يستعدّ عشرات آلاف الإسرائيليين للخروج في تظاهرة حاشدة في تل أبيب اليوم، احتجاجاً على القوانين الجديدة التي تعتزم حكومة بنيامين نتنياهو إنفاذها، والتي لا تقتصر تداعياتها على الإضرار بالفلسطينيين فحسب، بل سيكون من شأنها المسّ بجميع اليهود غير المتديّنين أو العلمانيين. وإذ يجلّي ذلك انفتاح فصل جديد من فصول الصراع المستمرّ على هويّة دولة الاحتلال ومكانة التوراة فيها، فهو قد يكون فاتحة تنازع داخلي يتجاوز بحجمه وطبيعته كلّ ما شهدتْه إسرائيل سابقاً، وفق ما يؤشّر إليه مثلاً استحضار زعماء المعارضة وقائع «حرب الإخوة» من التاريخ، والردّ عليهم من قِبَل منظّري المُوالاة باتّهامهم بكوْنهم عديمي المسؤولية ومتنافِسين على التحريض القومي
قد تُعيد الوقائع التاريخية إنتاج ذاتها، أو تتكرّر إلى ما لا نهاية في زمان أو مكان لا نهائيَّين، كما صوّرها فريديك نيتشه في «العود الأبدي»، فيما كانت لمارك توين مقاربة مغايرة أفادت بأن «التاريخ قد لا يعيد نفسه ولكنه يتشابه كثيراً». وأمّا كارل ماركس، فقد ذهب أبعد من ذلك، بالقول: «يَذكر هيغل في مكان ما أن جميع الحقائق والشخصيات ذات الأهمّية الكبرى في تاريخ العالم تَحدث كما لو أنها حدثت مِن قَبل. نسي أن يضيف: في المرّة الأولى كمأساة، وفي المرّة الثانية كمهزلة». تَحضر مقولة «إعادة التاريخ نفسه» إلى الأذهان سريعاً لدى معاينة انشغال وزير الأمن الإسرائيلي السابق، بيني غانتس، هذه الأيام، باستعارة أو استعادة التاريخ، ونصْب فزّاعة «حرب الأخوة» التي هَزم فيها أسباط بني إسرائيل، بنيامين وسبطه، إثر اغتصاب أصحاب جبعة (التابعة لبنيامين)، زوجة الرجل اللاوي الذي اتّخذ قرْيتهم مأمناً للمبيت فيها. حربٌ أشار إليها «التناخ» (الكتاب المقدس) بوصْفها «الأشدّ قسوة»؛ إذ قُتل فيها، وفق سِفر القضاة - الإصحاح العشرين، نحو 500 ألف يهودي.
هكذا، يحاول غانتس وقادة المعارضة، الذين حوّلوا في وقت قصير «حرب الإخوة» إلى المُصطلح الأكثر رواجاً في إسرائيل، إسقاط حادثة الاغتصاب تلك، على واقعة «اغتصاب وجه إسرائيل» المقنَّع بالديموقراطية، والمؤسّساتية، والتوازن والفصل بين السلطات المختلفة، وهو ما أثار غضب المُوالاة التي عدّت ذلك «مؤشّراً إضافياً إلى اجتياز المعارضة الخطوط الحمراء»، وفق توصيف المستشار السابق لنتنياهو، أريئيل بولشطاين. وشكّك بولشطاين، في مقال في صحيفة «معاريف»، في ما إن «كان غانتس نفسه قد ألقى بالاً للسخرية التي تلفّظ بها، في أقواله عديمة المسؤولية تلك»، معتبراً أن رئيس قائمة "همحنيه همملختي" (معسكر الدولة أو المملكة)، سَحق بقايا المملكة (الدولة) التي كان أملنا بأنها لا تزال موجودة». وأضاف أن «غانتس ويائير لابيد ووضيعين كثراً، من المتنافسين بين بعضهم البعض (ضمن معسكر المعارضة) على مَن يشغل مربّع التحريض القومي، ها هم: واحد يهدّد بالتمرّد، وآخر بزعزعة الجيش، وثالث يُخرج "الروح الشرّيرة" من القمقم مُهدّداً بالعنف الفعلي». وتابع: «يبدو أن غانتس ولابيد وأشباههم تفاجؤوا: فقد اعتقدوا أن اليمين بعبع فقط، وفجأة وجدوه حازماً في الوقوف على تعهّداته ووعوده. لعلّهم تقبّلوا خسارتهم لكراسي الجلد في المكاتب الحكومية، غير أنهم كانوا متأكّدين أنه باستثناء هوية الجالسين على هذه المقاعد، فلن يتغيّر أيّ شيء».
على أنه، خلافاً لحديث بولشطاين، يبدو أن الكثير سيتغيّر فعلاً. فـ«في المعسكر المؤمن، من رئيس الوزراء إلى أخفض السلم الحكومي وصولاً إلى أعضاء الكنيست من الصفّ نفسه، لا يكتفي هؤلاء بدفء الكراسي التي يجلسون عليها»، بل ثمّة مخطّط يَدفع به وزير القضاء، ياريف ليفين، إلى «تفجير» الصِيغ القانونية الحسّاسة في المنظومة القضائية. ومِثله يفعل وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، الذي لا يتردّد في ملامسة «الفوالق»، مستعجِلاً إحداث زلزال غير مسبوق في منظومة الأمن والشرطة. وكذلك الحال بالنسبة إلى رفيقه وزير المالية، بتسيلئيل سموترتش، الذي استعرض، قبل يومَين، خطّة القضاء على غلاء المعيشة الذي تسبّبت به الحكومة السابقة. ولتكتمل الصورة، ينضمّ إلى مكوّناتها المشهد المتشكّل في مكتب سكرتارية «الكنيست»، حيث بمجرّد إعلان تشكيل الحكومة، تكدّست اقتراحات مشاريع القوانين، فيما يتنافس أعضاء اليمين على الدفْع بقوّة أكبر نحو تحقّق «المبادئ والقيم» التي يؤمن بها جمهورهم، مستندِين إلى الاتّفاقيات الائتلافية الموُقَّعة بين نتنياهو وشركائه، وعلى رأسهم حزبا «الصهيونية الدينية»، والتي ينبئ التدقيق فيها بأن قادة هذا التيّار عكفوا منذ زمن على صياغتها بطريقة احترافية، بما يصعّب على زعيم «الليكود» الالتفاف عليها أو التنصّل منها.
الشرطة الإسرائيلية تتجهّز بالهراوات والخيول لقمع تظاهرة السبت في حال إثارة الشغب والعنف


المفارقة أن هذه الاتفاقيات لا تقتصر تداعياتها على المسّ بالفلسطينيين الذين سيكونون المتضرّر الأكبر منها فحسب، بل وتُطاول أيضاً اليهود العلمانيين، من خلال شمولها تغييرات في النظام القضائي مع ما لهذا الأخير من مكانة رفيعة تَجعله بمثابة «دستور» غير مكتوب، وأيضاً تعديلات على النظام التعليمي الذي سيتحوّل إلى منصّة لتعزيز الهويّة اليهودية الدينية عند الأجيال الناشئة حتى من غير اليهود المتديّنين أو أولئك المتفرّغين لدراسة الدين في «اليشيفوت»، وذلك من خلال إعادة تدريس مواد التاريخ الصهيوني والتوراة حتى ضمن الأنشطة اللامنهجية. وتُضاف إلى ما تَقدّم تحوّلات ستُستحدث في نظام «الكشروت» المتعلّق بالأكل الحلال وفق الشريعة اليهودية، وآليات الفصل بين المُراقِب والمُراقَب على الطعام، فضلاً عن «إصلاحات» ستطرأ على قانون الهجرة اليهودية بما سيؤثّر على علاقة إسرائيل بيهود الشتات، وقوانين أخرى تستهدف قطاعاً واسعاً من جمهور المثليين (يحوز هؤلاء أربعة مقاعد برلمانية)، وثالثة تتّصل بأنظمة المواصلات العامّة وتطوير البنى التحتية والأشغال في السبت... وغيرها.
على هذه الخلفية، يتحضّر عشرات آلاف الإسرائيليين للتظاهر غداً في ساحة «هميبا» في تل أبيب، فيما أعلن قادة المعارضة، وعلى رأسهم غانتس ويائير لابيد، عدم مشاركتهما في التظاهرة بناءً على طلب مُنظِّميها، حتى لا تأخذ طابعاً حزبياً، علماً أن جميع أعضاء حزبَيهما سيشاركون فيها. وبحسب «القناة 14» الإسرائيلية، فإن الشرطة تتجهّز لقمع الفعالية بالهراوات والخيول في حال تَرافقت مع أعمال شغب وعنف. وأشارت القناة إلى أنه على خلفية التهديد بالاضطرابات المدنية، فإن الشرطة لا تستخفّ بحجم التظاهرة، بل تستعدّ لنموذج مشابه للفعاليات اليسارية العنيفة التي شهدتْها فترات سابقة، كما تستعدّ لاحتمال «خروج المتظاهرين عن نطاق السيطرة». ولذا، وبخلاف الاحتجاجات السابقة، «هذه المرّة، سيكون المسؤول عن المنطقة هو قائد منطقة تل أبيب، وسيُنشَر مئات من رجال الشرطة تحت قيادته».
في المقابل، وعلى الرغم من تعهّد نتنياهو بعدم المسّ بالديموقراطية، ودعوة شخصيات أخرى بينها حاخامات إلى تهدئة النفوس، يصرّ قادة المعارضة ومُحلّلوها على أن «الحرب باتت هنا»، مُبدين حزماً في الاعتراض على القرارات الحكومية الجديدة التي سرعان ما عمّقت الانقسامات القائمة، مثيرةً المخاوف من «تمزّق المجتمع الإسرائيلي بالكامل»، وفق ما حذّر منه المحلّل السياسي، باراك رابيد. وفي خضمّ ذلك، لم يجد بولشطاين بدّاً من دعوة «قادة اليسار» إلى تحمّل «المسؤولية التي يجب أن تقوم بين الإخوة»، والتشديد على أنه «لا ينبغي لأحد أن يرفع يده على أخيه (اليهودي)». وذكّر مستشار نتنياهو السابق إلى أنه «عبْر التاريخ، كان على العديد من المجتمعات البشرية أن تمرّ بفترات مظلمة تتميّز بحروب بين الأشقاء، وكانت النتيجة دائماً مروّعة. فبالإضافة إلى العنف والقسوة وملايين الضحايا، أدّت الحروب بين الأشقّاء إلى تفكّك الدول أو إضعافها، وحتى اختفائها من خريطة العالم».
على أيّ حال، الظروف الراهنة هي نِتاج تداخُل حلقات المصالح والأيديولوجيات التي تَحكم عقليّة المعسكر اليميني؛ إذ لدى نتنياهو المصلحة في إجراء التغييرات القضائية بهدف إلغاء محاكماته، فيما «الصهيونية الدينية» تتطلّع إلى تغيير الواقع لا في الضفة فحسب، بل وأيضاً في الأراضي الفلسطينية المحتلّة كافة، بهدف القضاء على الليبرالية التي ميّزت المجتمع الإسرائيلي إلى حدّ ما. بتعبير آخر، ثمّة مَن انتُخب ليَحكم باسم «يهوة»، وطِبقاً للشريعة التوراتية، وهو يترجم اليوم صعوده عبر التشريعات والتعديلات التي يدفع بها، في وقتٍ يُجمع فيه الإسرائيليون من مختلف «الأسباط» على أن التبدّلات التي ستطاول الواقع الديني - السياسي ستؤثّر دراماتيكياً على البنية القضائية التي مثّلت دائماً بالنسبة إليهم وجهاً من وجوه الديموقراطية.



«ثورة» إضعاف القضاء تنطلق: المستشارون هدفاً أوّل
في خطوة أولى على طريق إضعاف المنظومة القضائية، نشر رئيس لجنة القانون والدستور في «الكنيست»، سيمحا روتمان، فجر أوّل من أمس، نصّ مشروع لتعديل «قانون أساس الحكومة» (ذي المكانة الدستورية)، بما يقلّص صلاحيات المستشارين القضائيين. ويقضي التعديل المقترَح بأن أيّ «استشارة قانونية تُمنح لرئيس الحكومة أو للحكومة أو لأحد وزرائها لا تُلزمهم، وليس من شأنها تغيير الوضع القانوني بالنسبة إليهم»، ما يعني أن بإمكانهم رفضها والعمل خلافاً لها. كذلك، يتضمّن المشروع بنداً يمكّن الحكومة ورئيسها وأيّ وزير فيها من إقرار الموقف الذي يُطرح باسم كلّ منهم أو باسم مديريته أمام المحاكم، وتعيين محامٍ خاص كي يمثّله في مطلَق إجراء قضائي.
ومن المزمع أن تناقش لجنة القانون والدستور، خلال الأسبوع المقبل، مشروع القانون، لطرحه على التصويت في الهيئة العامة لـ«الكنيست» من القراءة الأولى. وبالتوازي مع ذلك، سيقدّم الائتلاف اليميني مشروعاً ثانياً يُخضع المستشارين القضائيين مباشرة للوزراء بدلاً من المستشارة القضائية للحكومة. ومن شأن المصادقة على المقترحَين أن تهشّم مكانة هؤلاء، إلى حدّ سيصبح معه بالإمكان إقالتهم من دون موافقة المستشارة. وعقب نشر روتمان مسودة المشروع الأوّل، عمّم المستشارون السابقون، الذين تولّوا المنصب في الخمسين عاماً الماضية، عريضة شديدة اللهجة ضدّ الخطّة الرامية إلى إضعاف منظومة القضاء، واصفين ما يجري بأنه «تهديد بتدمير هذا الجهاز». وكتبوا في العريضة: «نحن، الذين تولّينا وظيفة المستشار القضائي للحكومة أو وظيفة المدّعي العام، منذ عام 1975، صُدمنا لدى سماعنا بخطّة وزير القضاء ياريف ليفين، لإحداث تغييرات في جهاز القضاء. ونحن مقتنعون بأن هذه الخطّة لا تبشّر بتحسين الجهاز، وإنما تهدّد بتدميره». وتابعوا: «الخطّة تقترح تغيير طريقة تعيين القضاة، وبذلك تحويل المحكمة العليا من مؤسّسة مستقلة، تَحكم من دون خوف ولا نفاق، إلى هيئة شبه سياسية ستكون مشتبَهة بالانحياز إلى الحكم؛ كما أنها تقيّد بشكل كبير صلاحيات المحكمة في ممارسة الرقابة القضائية الناجعة على الحكم؛ وتسمح للأغلبية الائتلافية بشرعنة أيّ خطوة سلطوية مهما كانت مرفوضة وضارّة بواسطة قانون عدم المعقولية؛ ومن شأنها أيضاً أن تمنع أداء المستشارين القضائيين في الوزارات كحرّاس العتبة الذين مهمّتهم التحذير من قرارات غير قانونية». وطالب الموقّعون، وهم المستشارون القضائيون السابقون: أهارون باراك، عيران شندر، موشيه لادور، يهودا فاينشطاين وأفيحاي مندلبليت؛ والقضاة السابقون في المحكمة العليا: يتسحاق زامير، إليكيم روبنشطاين، ميني مازوز، ميخائيل بن يائير، دوريت بينيش وعيدنا أربل، الحكومة بـ«التراجع عن الخطّة المنشورة، ومنْع استهداف جهاز القضاء وسلطة القانون، من أجل الحفاظ على إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية والقيم التي عبّرت عنها وثيقة الاستقلال».