لعقودٍ خلت، لعبت «المحكمة العليا» الإسرائيلية دور «الحكيم العقلاني» الذي شرّع وقوْنن المشروع الاستعماري بما يتلاءم مع مجموعة من المُحدّدات، في ظلّ عدم وجود دستور لإسرائيل. لا يعني ذلك أن المحكمة كانت في صفّ الفلسطينيين، بل طالما مثّلت أداة لتشريع الظلم وقوْننة الاضطهاد الذي يتعرّض له هؤلاء. لكنها على المقلب الآخر، كانت «الضابط» الذي حَكم «التوازن» القائم بين الشرائح والمجتمعات الإسرائيلية المختلفة، وحفِظ «الستاتيكو» أو الوضع القائم الذي تآكلت فيه مع مرور الوقت «مكانة الدين اليهودي لصالح الدولة»، كما يدّعي الائتلاف الحاكم اليوم. على أنه بوصول اليمين المتطرّف إلى السلطة، شكّلت «العليا» ومنظومة القضاء الإسرائيلي برمّتها هدفاً ينبغي التصويب عليه لصالح ترسيخ دعائم الحكم الجديد، وذلك عن طريق تطبيق ما عُرف بـ«خطّة ليفين»، أو «الإصلاحات القضائية». «إصلاحاتٌ» تتّفق مكوّنات حكومة بنيامين نتنياهو على أهمّيتها، كلّ لاعتباراته: إذ يريد رئيس الوزراء النجاة من مقصلة المحكمة بسبب قضايا الفساد المتّهم فيها، فيما «الحريديم» يتطلّعون إلى حسْم الصراع على هوية الدولة اليهودية، باعتبار فوز معسكرهم في الانتخابات الأخيرة هو الأداة الديموقراطية التي يستطيعون من خلالها فرْض رؤيتهم والسيطرة على الحيّز العام، و«العليا» تقف حائلاً دون تَحقّق هذا الهدف. أمّا أحزاب «الصهيونية الدينية»، بزعامة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، فتَطمح إلى تكريس الواقع الذي صنعتْه المستوطنات في الضفة الغربية، وإرساء الحُكم باسم الشريعة اليهودية هناك، وتشريع البؤر التي اعتبرتْها المحكمة نفسها غير شرعية.ولأن ائتلاف نتنياهو أو «معسكر المؤمنين» تمكّن، بعد أعوام، من حسْم الصراع لصالح القطاع المتطرّف الذي يعبّر عن نزوح المجتمع الإسرائيلي نحو أقاصي اليمين، متمكّناً من إنهاء أزمة الحُكم التي خاضت بسببها إسرائيل خمْسة انتخابات «كنيست» مبكرة في غضون ثلاث سنوات ونصف سنة، فإنه يحتاج اليوم إلى أداة تُمكّنه من إحكام سيطرته المطلقة على الدولة. وبسببٍ من تقاطُع المصالح بين أقطاب هذا المعسكر، ولكونه يملك العدد الكافي من الأعضاء لاتّخاذ أيّ قرار أو تشريع أيّ قانون في صالحه، من دون الاعتماد على قوًى من خارجه، فإن خطّة «إصلاح القضاء» ستمرّ، نظرياً، بسهولة، إلّا إذ تمكّن المعسكر المناوئ، الذي يصف «ليفين» بأنها خطّة لـ«هدم الديموقراطية والدولة»، ويقود في مواجهتها تظاهرات يشارك فيها عشرات الآلاف من أنصاره أسبوعياً، من إسقاطها.
اعتبر أكاديميون وباحثون خطّة ليفين «خطراً واضحاً على الديموقراطية»


لكن ما هي «الإصلاحات القضائية»؟ مطلع الشهر الماضي، أماط وزير القضاء الإسرائيلي، ياريف ليفين، في مؤتمر صحافي، اللثام عن خطّة عريضة تتضمّن تغييرات جوهرية في نظام القانون والجهاز القضائي في إسرائيل، مقسِّماً إيّاها إلى أربع مراحل، من دون أن يشير إلى فترات زمنية محدّدة لتطبيقها جميعاً. وتهدف الخطّة إلى تقويض سلطة «العليا»، من طريق تقييد قدرتها على إلغاء القوانين والقرارات الحكومية؛ إذ تنصّ على أن إلغاء قانون يتطلّب هيئة مؤلَّفة من جميع قضاة هذه المحكمة الخمسة عشر، وأغلبية خاصة. وإلى جانب ذلك، تقترح الوثيقة «فقرة التغلّب» التي تمنح «الكنيست» مكانة أعلى من «العليا»، وتُمكّنه من إعادة تشريع قوانين ألغتْها المحكمة بأغلبية 61 عضواً (يضمّ الائتلاف الحاكم 64 عضواً). كما تطرح مساراً مختلفاً لتعيين القضاة، بحيث تصبح للحكومة سيطرة شبه كاملة على اختيارهم، في حين تسعى أيضاً إلى منْع «العليا» من استخدام حجّة «عدم المعقولية» للحُكم على التشريعات والقرارات الحكومية. ويُضاف إلى ما تَقدّم، السماح للوزراء بتعيين مستشاريهم القانونيين بدلاً من تعيين مستشارين يعملون تحت إشراف وزارة العدل والمستشار القضائي للحكومة، أي أن اختيارهم سيصبح سياسياً بحتاً، وأن الوزراء لن يكونوا ملزَمين بالاستشارة القانونية المُقدَّمة لهم. أمّا المراحل اللاحقة من الخطّة، والتي كشفت صحيفة «هآرتس» بعضاً من جوانبها قبل أيام، فتتضمّن إلغاء «قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته»، وتحويله من قانون ذي مكانة دستورية، إلى قانون عادي، ثمّ سَنّ قانون «أساس: التشريع» الذي ينظّم مكانة القوانين في إسرائيل وقدرة «العليا» على إلغائها، فضلاً عن قدرة «الكنيست» على تجاوُز المحكمة إذا ما أقدمت الأخيرة على إلغاء تشريعات يسنّها الأول. كذلك، تستهدف الخطّة حقّ الأفراد والجماعات في التوجّه إلى «العليا» من أجل تقديم الالتماسات، من طريق سنّ تشريع من شأنه الحدّ من إمكانية الوصول إلى المحاكم. وفي نهاية المطاف، ينصبّ التركيز على ضرْب دور المستشار القضائي للحكومة، من أجل تأجيل محاكمة نتنياهو.
كلّ ذلك دفَع بقادة المعسكر المعارض، إضافة إلى أكاديميين وباحثين ونُخب إسرائيلية، إلى التحذير من خطّة ليفين، باعتبارها «خطراً واضحاً على الديموقراطية الإسرائيلية، وعلى نظام التوازنات والكوابح إزاء سلطة الحكومة». وفي هذا الإطار، وصف قادة المعارضة ما يحدث بأنه «انقلاب سياسي»، في حين اعتبر القاضي المتقاعد، والرئيس السابق لـ«العليا» أهرون باراك، أن ما قام به ليفين إنّما هو «تجميع لكلّ الاقتراحات الشرّيرة التي طُرحت على مدار الأعوام الماضية، وتحويلها إلى سلسلة ستفضي إلى خنْق الديموقراطية الإسرائيلية. لا يوجد أسوأ من هذا الانقلاب الدستوري، الذي يشبه إلى حدّ كبير انقلاباً بواسطة دبّابات الجيش... في حال تطبيق خطّة وزير العدل، ستتحوّل إسرائيل إلى ديموقراطية جوفاء على غِرار بولندا وهنغاريا».
أمّا المستشار القانوني السابق للحكومة والقاضي المتقاعد من «العليا»، والعميد السابق لكلّية الحقوق في «الجامعة العبرية - القدس»، يتسحاق زامير، فلفت إلى أنه «عملياً، في ظلّ الوضع القائم، فإن السلطة القضائية هي الهيئة الوحيدة التي يمكنها أن تطبّق نقْدها الناجع على السلطة الائتلافية كي لا تعمل بخلاف القانون عموماً، وقوانين الأساس خصوصاً، وكي لا تخرق الصلاحية الممنوحة لها من طرف الشعب، ولا تقوم باستغلال هذه الصلاحية على نحو سيّئ». ورأى أنه «من الجليّ تماماً أن "فقرة التغلّب" التي تتيح إمكان إحباط أيّ نقد قضائي حيال السلطة الائتلافية، ستفتح الطريق نحو شرعنة أيّ استبداد وفساد». من جهته، ذهب مؤسِّس «المعهد الإسرائيلي للديموقراطية»، إريك كرمون، أبعد من ذلك، قائلاً في تعليقه على الخطّة إن «الكثيرين لا يفهمون معنى الديموقراطية؛ فالديموقراطية ليست فقط حُكم الأكثرية عبر الدفاع عن الأقلّية، إنّما أيضاً وجود ثلاث سلطات حُكم مستقلّة، ما يعني وجود سلطتَين أخريَين إلى جانب الحكومة التي تُعرَّف بأنها السلطة التنفيذية. وفي الدولة التي تَحكم فيها السلطة التنفيذية فقط، فإن التعريف الوحيد الذي ينطبق عليها هو أنها ديكتاتورية».