قبل أيام من ولادة حكومة بنيامين نتنياهو السادسة، قُتلت مستوطِنة وجُرح آخرون في حيّ «مئة شعاريم» في القدس المحتلّة، نتيجة احتجاجات قادها المئات من «الحريديم» على اعتقال مشتبَه فيه في إحراق متجر للهواتف المحمولة، تجرّأ على بيْع هواتف غير شرعية. الاحتجاجات أدّت إلى إغلاق الطرق واشتعال النار في حاويات القمامة وأعمدة إشارات المرور والأصول العامة، إضافة إلى رشْق آليّات الشرطة وعناصرها، الذين تجرّؤوا بدورهم على دخول الحيّ «الحريدي» لوقف أعمال الشغب. وفي خلال ذلك، انحرف سائق حافلة تقلّ ركاباً من غيْر «الحريديم» عن مساره، ودخل خطأً المنطقة «الأرثوذكسية» المتطرّفة، لتأتي ردّة الفعل «الحريدية» عنيفة جدّاً، وتتعرّض الحافلة للرشق بالحجارة وثقْب إطاراتها وتحطيم زجاجها، قبل أن تتمكّن الشرطة من إبعاد المحتجّين.الحادثة وما يماثلها من قَبل ومن بَعد، سواءً في الأحياء «الحريدية» الخالصة أو تلك المختلطة، تستبطن عدّة دلالات، أبرزها ما يلي: أوّلاً، أن مناطق «الحريديم» ممنوعة على غيرهم وإن كانوا يهوداً؛ وثانياً، أن هذه المناطق لها عاداتها وتقاليدها الموغلة جدّاً في التاريخ - إلى ما قبل ميلاد المسيح - والتي لا يُسمح بمُنافستها في «بيتها»؛ وثالثاً، أن رجال الأمن والشرطة يستصعبون الدخول إلى تلك الأماكن كونها مغلَقة نسبياً ولا تخضع للحوكمة كما هو الحال في خارجها؛ ورابعاً، أن دخول أيّ «مختلِف» إليها ولو كان يهودياً يعرّضه لخطر قد يصل إلى درجة القتل. هكذا، يَظهر المجتمع «الحريدي»، المنغلق على ذاته، ككيان داخل الكيان الأكبر، لا يندمج «أهله» بالثاني إلّا في ما يفيد تحصيل مصالحهم الخاصة، وهو ما سعت إليه أحزابهم من خلال قبولها الدخول في حكومة نتنياهو.
في العادة المتّبعة لدى تداول السلطة في دولة الاحتلال، تعكف مراكز الأبحاث المختصّة، والتي تُعدّ من بين الأهمّ والأكثر مهنية في العالم، على تشخيص التحدّيات الماثلة أمام الحكومة الجديدة، واقتراح الوسائل المناسبة للتعامل معها، بما يشمل تقليدياً إيران و«حزب الله» والساحة الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة) والحلَبة الإقليمية، فضلاً عن المخاطر الاقتصادية والعلاقات الخارجية والتغييرات في الإقليم وحول العالم. لكن أن ينضمّ الائتلاف الحاكم نفسه إلى تلك القائمة، كما هو الحال اليوم، ففي ذلك سابقة لا مثيل لها سواءً داخل إسرائيل أو خارجها. ومَكمن التهديد في حكومة نتنياهو، هو أنها ضمّت توليفة من المتطرّفين والمتعصّبين والفاشيين الذين سعوا وما يزالون إلى فرْض جدول أعمالهم على الجمهور الإسرائيلي عامّة. وفي ما يتّصل بـ«الحريديم» تحديداً، فإن مطالب هؤلاء لم تَعُد مقتصرة على ما يحصّن تمايزهم عن بقيّة المجتمع، كالعطاءات المالية لمؤسّساتهم ودُورهم التعليمية ومعاهدهم الدينية، بل يسعون اليوم إلى فرْض الأحكام التوراتية على مختلف الشرائح المجتمعية.
خلال عقدَين أو ثلاثة سيُعادل عديد «الحريديم» ثُلُث المجتمع الإسرائيلي اليهودي تقريباً


قد يحاجج البعض بأن الجماعات «الحريدية» محدودة عددياً نسبةً إلى الجمهور الإسرائيلي الأكبر، وبالتالي يتعذّر عليها أن تشكّل تهديداً لـ«الدولة»؛ لكن الوضع اليوم مختلف عمّا كان عليه لدى نشوء الكيان عام 1948، عندما كان «الحريديم» أقلّية ضئيلة جدّاً، ومعدومي التأثير تقريباً. آنذاك، ثبّت ديفيد بن غوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأوّل، ما يسمّى «الوضع الراهن» مع تلك الجماعات، وعنوانه: عطاءات مالية واقتصادية لم تكن لتكلّف ميزانية الحكومة شيئاً كبيراً، وإعفاءٌ من الواجبات والالتزامات «الوطنية» بما فيها الخدمة العسكرية، لم يكن بدوره ليُحدث اختلالاً جسيماً. أمّا اليوم، فيَبلغ عدد «الحريديم» حوالى 1.280.000 نسمة، وهم لديهم أسرع معدّل نموّ في أيّ دولة حديثة (حوالى 4٪ سنوياً)، ويشكّلون 13.3٪ من سكّان الكيان. وبينما يُعدّ 60٪ منهم شباباً دون سنّ العشرين (تتدنّى هذه النسبة إلى 31٪ في عموم الجماعات الأخرى)، يصل معدّل الولادات لدى نسائهم إلى 6.5 ولد مقابل 2.5 لدى الآخرين، ما يعني أنه خلال عقدَين أو ثلاثة سيُعادل عديد «الحريديم» ثُلُث المجتمع الإسرائيلي اليهودي تقريباً. وهؤلاء سيعيشون على حساب الثُلُثين الآخرَين من دون عمل أو إنتاج أو دور اقتصادي، بل ستتضاعف قدرتهم على الابتزاز وتعزيز استراتيجية «الأخذ بلا عطاء»، وهو ما يُعدّ في ذاته تهديداً وجودياً، لن تَقوى إسرائيل على تَحمّله.
أخيراً، رضخ نتنياهو لمطلب تمويل المؤسّسات التعليمية «الحريدية» التي يخلو منهاجها من الرياضيات والعلوم واللغات الأجنبية ومن كلّ «مواد الهرطقة»، ويتركّز اهتمامها على فصْل الجيل الناشئ عن محطيه العلماني، الذي «يشوّش» على وعيه ويَحرفه. كما وافق رئيس الوزراء الجديد على إقامة مدينة «حريدية» جديدة، فضلاً عن مطالب أخرى تتعلّق بالنقل ويوم السبت ومنْع الحقوق عن اليهود الآخرين من غير الأرثوذكس والفصْل بين الجنسين، وأيضاً القدرة على تجاوُز إجراءاتهم أيّ اعتراض قانوني أو دستوري عليها، وتسهيل إقرار ما أمكن من قوانين تَمنع اندماجهم وتعايشهم مع الآخرين، مع زيادة في العطاءات المالية وفقاً لعدد أفراد الأسرة التي سيتصاعد نموّها العددي تَبَعاً لذلك. وبالنتيجة، فإن ما قام به نتنياهو هو تعزيز التهديد «الحريدي»، ومنْع معالجته، بل وإرساء أسس متينة لعرقلة أيّ معالجة مستقبلية. وإذا أضيف ما تَقدّم إلى الاتفاقات الائتلافية الأخرى مع الفاشيين، يمكن القول إن الحكومة الحالية تمثّل تهديداً للكيان العبري لا يقلّ خطورة، بل ربّما يزيد، عن التهديدات التقليدية التي يُواجهها.