر المترتّب على ذلك، ستجد صعوبة في تجنّب إجراء إعادة تقييم لتحالفها مع كوريا الجنوبية، للمرّة الأولى منذ عقود».
في المقابل، يثير بعض الدبلوماسيين الأميركيين المخضرمين في السياسة الخارجية مخاوفهم المتّصلة بالسماح لكوريا الجنوبية بتطوير أسلحة نووية، لِمَا قد يسفر عنه ذلك، سواء لناحية إنهاء احتكار واشنطن للأسلحة النووية وسط حلفائها في آسيا، وإطلاق سباق تسلُّح نووي في المنطقة، أو تشجيع خصوم الولايات المتحدة، بخاصة كوريا الشمالية والصين، على التوسّع في برامجهم النووية، ورفْضهم فرْض أيّ قيود عليها. ختاماً، لعلّ ما طرحتْه مجلّة «فورين بوليسي» الأميركية في خضمّ هذا «الجدل النووي» يمكن عدّه جوهرياً، إذ تساءلت: «إذا كانت الولايات المتحدة لا تبدي رغبة في معاقبة إسرائيل، وتخلّت في الوقت نفسه عن معاقبة الهند وباكستان، فضلاً عن فشلها في وقْف كوريا الشمالية (على خلفيّة برامج تلك الدول النووية العسكرية)، فهل سيكون باستطاعتها أن تُوقف مساعي سيول، وربّما طوكيو، على هذا الصعيد؟».