لندن | فشل اجتماع وزراء دفاع «حلف شمال الأطلسي» الذي عقد في قاعدة «رامشتاين» العسكرية الأميركية في ألمانيا، في التوصُّل إلى اتفاق حول دعْم الجيش الأوكراني بدبابات هجومية غربية الصنع، تريد واشنطن أن تبادر برلين إلى تسليمها. لكن يبدو أن الأخيرة لم ترضخ للضغوط الأميركية، إذ ترفض، حتى الآن، إرسال دبابات من طراز «ليوبارد-2» المصنّعة محليّاً، إلى كييف، تجنُّباً في ما يبدو لردّ فعل غاضب من جانب موسكو. وتريد برلين، في المقابل، أن يبادر الأميركيون أوّلاً إلى هذه الخطوة، التي وإنْ لن تقلب موازين القوى كليّة في الحرب الدائرة، إلّا أنها ستمثّل تحوُّلاً نوعيّاً في إمدادات «الناتو» لنظام كييف من معدات الدفاع، إلى أدوات الهجوم
تبدَّدت الآمال الأوكرانية بالتزوّد سريعاً بمدرعات هجومية غربية الصنع، تساعدها في التصدّي لهجوم روسي محتمل خلال الربيع المقبل، وذلك بعدما قالت برلين إنها غير مستعدة بعد للسماح بإرسال دبابات من طراز «ليوبارد-2» محليّة الصنع. وصرّح وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، في أعقاب اجتماع على مستوى وزراء دفاع حلف «الناتو» عُقد الجمعة في قاعدة «رامشتاين» العسكرية الأميركية (غرب ألمانيا)، بأن «(الألمان) لم يتّخذوا قراراً بعد في شأن توفير دبابات ليوبارد». وكانت برلين تعرّضت، خلال الأسابيع القليلة الماضية، إلى ضغوط شديدة من قِبَل واشنطن وحلفاء آخرين في «الناتو» لمنْح الجيش الأوكراني هذا الطراز الأحدث من الدبابات الهجومية، والتي يرى خبراء أنها أنسب الخيارات المتوافرة لدى الغرب لناحية تناسبها مع ظروف المعركة الحالية. وموافقة برلين ضرورية ليس لجهة إرسال الدبابات من طرفها فحسب، بل إن 13 جيشاً أوروبياً يستخدم «ليوبارد-2» حالياً، لا يمكنه إعادة تصدير هذا الطراز من المدرعات من دون ضوء أخضر من الألمان.
وتقول أوكرانيا إنها تحتاج إلى إمدادات عاجلة من الدبابات الهجومية الثقيلة لمساعدتها في الانتقال إلى الهجوم، وتحرير مزيد من الأراضي قبل أن تتمكّن روسيا من استعادة زمام المبادرة العسكرية على الأرض خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة (تخسر أوكرانيا، وفق تقديرات الخبراء، أكثر من 100 دبابة شهريّاً خلال العمليات القتالية). وفي هذا المجال، قال أوستن لنظرائه: «لدينا فرصة هنا لدعم هجوم أوكراني مضادّ من الآن وحتى الربيع، وهذا ليس وقتاً طويلاً». لكن بوريس بيستوريوس، وزير الدفاع الألماني الجديد، أبلغ اجتماع «رامشتاين»، بأن وزارته ما زالت بحاجة إلى مزيد من الوقت للتحقُّق من مخزونات الجيش الألماني من «ليوبارد-2»، ومعرفة العدد الفعلي الذي يمكن تقديمه منها إلى كييف، في موازاة استمرار المناقشات حول مبدأ إرسال أسلحة هجومية إلى الجبهة المفتوحة مع روسيا. ولفت الوزير إلى أنه من الضروري تحديد مدى مواءمة «ليوبارد-2» لأغراض الجيش الأوكراني قبل اتخاذ مثل هذا القرار، مضيفاً أن وزارته تستعدّ لليوم الذي يُحسَم فيه هذا الأمر، و«عندها ستكون قادرة على التحرُّك بسرعة، وتقديم الدعم المطلوب خلال فترة وجيزة». وتحتوي مخازن الجيش الألماني على 350 دبابة «ليوبارد-2»، وتوجد 2000 منها لدى عدد من الجيوش الغربية.
وبحسب مطّلعين على الشأن الألماني، فإن بيستوريوس كان يتحدّث عمليّاً بلسان المستشار أولاف شولتز، الذي ما زال مصرّاً على أن ألمانيا لن تبادر بمفردها في قضيّة الدبابات، ويريد أن تتولّى الولايات المتحدة بنفسها مسألة تزويد النظام الأوكراني بدبابات «أم 1-آبرامز» الهجومية قبل أن تُقدم بلاده على خطوة مماثلة قد تعتبرها موسكو تصعيداً نوعيّاً بقيادة ألمانيا. وكان وزير الدفاع الألماني الجديد تولّى مهامّ منصبه قبل أيّام قليلة، خلفاً لكريستين لامبريشت التي استقالت بعد عام من توزيرها بسبب الضغوط المتعاكسة حول شحن الأسلحة إلى أوكرانيا. وعلى رغم الاستقلال الشكلي الذي تتمتّع به ألمانيا، إلّا أن الهيمنة الأميركية عليها ما زالت مستمرّة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا سيما لناحية مسائل الدفاع. ويبدو أن الوزيرة المستقيلة وجدت نفسها في نقطة التصادم بين الدفع الأميركي الحثيث بضرورة إرسال «ليوبارد-2»، ومعارضة المستشارية في برلين. وتَردّد عدة سياسيين ألمان بقبول المنصب قبل أن يلجأ شولتز إلى بيستوريوس، السياسي المحلي من ولاية ساكسونيا، وأحد رجاله المقرّبين.
تعهّد عدد من الحلفاء بتزويد نظام كييف بمركبات مدرّعة قتالية للمشاة


ويدّعي الأميركيون أن «ليوبارد-2» الأخفّ وزناً، أقدر على المناورة في الأراضي المغطاة بالثلوج، إضافة إلى أنها أقلّ تعقيداً من الناحية الفنيّة، ممّا يجعل أمر استيعابها من قِبَل الجيش الأوكراني وصيانتها أسهل من دبابات «آبرامز» الأميركية الصنع، أو «تشالنجر-2» البريطانية، وهم كانوا واضحين أنهم لن يرسلوا دبابات «آبرامز» إلى أوكرانيا في الوقت الحالي.
وأثار الموقف الألماني امتعاض عدد من الحلفاء، لا سيما بولندا وبريطانيا ودول البلطيق التي تدعم بلا هوادة التوجهات الأميركية لمنح الدبابات لكييف، ممّا اضطر بيستوريوس إلى التعليق، قائلاً إن «الانطباع الذي ينشأ عند البعض أحياناً بأن ثمّة موقفاً موحّداً للحلفاء (حول مدّ كييف بالدبابات الهجومية الغربية)، وأن ألمانيا تقف حجر عثرة في الطريق، هو بلا شكّ خاطئ»، مضيفاً أن هنالك «العديد من الحلفاء الذين يشاركون ألمانيا وجهة نظرها في شأن هذه المسألة». وتستخدم القوات الأوكرانيّة دبابات أغلبها من الحقبة السوفياتية، وهي حصلت على عدّة مئات إضافية منها أَرسلتها دول الحلفاء في شرق أوروبا، لا سيما بولندا والتشيك، لكن الدبابات الغربية الحديثة ستكون ميزة إضافية لأنها تتمتّع بدروع متفوّقة، ومدافع أكثر دقّة، وأنظمة تحكُّم وملاحة أفضل، ممّا يتيح تنفيذ عمليات اقتحام ليلي مشترك مع قوات المدفعيّة والمشاة.
من ناحية أخرى، تعهّد عدد من الحلفاء، بما في ذلك الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا والسويد، بتزويد نظام كييف بمركبات مدرّعة قتالية للمشاة. وقالت واشنطن إنها ستتبرّع بما لا يقلّ عن 50 عربة «برادلي» و100 «سترايكر»، وسترسل ألمانيا أعداداً مماثلة من عربة «ماردر». وأعلنت فرنسا، في وقت سابق هذا الشهر، أنها ستدعم الجيش الأوكراني بعدد غير محدّد من العربات المدرّعة من طراز «إي أم إكس-10 - قاتل الدبابات» - وهي دبابة خفيفة -، فيما أكدت لندن أنها سترسل، من جهتها، 14 دبابة «تشالنجر-2» الثقيلة إلى أوكرانيا. وتنتظر بولندا وفنلندا موافقة ألمانيا كي يحوّل البلدان ما في حوزتهما من «ليوبارد-2» إلى كييف.
وبحسب خبراء عسكريين، فإن إرسال الدبابات الغربية المتطوّرة على أهميته الفائقة للعمليات العسكرية مرحليّاً، إلّا أنه غير كاف - من دون مدّ كييف بسلاح طيران فاعل وأنظمة دفاع جوي وصواريخ هجومية ودرونات ذات مدى طويل - لقلب موازين القوى القائمة مع الجيش الروسي الذي يمتلك أكثر من 12 ألف دبابة متفوّقة، ولن يفيد عمليّاً سوى في إطالة أمد النزاع، وربّما يرفع من تكلفته على الجانب الروسي، ومن دون أن يمكّن كييف من استعادة الأراضي التي أعلنت موسكو ضمّها.
بالطبع، لن تتوقّف الضغوط الأميركية على ألمانيا خلال الفترة المقبلة، وقد يؤدّي تحقيق روسيا اختراقات سريعة على الجبهات إلى تغيير في ديناميكيات استجابة حلف «الناتو» عموماً. لكن شولتز يعلم أن الأميركيين يدفعونه إلى المواجهة مع روسيا، بينما يحتفظون هم بمسافة آمنة، ويريدون منه أن يلعب دوراً قياديّاً في أمن أوروبا في وقت تسيطر قوات الجيش الأميركي على الأراضي الألمانية، وتُبقي في 21 قاعدة عسكرية 50 ألفاً من الكوادر المجهّزة بأحدث الأسلحة والمعدات، بما فيها الرؤوس النووية، ولذلك فهو لا يمتلك أيّ حافز حقيقي للمضيّ قُدُماً في عداء سافر لموسكو.