السلاح الاقتصادي هو الأشدّ فتكاً مسعى واشنطن للسيطرة الاقتصادية أعلى مراحل الاستعمار

عند محاولة فهْم خلفيّات التطوّرات المتزاحمة في عالم اليوم، ومآلاتها المحتملة، خاصة مع احتدام الحروب والصراعات الكبرى، قد يكون من المفيد الخروج من أَسْر الحَدثية الذي يغلب على العديد من القراءات السياسية، والعودة الى مقاربات المدى الطويل المعتمَدة أساساً من قِبَل المؤرّخين. فالحروب والصراعات كثيراً ما تحمل مفاجآت ومستجدّات غير منتظَرة، تفضي إلى اهتزاز القناعات الراسخة، والمعتبَرة حقائق ثابتة غير قابلة للجدال، وتدفع إلى إعادة النظر في منهجيات تحليلية ومفاهيم مفتاحية فرضت نفسها على الباحثين والخبراء، باعتبارها أدوات التحليل «العلمي» التي لا بديل منها. لا تشذّ مفاعيل الحرب الأوكرانية على المستوى الفكري عن هذه القاعدة. النقاش الذي بدأ يشقّ طريقه حول هذه المفاعيل، بصعوبة، بسبب أجواء الإرهاب الإيديولوجي في الغرب حيال مَن لا يلتزم بالرؤية السائدة، أصبح يفسح المجال للاطّلاع على آراء مَن يقفون «عكْس التيّار»، في سعْيهم لتفسير المجريات الراهنة. إيمانويل تود، مفكّر «عكس التيّار» الرئيس في الغرب، مرموق ومعترَف بكفاءته من قِبَل أوساطه الأكاديمية والثقافية، وهو أمر نادر الحصول. فالباحث الذي توقّع في عُمر الـ24، انهيار الاتحاد السوفياتي في كتابه الصادر في عام 1976، «السقوط الأخير»، بينما كانت السردية الرسمية الغربية تهوّل من الخطر السوفياتي الداهم، ورأى في عام 2002، في «ما بعد الإمبراطورية»، تسارعاً للانحدار الأميركي نتيجة لسياسات العسكرة والحرب التي تتّبعها واشنطن، في الوقت الذي كانت تُوصف فيه الأخيرة بـ«القوّة الخارقة» من قِبَل أصدقائها وقسم من خصومها، لم يتردّد أبداً في تحدّي أطروحات الإيديولوجيا الأُحادية من موقعه الخاص كمؤرّخ وعالم ديموغرافيا. وهو يقدّم اليوم، في مقابلة مع «الأخبار»، تحليله لِمَا يمثّل وفقاً له «حرباً عالمية ثالثة» جارية حتى الآن عسكرياً على الساحة الأوكرانية، غير أنها تشكّل مواجهة مستعرة بين القوى الكبرى تُستخدم فيها جميع أدوات الحرب الأخرى، وفي طليعتها الأدوات الاقتصادية، وستعيد رسْم توازنات القوى الإجمالية في ما بينها

أشرتْم بعد اندلاع النزاع في أوكرانيا إلى أن هذا الأخير تحوّل إلى حرب عالمية، وصدر لكم منذ أيام في اليابان كتابٌ بعنوان «لقد بدأت الحرب العالمية الثالثة». ما هي العوامل التي أدّت بنظركم إلى تدويل هذا النزاع؟
- المطلوب هو تبديد الوهم السائد في أذهان غالبية الأوروبيين والغربيين، والذي يَفترض أن الحرب محصورة في أوكرانيا. لقد نسي الأوروبيون أحد أبرز دروس تاريخهم المعاصر. عندما تُفرض عقوبات قاسية على اقتصاد روسيا ومجتمعها، فإن هذا الأمر يمثّل عملاً حربياً أشدّ خطورة من إرسال الأسلحة إلى الأوكرانيين. الحصار الاقتصادي الذي فرضه الحلفاء، أي بريطانيا وفرنسا، على ألمانيا والإمبراطورية النمسَوية - المجرية والسلطنة العثمانية، خلال الحرب العالمية الأولى، هو بين العوامل الرئيسة التي تفسّر هزيمة الأخيرتين. الحرب الاقتصادية هي حرب فعلية، كما يَذكر المؤرّخ الهولندي نيكولاس مولدر في كتابه «السلاح الاقتصادي»، ومفهوم «العقوبات الاقتصادية» تمّت بلورته بعد الحرب العالمية الأولى. ووفقاً له، فإن ميزة هذه العقوبات، خاصة إذا قرّرتْها قوى كبرى، هي أنها تسعى إلى إجبار بقيّة بُلدان العالم على الالتزام بها أو معارضتها. فنرى حالياً الأطراف الغربية، بالنسبة إلى موضوع نقل النفط الروسي، للمثال لا الحصر، تُلوّح بعقوبات ضدّ الدول التي لا تلتزم بالعقوبات على روسيا. خاصية الحرب الاقتصادية هي أن دينامياتها الذاتية تُفضي إلى اتّساعها، وإلى تَشكّل ما يشبه المعسكرَين. الحرب لا تقتصر على عمليات القتل في ساحات المعارك، بل تتعدّى ذلك لتصبح مواجهة تتضمّن تعبئة لجميع الموارد المتاحة، أكانت بشرية أو مادّية، مع ما يعنيه ذلك بالنسبة إلى الاقتصاد.
الامتداد الزمني للحرب يُظهر العجز الصناعي الأميركي المتنامي


البعض يعتقد أن الحرب الأوكرانية جدّدت الدور القيادي للولايات المتحدة على المستويَين الغربي والعالمي، وأوقفت من خلال ذلك مسار الانحدار الذي كان قد انطلق قبلها. من جهتكم، كُنتم قد نبّهتُم قبل عشرين عاماً في كتابكم «ما بعد الإمبراطورية» إلى أن سياسات العسكرة والاحتواء المعتمَدة من قِبَل واشنطن حيال أطراف دولية وإقليمية عديدة، كروسيا والصين وإيران، أو الحرب، كما في أفغانستان والعراق، ستسرّع في تراجُع هيمنتها على الصعيد الدولي، والمرتبط بعوامل بنيوية عميقة. هل تعتقدون اليوم أن هذا المسار الانحداري مستمرّ؟
- أريد أن أَلفتَ بدايةً إلى أن إحدى الفرضيات التي تطرّقت إليها في كتابي المذكور، هي شروع الولايات المتحدة في عملية إعادة بناء وطنية تتيح وقْف الانحدار في حال نجاحها. وعند انتخاب دونالد ترامب، وأنا لستُ من المعجَبين به، اعتقدتُ عندما قام باعتماد سياسات حمائية بأنه يسير في هذا الاتّجاه. إلّا أنني أيقنتُ، عند التدقيق في أرقام العجز التجاري الأميركي، الذي استمرّ في التفاقم، خاصة بالنسبة إلى السلع المنتَجة في الولايات المتحدة، بمعزل عن الإجراءات الحمائية التي اتّخذتها إدارات أوباما وترامب وبايدن، بأن هذا البلد يعجز عن العودة إلى الإنتاج الصناعي، الذي يسمح بتوازن ميزان مدفوعاته، ويمنحه قدرات فعل اقتصادي حقيقية. أنا أتحدّث هنا عن الأرقام، ولا أمتلك تفسيراً مكتملاً لأسبابها. ربّما قد يكون بين عناصر التفسير الأوّلية عدم كفاية عدد المهندسين والعمّال المهَرة في الولايات المتحدة، التي تفضّل أن تُخرّج سنوياً آلاف المحامين والأطبّاء من أصحاب الأجور الباهظة الارتفاع. الولايات المتحدة تحاول التعويض عن هذا النقص عبر «استيراد» مهندسين من الهند، وبشكل خاص من الصين، فتجد نفسها أمام مفارقة، وهي أن وقْف اعتمادها على المنتَجات والسلع الصناعية الصينية منوط باستيراد يد عاملة عالية المهارة من الصين!
عندما انفجرت الحرب في أوكرانيا، ظنّ البعض أن واشنطن حقّقت إنجازاً هائلاً، لأنها تمكّنت من قتال الروس بالوكالة، ومن إضعاف أوروبا، والتأكيد على حاجتها إلى الحماية الأميركية، ومن تدمير القوّة الألمانية المتنامية في أوروبا. في المرحلة الأولى من هذه الحرب، سادت نشوة الانتصار في الولايات المتحدة. لكنّ التطوّرات اللاحقة، وغير المتوقّعة، صدمت الجميع. فقد تمّ اتّخاذ رُزُمات من العقوبات المشدّدة بحق روسيا، بينها إخراج بنوكها من منظومة «سويفت»، وقيل إن ذلك سيؤدّي إلى انهيار اقتصادها. هذا لم يحصل بتاتاً، وكان من بين أهمّ مفاجآت الحرب. الاعتقاد بإمكانية انهيار الاقتصاد الروسي هو الذي كان قد عزّز قناعة واشنطن بقدرة أوكرانيا على الانتصار بسرعة. ازداد التورّط الأميركي في الحرب، عبر ضخّ السلاح للأوكران، على قاعدة هذا الرهان الخاطئ، وباتت النُّخبة الحاكمة في هذا البلد تدرك ذلك. هي تخشى حالياً تَشكّل تكتّل كبير يضمّ روسيا والصين وإيران والعديد من البلدان الأخرى، يقرّر التموضع خارج النظام المالي الدولي الخاضع للأميركيين. هذا احتمال وارد مستقبلاً. إذا تَحقّق، لن تعود فرضية انهيار النظام الأميركي ضرباً من ضروب الخيال. لن يكون بمقدوره الاستمرار في تمويل نفسه عبر طباعة الدولارات.
الامتداد الزمني للحرب يُظهر العجز الصناعي الأميركي المتنامي. واشنطن قلقة حيال قدرتها على الاستمرار في إنتاج المعدّات العسكرية من مدرّعات وصواريخ على المدى الطويل، وهناك قلق مشابه في الجانب الروسي. نحن أمام حرب استنزاف، وبالنسبة إليّ، فإن السؤال المركزي هو هل سيستطيع الروس الاستمرار في إنتاج هذه المعدّات، وهل يقدر الأميركيون على إنتاجها بالكمّيات المطلوبة. هذا ما يعطي للسجال الراهن حول انخراط ألمانيا في المجهود الحربي وإرسالها إلى أوكرانيا مدرّعات «ليوبارد - 2» أهمّية استثنائية، لأنّني أعتقد بأنه ليست لدى واشنطن القدرة على المضيّ في تصنيع مثل هذه المعدّات بالكمّيات الكافية وحدَها، وأنها ستحاول إلزام القوى الصناعية الفعلية، كألمانيا واليابان، بالمشاركة في هذا المجهود الحربي. معرفة ما إذا كان الأميركيون سيفلحون في التحكّم بالصناعة الألمانية لخدمة هذا المجهود، ضرورية جدّاً، لاستشراف مستقبل المجابهة الدائرة. حتى اللحظة، لا يوافق الألمان على ذلك. إذا لم يتمكّن الأميركيون من الاستمرار في إنتاج السلاح بالكمّيات المطلوبة، ولا في فرْض ذلك على الألمان، ستنتصر روسيا في الحرب. لكنّنا، وكما أسلفت، لا نعرف ما إن كان الروس قادرين على الاستمرار في إنتاج الكمّيات اللازمة من السلاح.

الحرب تمثّل اختباراً فعلياً للتحليل الاقتصادي، وهي قد تبرهن مدى بلاهة الخبراء الاقتصاديين


الحروب تكشف القدرات الفعلية للدول، بما فيها تلك الاقتصادية والصناعية. في مداخلاتكم الأخيرة، شكّكتم في جدوى مؤشّرات اقتصادية معتمَدة لقياس مِثل هذه القدرات، مِثل «الناتج المحلّي الإجمالي» مثلاً. هل لديكم المزيد من التوضيحات حول هذا الموضوع؟
- الارتفاع في الإنفاق الصحي في الولايات المتحدة، والذي يشكّل حوالي 18% من ناتجها الإجمالي، يرتبط بارتفاع أجور الأطبّاء، وكذلك أسعار الدواء، والأمر نفسه ينسحب على جميع الخدمات التي تُوفَّر في هذا البلد. الإنفاق العسكري بدوره باهظ الكلفة، وإذا أخذنا مثلاً طائرة «إف - 35» الضخمة الأكلاف، والقادرة على القيام بجميع المهام، باستثناء الطيران، تَبرز لدينا مشكلة في صِلة الأميركيين بالواقع. الأمر كان بديهياً بالنسبة إلي لأنّني خبير ديموغرافي ومؤرّخ قبل كوني خبيراً اقتصادياً. عندما درستُ الاقتصاد في معهد العلوم السياسية في باريس في عام 1968، أي بعد 20 سنة من إدخال مؤشّر «الناتج المحلّي الإجمالي» في التحليل الاقتصادي، كُنّا نعَرف بأنه مجموع القيم المُضافة، وكُنّا نعي أنه من السهل جدّاً جمْع إنتاج السيّارات والقطارات ومحطّات الكهرباء، وتسعيرها، لكنّنا كُنّا نعلم أيضاً أن القيمة الفعلية للخدمات أكثر إشكالية. في زمننا الحالي، أنا أَعتبر أن نشاط المحامين في الولايات المتحدة لا يضيف أيّ قيمة فعلية، بل هو تدميري بالنسبة إلى المجتمع الأميركي لأنه يساهم في تعميق انقساماته وتشظّيه. في كلّ الأحوال، فإن الحرب تمثّل اختباراً فعلياً للتحليل الاقتصادي، وهي قد تبرهن مدى بلاهة الخبراء الاقتصاديين، بمن فيهم أولئك الحائزون على جائزة «نوبل»، الذين يخلطون بين المؤشّرات النقدية والقدرات الإنتاجية الفعلية. قد يكون الاقتصاد السياسي الغربي بين ضحايا الحرب الراهنة!

ما هو تفسيركم للميل المتزايد لبلدان الجنوب، بما فيها تلك الحليفة تقليدياً للغرب، إلى الاستقلالية عن أجندته الاستراتيجية، والتقاطع، ولو ظرفياً، مع روسيا، أو في الحدّ الأدنى، رفْض مناصبتها العداء؟
- سأُغلّب هنا المنظور التاريخي والأنتروبولوجي على حساب ذلك الاقتصادي. من منظور تاريخي، نحن نشهد عملية إعادة توازن للعالم. قسم كبير من بلدان الجنوب، بما فيها تلك التي تواجه تحدّيات داخلية، لديها القناعة بأنها في مرحلة صعود ليس لوزنها الاقتصادي فحسب، بل كذلك لمستويات تعليم سكّانها، بينما يعاني العالم الغربي من الركود الاقتصادي ومن تدهور مستويات التعليم، وهذا ينطبق على الولايات المتحدة وعلى فرنسا. أمّا بالنسبة إلى ألمانيا، فأنا لا أملك مؤشّرات دقيقة. على الصعيد الأنتروبولوجي، لدى روسيا قوّة ناعمة تتمثّل في دفاعها عن القِيم الاجتماعية والثقافية التقليدية، وعن العائلة كمؤسّسة مركزية، تجعلها أكثر جاذبية بالنسبة إلى مجتمعات العالم الإسلامي والصين والهند وبقيّة دول آسيا وأفريقيا، مقارنة بالنموذج الاجتماعي الغربي وثورته النسوية وترويجه للتحرّر على مستوى السلوكيات الاجتماعية. أُسارع إلى التأكيد أنّني نسوي، وأدافع عن حقوق المثليين، لكنّني هنا أوصّف الواقع السائد عالمياً بمعزل عن قناعاتي. ما كان يُسمّى بالديمقراطيات الليبرالية، وهي باتت أوليغارشيات ليبرالية، تشهد تعميقاً للفوارق الاقتصادية - الاجتماعية، يتوازى مع دفاع محموم عن المساواة بين النساء والرجال وعن الحرّيات المرتبطة بالسلوكيات الاجتماعية. عطفاً على ذلك، فإن روسيا، في نظر العالم غير الغربي، هي قوّة مناهِضة للاستعمار الغربي. ولا شكّ في أن السعي الأميركي للتحكّم بالاقتصاد العالمي، يمثّل أعلى مرحلة من الاستعمار. الحروب الأميركية والغطرسة المصاحِبة لها تَركت في أنحاء الجنوب مخزوناً من الكراهية لا يمكن الاستهانة به.

المؤرّخ وعالم الاجتماع الفرنسي



من هو إيمانويل تود؟
هو أنتروبولوجي ومؤرّخ وعالم اجتماع فرنسي، تتمحور أبحاثه حول قضايا متعدّدة، بدءاً بالمنظومات العائلية وتأثيرها على التحوّلات الإيديولوجية والسلوك الانتخابي والدين، مروراً بالأنماط الجديدة للصراع الطبَقي في فرنسا والمجتمعات الأوروبية، وصولاً إلى السياسة الدولية والعوامل المتفاعلة الحاكمة لها. لِتود عددٌ كبير من المؤلّفات الهامّة، بينها «السقوط الكبير» (1976)، «اختراع فرنسا - أطلس أنتروبولوجي وسياسي» (1981)، «مصير المهاجرين: الصهر والتمييز في الديموقراطيات الغربية» (1994)، «ما بعد الإمبراطورية» (2002)، «لقاء الحضارات» (مع يوسف كرباج - 2007)، «ما بعد الديموقراطية» (2008)، «من هو شارلي؟» (2015)، «الصراعات الطبَقية في فرنسا في القرن الـ21» (2020).