يبدو أن انضمام السويد وفنلندا إلى «حلف شمال الأطلسي» سيكون مؤجّلاً إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية التركية، على ضوء التوتّر الأخير في ما بين أنقرة واستوكهولم، والذي طالت شراراته هلسنكي أيضاً. وإذْ لم تكن تركيا، منذ توقيع الاتّفاقية الثُلاثية بينها وبين البلدَين، راضيةً عن مسار هذه الآلية وتطبيقها، فقد جاءت العاصفة التي أثارها إحراق أحد المتطرّفين نسخة من القرآن الكريم أمام مقرّ السفارة التركية في العاصمة السويدية، ليوجّه ضربة كبرى إلى عملية الانضمام، ويزيحها عن الطاولة، أقلّه في الوقت الراهن. إزاحةٌ يَدفع في اتّجاهها بقوّة أيضاً، الإجماع التركي، في ما بين الموالاة والمعارضة على السواء، على ضرورة إدانة فِعلة الإحراق، واتّخاذ خطوات ضدّ السويد على خلفيّة سكوتها عنها وسماحها أصلاً بوقوعها
في وقت يتلاعب فيه الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بمُنافسيه في انتخابات الرئاسة المقبلة، ويجعلهم يتحرّكون على وقْع ساعته، يسجّل توازياً «انتصاراً» آخر على خصومه الخارجيين، وعلى رأسهم السويد، وربّما فنلندا، على أمل استثمار ذلك في الانتخابات الرئاسية التي ستَجري في تركيا في 14 أيار المقبل. ولعلّ الجميع يعود بذاكرته، الآن، إلى بدايات المعارضة التركية لطلب البلدَين المذكورَين الانضمام إلى عضويّة «حلف شمال الأطلسي» السنة الماضية، حيث كان تبرير الرفض يومها مرتبطاً بنشاطات «حزب العمال الكردستاني» وجماعة فتح الله غولين في الدولتَين، ولا سيّما السويد. ومع ارتفاع «الفيتو» التركي في نهاية المطاف، والذي أتاح لـ«حلف شمال الأطلسي» إطلاق المفاوضات بهذا الشأن، توصّلت استوكهولم وهلسنكي إلى اتّفاق مع أنقرة خلال قمّة الحلف في مدريد في حزيران من العام الماضي، بوساطة أمين عام «الناتو» ينس شتولتنبرغ، وافقت من خلالها الأُوليان على تسليم مطلوبِين من «الكردستاني» وجماعة غولين إلى تركيا، كما ومنْع نشاط الحزب فيهما. وبالفعل، سلّمت السويد وفنلندا بعض المطلوبين إلى أنقرة، التي ظلّت تَنظر بقلّة رضى إلى تطبيق الاتّفاق، وتتّهم البلدَين باستمرار إتاحة نشاط «الكردستاني» على أراضيهما، كما وتذكّر بأن انضمامهما لن يكتمل إذا لم ينلْ موافقة جميع برلمانات الدول الأعضاء في «الأطلسي»، وعلى رأسها البرلمان التركي.
وفي نهاية الأسبوع الماضي، سُجّلت حادثتان متزامنتان، إحداهما تتّصل مباشرة بتركيا، وتتمثّل في تنفيذ أنصار «الكردستاني» تظاهرة احتجاجية أمام السفارة التركية في استوكهولم، وهو ما أثار سُخط أنقرة، ودفَعها إلى إلغاء زيارة كانت مقرَّرة إليها لوزير الدفاع السويدي، لتبدأ حلقة توتّر جديدة بين العاصمتَين. توتّرٌ سرعان ما فاقمه إقدام الدنماركي راسموس بالودان، زعيم «الخطّ المتشدّد» الذي يتّخذ من كوبنهاغن مركزاً له، على إحراق نسخة من القرآن الكريم في استوكهولم. وعلى الرغم من أن هذا الفعل يعني كلّ الدول الإسلامية التي سجّلت ردود فعل واسعة مندّدة به، إلّا أن تركيا كانت السبّاقة إلى فعل الاستنكار، خصوصاً أن الاعتداء جرى أمام سفارتها بالذات، في حين بادر رئيسها، رجب طيّب إردوغان، إلى إبلاغ السويد موقفاً واضحاً مفاده بأن عليها ألّا تنتظر أيّ دعم من بلاده لانضمامها إلى «الأطلسي». وعلى إثر ذلك، دخل وزير الدفاع الفنلندي، بيكا هافيستو، على الخطّ، معتبراً أنه من الأفضل ترْك الأمور تهدأ، وتعليق محادثات العضوية لبعض الوقت، ريثما يتبدّل المناخ ويمرّ قطوع الانتخابات في تركيا، ومِن بَعدها تُستأنف المفاوضات، مع إبقاء احتمال مواصلة هلسنكي محادثات دخولها «الناتو» منفردةً، قائماً.
لم تَجد روسيا في القرار الألماني إلّا خطوة إضافية على طريق تصعيد الصراع الدائر في أوكرانيا

وأعقب الموقفَ المتقدّم، إلغاءُ الاجتماعات المقرَّرة للآلية الثُلاثية بين تركيا والسويد وفنلندا، بناءً على طلب الأولى. وكانت أنقرة بادرت، قبْل غيرها، إلى التنديد بإحراق نُسخ من القرآن الكريم على يد زعيم تنظيم «بيغيدا» (حركة الأوروبيين الوطنيين) المتطرّف، الهولندي أدوين واغينسفيلد، أمام البرلمان الهولندي دعماً لبالودان. من جهتها، التفّت المعارضة التركية حول إردوغان تلافياً لاستغلال تلك الحوادث ضدّها، رافعةً بدورها الصوت عالياً بالتنديد، وصولاً إلى مطالبة بعضها بخروج تركيا من «الناتو»، فيما دعا بعضها الآخر إلى التروّي وتقييم مصالح تركيا الإقليمية والدولية بموضوعية.
إعلامياً، يصف برهان الدين دوران، المقرَّب من إردوغان، مَن أحرق القرآن بـ«الجبان»، معتبراً أن الأخطر من ذلك هو «الصمت المخيف الذي ساد أوروبا»، والإحجام عن إدانة العمل. وإذ يلفت إلى أنه من غير المعلوم مَن الذي حرّض بالودان على فِعلته، فهو يجزم أن السلطات السويدية لم تمنعه من الإقدام عليها، معتبراً أن تلك الفِعلة أفرزت أربع «حقائق»، هي التالية:
1- معاداة الإسلام في أوروبا تنتشر بتنظيم من الحكومات الأوروبية نفسها.
2- معاداة الغرب لدى المسلمين تزداد قوّة.
3- احتمال ألّا تنضمّ السويد إلى «الأطلسي» من جرّاء الرفض التركي، يتعاظم.
4- انفتاح الباب على مراجعة سياسات تركيا وموقعها في «الناتو».
ويرى دوران أن الغرب منزعج من تطوير تركيا سياسات مستقلّة، وتعميقها التعاون التنافسي مع روسيا، على رغم أن هذا النهج ليس مُوجّهاً ضدّ «الأطلسي»، الذي يصف التصريحات الأوروبية عن أن أنقرة تعيق توسيعه بأنها «لا تعكس الحقيقة»، منبّهاً إلى أن «السويد هي التي تخلق المشكلة حتى قبل انضمامها إلى الحلف». ويَلفت إلى أن «القضايا الرئيسة التي حتّمت على تركيا إقامة علاقات جيّدة مع روسيا، هي السياسات الخاطئة للولايات المتحدة والأطلسي تجاه تركيا في سوريا، وحول حزب العمال الكردستاني ومنظّمة فتح الله غولين»، معتبراً أن بلاده «تجاوزت، تحت قيادة إردوغان، أهمّيتها الناتجة من موقعها الجيوبوليتيكي عند التقاء القارات، وتحوّلت إلى إحدى القوى الصاعدة من خلال مبادراتها الجديدة في مجال الطاقة واللوجستيات كما في الصناعات العسكرية، وتواجدها العسكري المتزايد في المحيط الإقليمي والديبلوماسية الفاعلة»، مضيفاً أن «المسألة هي أن تأخذ تركيا مكانها داخل التحالف الغربي، مع الاعتراف بهذه المميّزات».
من جهته، يكتب حسن بصري يالتشين، في صحيفة «صباح»، أنه مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في تركيا «تزداد الحملات المناهضة لإردوغان»، معتبراً أن «الغرب كلّه يريد التخلّص» من الرئيس التركي. ويشير يالتشين إلى أن «الغرب ينظر بعدم ارتياح إلى نجاح إردوغان في الانطلاق بالصناعة الثقيلة والعسكرية، والذي أراد نجم الدين أربكان سابقاً أن يقوم به»، مضيفاً أن «إردوغان قاوم الغرب ونجح، وهنا قيمته الحقيقية. الإرادة هي أهمّ من الدراية والشجاعة. الغرب يريد أن يأتي إلى الحُكم في تركيا بسلطة ضعيفة، وهنا أصل المسألة». وفي الاتّجاه نفسه، يعتقد إسماعيل كيليتش أرسلان، في صحيفة «يني شفق»، أن «أخطر ما في الأزمة الحالية، أن تحويل الغرب لحرية التعبير إلى صنم عظيم، يجعل مِن كلّ غربي عدوّاً في عين المسلم»»، لافتاً إلى أن «البعض في تركيا اعترض على بيان وزارة الخارجية التركية، ووصْفه القرآن بـ"كتابنا المقدّس"، وقال إن تركيا العلمانية لا تَعتبر أيّ نصّ مقدّساً»، مستدرِكاً بأن «هذا صحيح نظرياً، لكن في التطبيق العملي كانت تركيا علانية تعكس كونها "دولة جمهورية ومسلمة وحنفية وسُنّية"».
في المقابل، يذكّر أحمد حاقان، في «حرييات»، بكلامٍ لمسؤول الاستخبارات التركي الراحل، ماهر قايناق، قال فيه: «إذا أردتَ أن تعرف مَن قام بالعمل، فابحث عن المستفيد منه»، معتبراً أنه «إذا طبّقْنا هذه القاعدة، نحصل على الجواب التالي: "إنه بوتين المنزعج من توسيع حلف شمال الأطلسي"». وفي الصحيفة نفسها، يكتب نديم شينير أن الذين يقفون وراء فِعلة بالودان «هُم من السويديين الذين لا يريدون للسويد أن تنضمّ إلى الحلف»، مستدرِكاً بأنه «لا يمكن لتركيا إلّا أن تُظهر معارضتها لانضمام السويد في ظلّ هذا التحريض»، مرجّحاً أن «تتأجّل عملية الانضمام إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في تركيا». بدوره، يلاحظ غولدينير صونوموت، في صحيفة «ميللييات»، أن رئيس وزراء السويد، أولف كريتورسون، لم يُدلِ حتى الآن بأيّ بيان يعرب فيه عن استمرار التزام بلاده باتّفاق الآلية الثلاثية مع فنلندا وتركيا، في وقت كانت فيه ردّة فعل هلسكني «عقلانية»، معتبراً أنه في حال استمرار استوكهولم في «سلوكها غير المسؤول»، فإن فنلندا قد تقرّر مُواصلة مسار الانضمام إلى «الأطلسي» بمفردها، مستخلِصاً أن «الكُرة الآن في ملعب السويد».