في تعليقه على معطيات «مؤشّر إسرائيل 2022»، الصادر عن «معهد إسرائيل للديموقراطية» في القدس المحتلّة، قال الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، إن «المؤشّر يحمل توجّهاً مزعجاً لناحية درجة ثقة المواطن الإسرائيلي بمؤسّسات الدولة المختلفة، وهو اتّجاه يمكن الشعور به بوضوح في الخطاب السائد على شبكات التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام وفي الشارع، وينعكس كذلك أمام أعيننا يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة». ويُعدّ تصديق هرتسوغ على ما ورد في التقرير من تحذيرات من الانقسام وتدنّي الثقة العامة بالمؤسّسات الرسمية مؤشّراً كافياً إلى صحّة تلك الاستنتاجات والأسباب التي قادت إليها، ومن بينها اتّجاهات التخوين والتحريض على الساحة الإسرائيلية، حتى بين اليهود أنفسهم. وعلى رغم ما ينطوي عليه الحديث عن «حرب أهلية» من مبالغات، إلّا أن هذه المبالغات نفسها، والتي تبدو مطلوبة في سياق الصراع السياسي المحتدم وعملية تأليب الجمهور ضدّ الحكومة الحالية، تُعدّ مؤشّراً بذاتها إلى عُمق حالة التشرذم في المجتمع الإسرائيلي، والتي تَجدر متابعتها، وخصوصاً بالنظر إلى ما تمثّله حكومة بنيامين نتنياهو من ظاهرة شاذّة في شكلها ومضمونها وأهدافها، وفي ما يمكن أن تجلبه من أضرار على الدولة، يتعذّر من الآن التكهّن بحجمها ومداها. صحيح أن التركيبة الإسرائيلية استطاعت، على مرّ تاريخها، على رغم كلّ تناقضاتها، الصمود أمام الأزمات الداخلية الكبرى، لكن السؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل التوليفة الحالية قادرة على تجاوُز ما يواجهه الكيان اليوم؟في التقرير الصادر عن «مركز إسرائيل للديموقراطية»، يرِد أن أقلّ من نصف الإسرائيليين متفائلون بشأن مستقبل الدولة، مع بعض التراجع في الشعور بالانتماء إليها. وعلى رغم أن المؤشّر يُظهر أن الأغلبية اليهودية معتزّة بالهوية الإسرائيلية، إلّا أن هذا المعطى يؤشّر بدوره إلى حالة إحباط وخشية لديها من اليهودي الآخر الذي يتطلّع إلى تغيير طابع الدولة وهويّتها. كذلك، يُظهر المؤشّر انخفاضاً كبيراً في ثقة الإسرائيليين بمؤسّسات الدولة كافة (الحكومة والكنيست والجيش والشرطة والرئاسة والمحكمة العليا)، وهو ما ينسحب أيضاً على وسائل الإعلام والأحزاب السياسية التي لم تتجاوز الثقة بها 8.5% فقط، علماً أن العيّنة لا تشمل فلسطينيّي عام 1948. وتدنّت نسبة الإسرائيليين الذين يرون وضع إسرائيل ما بين جيّد وجيّد جدّاً، من 53% عام 2018، إلى 25% عام 2022، في موازاة ارتفاع نسبة الذين يصفون وضع دولتهم بالسيّئ أو السيّئ للغاية، من 16% في 2018 إلى 30% في 2022. وعليه، لا يبدو مستغرَباً أن يصف هرتسوغ هذه النتائج بأنها «غير سارّة»، وبأنها «تعكس التوتّرات الداخلية التي تعصف بداخلنا»، محذّراً من أن «تماسكنا آخذ في الذوبان، وعلينا أن نقوم بكلّ ما يلزم لإعادة بنائه».
تدنّت نسبة الإسرائيليين الذين يرون وضع إسرائيل ما بين جيّد وجيّد جدّاً، من 53% عام 2018، إلى 25% عام 2022


لكن هل حكومة نتنياهو السادسة، قادرة على القيام بهذه المهمّة؟ الواقع أن أطراف تلك الحكومة نفسها هم المسؤولون عن قيام جزء من مقدّمات تراجُع ثقة الجمهور بمؤسّساته العامّة، بما فيها الجيش الذي كان الحديث بالسوء عنه مرفوضاً ومنبوذاً، بوصْفه «حارس الوجود والأمن الشخصي والعام»، و«البقرة المقدّسة التي لا تُمسّ، وإنْ بالكلمات». ذلك أن تغيير القوانين عبر «الكنيست» من أجل تمكين مُدان ومسجون بتهم فساد وتهرّب ضريبي وتلقّي رشًى من تولّي منصب وزاري مثلاً، أدّى إلى ضرْب مكانة القضاء وقدرته على منْع سنّ قوانين وإجراءات تنفيذية مخالِفة للديموقراطية وسلامة الحوكمة، حتى بين اليهود أنفسهم. كما أن تحويل عدد من وحدات الجيش إلى إمرة سياسي فاشي، يمثّل تناقضاً مع سياق استمرّ سنوات طويلة، وظلّ فيه الجيش بمثابة «غربال» القرارات لدى التنفيذ. ويُضاف إلى ما تَقدّم تنصيب وزيرَين اثنَين للأمن (الدفاع)، بحيث يتقاسمان صلاحيات الوزارة من دون قدرة فعلية على ذلك ربْطاً بوحدة السياق والمهمّة في الأفرع والأقسام والأجهزة التابعة للوزارة؛ ونقل وحدة التنسيق في المناطق الفلسطينية المحتلّة من وزارة الأمن حيث «وجودها الطبيعي» إلى وزارة المالية التي يتولّاها فاشي آخر يرى أن «استعادة الأرض» في الضفة الغربية من «محتلّيها» الفلسطينيينن هي غاية في ذاتها تفوق أيّ مصلحة إسرائيلية أخرى؛ والانصياع لابتزاز «الحريديم» في أكثر من اتّجاه، كما في الإعفاء من التجنيد في الجيش، ما يزيد من عبء التجنيد ويمدّد أمده ويضاعف وتيرة الاستدعاء اللاحق لمهمّات الاحتياط بالنسبة إلى القطاعات غير «الحريدية»، والعطاءات المالية وفقاً لعدد أفراد الأسرة «الحريدية» التي تتكوّن في بعض الحالات من عشرة أفراد وما فوق (في الحكومة الحالية وزراء يفوق عدد أبنائهم العشرة)، وتمويل المؤسّسات التعليمية «الحريدية» القائمة على تعزيز نزعة التمايز والانفصال عن بقيّة المجتمع. وبنتيجة ما تَقّدم، تتكرّس حالة مفارقة بين الشبّان الإسرائيلييين: فمَن يتجنّدون في الجيش سيَخرجون إلى سوق العمل في عمر الـ 21 عاماً من دون أيّ ضمانات، بينما «الحريدي» في العمر نفسه لا يتجنّد في الجيش، ومضمون له «رزقه» حتى وإن تزوّج، مع زيادة في «الرزق» في حال إنجاب عدد كبير من الأولاد!
على أيّ حال، أقطاب الحكومة الإسرائيلية الحالية لم يعلنوا أبداً أنهم سيتصدّون للتشرذم والانقسام وفقدان الثقة بالدولة وبمؤسّساتها، بل لم يخفوا أنهم سيكونون جزءاً أساسياً من عوامل مضاعفة تلك الظواهر، وأعلنوا حتى قبل تشكيل حكومتهم أن مهمّتهم الرئيسة هي تعزيز القطاعات («القبائل» حسب التعبير العبري) التي ينتمون إليها، ولو على حساب «القبائل» الأخرى، تحت شعار: «إمّا أن تكون معي، وإمّا أن تكون خائناً». تَوجّهٌ ستكون له حتماً تأثيراته «غير الطيّبة» على التوليفة الاجتماعية الإسرائيلية، من دون أن يكون واضحاً إلى الآن حجم هذا التأثير ومآله، وإنْ كان الحديث عن «حرب أهلية» وشيكة منطوياً على مبالغة حتماً.