بعد أكثر من عام قضاها رئيساً للمعارضة، عاد بنيامين نتنياهو ليرأس المؤسّسة السياسية في إسرائيل، إثر نجاحه في تشكيل حكومته السادسة، التي تُعدّ الأكثر تطرّفاً وعنصرية منذ قيام الدولة العبرية عام 1948، لِما تحويه من خليط من الفاشيين والمتعصّبين دينياً واليمينيين. وسيكون من شأن هذه الحكومة أن تتسبّب لإسرائيل بتهديدات، تُضاف إلى التهديدات القائمة وتُعمّقها، ليس في ما يتعلّق بالخارج حيث تتعاظم الأخطار وتتشعّب فقط، بل وأيضاً في الداخل ربطاً بما تسمّى «القبائل الإسرائيلية» والتعايش في ما بينها، حيث التصارع على هوية الدولة والعلاقة بالآخر، سواء اليهودي أو غير اليهودي.لا يعني ما تَقدّم أن حكومة نتنياهو ستتسبّب بزوال إسرائيل، أو بـ«ثورة» داخلية تنهي طابع «الدولة» الحالي من حيث التعايش بين مكوّناتها اليهودية - وصولاً إلى «حرب أهلية» وفقاً لِما يَصدر من تحذيرات على لسان كبار المسؤولين الإسرائيليين -، أو أنها ستؤدّي إلى عزل تل أبيب وقطْعها عن حليفها الأميركي والغربي، بل إن من شأنها أن تظهّر غلَبة المصالح الشخصية والقبَلية للأفراد والجماعات على حساب «الدولة الجامعة» لهم. هي إذاً حالة تجلية لواقع موجود سلفاً، وليس خلْق له، جرى استبعاده من دائرة الاهتمام الجمعي في إسرائيل، نتيجة أوّليةِ التهديدات الوجودية التي تَجمع ولا تفرّق. في المقابل، تَبرز المؤسّستان العسكرية والأمنية بوصْفهما «العاقل الوحيد» الذي يراهَن عليه لمنع الإضرار بـ«الدولة»، في ما يمثّل مفارقة قد لا يوجد مثيل لها حول العالم، حيث اتّجاهات العسكر على الأغلب متطرّفة؛ ذلك أن مَن يملك مطرقة، كما يَرد في المثل الإنكليزي، يرى كلّ شيء أمامه مسامير، فيما مهمّة الساسة هي بلورة رؤى وقرارات بناءً على الصورة الأوسع والمعطيات الأشمل والأكثر تعقّلاً. أمّا الحالة في إسرائيل الآن، فمعكوسة، والسبب أن نتنياهو عمَد إلى اقتناص فرصة الفوز في الانتخابات، نتيجة أخطاء المعسكر المعارض له وتناقضاته وإعلائه مصالحه، من أجل تمكين وضعه، علماً أن مَن انتخبوا معارضيه أكبر عدداً ممّن انتخبوا معسكره، وهو ما لم ينعكس في النتائج بفعل تقنيات اللعبة الانتخابية ومقدّماتها، والتي يَصعب تكرارها في حال تَقرّر التوجّه إلى انتخابات مبكرة جديدة. من هنا، وبما أن المصلحة الشخصية لدى نتنياهو هي الغالبة، وتحديداً ما يتعلّق بمنع استمرار محاكمته في قضايا فساد ورشى، فقد كان ملزَماً بأن يشكّل حكومة «كيفما كان»، فيما حلفاؤه من اليمين المتطرّف والفاشيين والأحزاب الدينية (الحريديم) أدركوا حاجته هذه، فعمدوا إلى الإفراط في مطالبهم.
قَبل نتنياهو الابتزاز وخضع له، لتأتي حكومته السادسة عجائبيّة وهجينة وخليطاً من التناقضات ومخالِفة للقوانين


قَبل نتنياهو الابتزاز وخضع له، لتأتي حكومته السادسة عجائبيّة وهجينة وخليطاً من التناقضات ومخالِفة للقوانين والأنظمة التي عمل على تغييرها. فوزير الداخلية، الذي سيكون لاحقاً وزيراً للمالية، متّهم ومسجون في قضايا فساد وتهرب ضريبي وتلقّي رشى، فيما وزير الأمن القومي، المسؤول عن الشرطة وفرض القانون، كان ملاحقاً بتهم حضّ على الكراهية وعلى الإرهاب. أمّا الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية في المناطق الفلسطينية المحتلّة، والمعنيّ بكلّ جوانب حياة الفلسطينيين، فهو صاحب رؤية مسيحانية تلمودية تَنظر إلى الفلسطينيين وغير اليهود عامة، ككائنات دونية ذات حقوق محدودة، بما فيها الوجود نفسه. هكذا، آثر نتنياهو أولوية بقائه في السلطة رئيساً للوزراء - وإنْ سقطت الحكومة نتيجة تناقضاتها - في الفترات الانتقالية بين العمليات الانتخابية، والتي يتعذّر التقدير ما إنْ كانت ستسفر عن نتائج حاسمة في هذا الاتجاه أو ذاك. هل هذه هي «ورقة الأمان» التي يسعى إليها زعيم «الليكود» بعد التخلّص من المحاكمة بتهم الفساد، ما يعني تغيّر الحال في اليوم الذي يلي، وانتفاء حاجته إلى شركائه؟ سؤال لا يفارق طاولة التقديرات، وإنْ كانت إجابته الآن متعذّرة. وفي الانتظار، يمكن إيراد الملاحظات الآتية:
- في النصف الأوّل من ولاية الحكومة، سيكون رئيس حزب «الصهيونية الدينية»، بتسلئيل سموتريتش، وزيراً للمالية ووزيراً في وزارة الأمن (الدفاع) التي سيتقاسمها مع يوآف غالنت، من «الليكود». كذلك، جرى تعيين رئيس حزب «شاس»، آرييه درعي، وزيراً للداخلية ووزيراً للصحة. وفي النصف الثاني من ولاية الحكومة، أي بعد عامين، سيحلّ سموتريتش محلّ درعي في «الداخلية»، لكنه سيستمرّ في منصبه في وزارة الأمن وزيراً ثانياً فيها. وفيما سيستمرّ درعي وزيراً للصحة، فهو سيتولّى أيضاً وزارة المالية، التي يتسلّمها من سموتريتش.
- انتزع زعيم حزب «قوة يهودية»، إيتامار بن غفير (الذي يتولى وزارة الأمن القوميّ)، وسموتريتش أجزاء كبيرة من السلطة على الجيش الإسرائيلي ومن وزارة الأمن نفسها. وبينما نُقلت الإدارة المدنية وتنسيق أعمال الحكومة في المناطق المحتلّة (الضفة الغربية) إلى سموتريتش، نُقلت مسؤولية كتائب «حرس الحدود» في الضفة من الجيش إلى بن غفير. كما نُقلت صلاحية تعيين كبير الحاخامات العسكرية إلى الجيش بدلاً من رئيس هيئة الأركان، في حين أصبح جهاز فرض القانون المتعلّق بالمخالفات البيئية والزراعية من نصيب «الأمن القومي» عوضاً عن «البيئة».
- تقسيم الصلاحيات هذا سيكون من شأنه الإضرار بالأمن الإسرائيلي، خصوصاً أن مَن يخرق القوانين، حتى الشكلية منها، بات هو الذي يقرّر ويَحكم وينفّذ في الأراضي المحتلّة. إذ أضحت وحدات من الجيش، تابعة للمنطقة الوسطى بطبيعتها، تتلقّى أوامرها مباشرة من غير الجيش، فيما يجري تعيين المسؤولين في الإدارة المدنية التابعة تقليدياً للمؤسسة العسكرية، من قِبل جهات من خارج هذه الأخيرة.
في بقية الوزارات، عمد نتنياهو إلى إرضاء أقطاب في حزبه، عبر توليفة من شأنها منع الاستقرار المطلوب. إذ سيكون إيلي كوهين وزيراً للخارجية، وإسرائيل كاتس وزيراً للطاقة لمدّة عام، وبعد ذلك سيتبادلان المناصب لمدّة عامين. وفي السنة الرابعة، سيعاودان التبادل لمدّة عام واحد. مع ذلك، سحب نتنياهو من «الخارجية» أقساماً مهمّة، بما من شأنه تقليص قدرتها على رسم وتحقيق سياسة خارجية ناجعة. إذ ثمّة ثلاث جهات ستنافس:
كوهين في العلاقات الخارجية، وهي من حصة رئيس الوزراء، ومستشار الأمن القومي تساحي هنغبي، ووزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر. أمّا موضوع التعامل مع المقاطعة فسيذهب إلى وزير الشتات، عميحاي شكلي. كما أن صلاحيات أخرى انتُزعت أيضاً من «الخارجية»، وأُعطيت لوزير الشؤون الاستراتيجية، رون ديرمر، فيما وزارتا الشتات والأديان ومكاتب وأجهزة الهجرة والاستيعاب، فستشارك «الخارجية» في جزء من الصلاحيات، ما سيحوّلها إلى حقيبة هامشية.
ما تَقدّم عيّنات من مقايضات أقدَمَ عليها نتنياهو، ستدفع ثمنها إسرائيل من «أمنها ومصالحها وحوكمتها بناءً على مأسسة قانونية»، فيما المستوطنون سيكونون هم مَن يقرّرون صحّة أو خطأ أفعالهم، أي أن خصم الفلسطينيين المباشر سيكون هو الحَكم ومنفّذ الحُكم أيضاً.