قبل ساعات من مغادرته منصبه، حرص وزير الأمن الإسرائيلي، بني غانتس، على أن يسجّل في أرشيفه موقفاً لافتاً حول إمكانية مهاجمة المشروع النووي الإيراني خلال ثلاثة أعوام. الموقف، وإنْ كان في عدوانيّته تقليدياً، إلّا أنه يثير تساؤلات في أكثر من اتّجاه حول قدرة تل أبيب وخياراتها في مواجهة هذا التهديد: فهل تملك إسرائيل بالفعل خياراً عسكرياً ناجعاً، إلّا أن هناك مَن أو ما يردعها عن تفعيله؟ أم أن تلك النجاعة تحتاج إلى سنوات لتحقيقها؟ أم أن دولة الاحتلال تُراهن على عودة «الترامبية»، أو على أن تُنجز الإدارة الحالية أو أيّ إدارة أخرى المهمّة عنها؟ وما معنى إطلاق ذلك الموقف في هذه المرحلة بالذات؟ كيفما اتّفق، فإن كلام غانتس يستبطن إقراراً بأن الخيار العسكري معلَّق على شرطٍ لن يتحقّق إلّا بعد سنوات، سواء أكان شرطاً مرتبطاً بالعامل الإسرائيلي نفسه، أم بالعنصر الأميركي الذي بات أمام ظرف دولي ضاغط، يباعد أكثر فأكثر بينه وبين أيّ مقاربات متطرّفة في مواجهة إيران، فيما تل أبيب لا تستطيع المغامرة بهكذا سيناريو من دون رضا واشنطن.ومن هنا، يُطرح السؤال حول ما إذا كان الهدف من حديث غانتس، البعث برسائل تهويل تكون كفيلة بدفع إيران إلى إعادة حساباتها، أم استدراج الولايات المتحدة إلى معركة كبرى في المنطقة؟ في كلّ الأحوال، وعلى الرغم من أن هذا الحديث لاقى تفاعلاً كبيراً داخل إسرائيل وخارجها، لكنه لم يأتِ بجديد لناحية الكشْف عن تطوّر ما أدّى إلى حيازة إسرائيل خيارها المفقود، أو لناحية تغيُّر الموقف الأميركي الراسخ في الامتناع عن المواجهة العسكرية المباشرة مع إيران ربطاً بتداعياتها. إلّا أن الجديد هو الإقرار بترحيل الخيار العسكري إلى ما بعد أعوام، خلافاً للمقاربة الإسرائيلية التقليدية التي كانت تشدّد على أن ذلك الخيار حاضر على الطاولة منذ سنوات طويلة. وفي إزاء ما تَقدّم، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
أوّلاً: لا تملك إسرائيل خياراً عسكرياً ذاتياً ضدّ المشروع النووي الإيراني، وهو أهمّ قيد حال حتى الآن دون مغامرة بهذا الحجم، وألجأ تل أبيب إلى العمليات الأمنية التي ثبت بالتجربة أنها كانت محدودة التأثير، ونجحت طهران إزاءها في تحصين برنامجها النووي الذي بلغ ما بلغ من التطوّر والتراكم.
ثانياً: حتى مع توفّر الخيار العسكري مستقبلاً، وهو موضع شكّ كبير، سيكون على إسرائيل أن تُوازن بين الفعل وتبِعاته اللاحقة، وعلى رأسها الانجرار إلى مواجهة مع المحور الذي تقوده إيران. كذلك، عليها أن تُوازن بين جدوى الخيار وانعكاساته على حلفائها، وفي المقدّمة الولايات المتحدة، التي سيكون عليها مع أتباعها تلقّي التداعيات.
لا تملك إسرائيل خياراً عسكرياً ذاتياً ضدّ المشروع النووي الإيراني


ثالثاً: لم يَعُد المشروع النووي الإيراني في مستوى يمكن إنهاؤه عبر خيار عسكري، كما هو الحال مع المشروع النووي العراقي في ثمانينيات القرن الماضي، وكذلك ما قيل عن المفاعل النووي السوري عام 2007، إذ نجحت إيران في تحصينه وتوطينه، حتى بات جزءاً من الحياة العلمية فيها، ووزّعت منشآته على مساحات واسعة، ونزلت بالعديد منها إلى ما تحت الجبال وفي أعماق الأرض، كما عزّزت قدراتها الدفاعية والهجومية وتحالفاتها الإقليمية.
رابعاً: الأشدّ خطورة ممّا تَقدّم، أن إيران استطاعت فرْض معادلة أصبح من الواضح أنها تَحضر لدى جهات التقدير والقرار في كيان العدو، عنوانها أن الإضرار بمشروعها النووي سيُقابَل باقترابها أكثر من القدرة النووية العسكرية، وهو ما حذّرت منه الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في تقديرها السنوي لعام 2023، مؤكّدة أن «إيران لن تغيّر سياستها إلّا إذا تمّ اتّخاذ إجراءات متطرّفة ضدّها، وهي ستَرفع درجة التخصيب عندها إلى 90%، وعلى إسرائيل أن تستعدّ لذلك من حيث أساليب العمل السياسية والعسكرية حتى لا تُفاجأ» (إسرائيل اليوم، 27/12/2022).
وعليه، ما الذي يَدفع إسرائيل إلى الإصرار على التهديد؟ الراجح أنه لا يمكن لتل أبيب أن تقرّ لطهران بالغلبة نووياً، أو بالفشل في الحؤول دون حيازة عدوّها هكذا قدرات، على رغم أن تصريحات غانتس تَكشف أن الاستراتيجية الإسرائيلية - الأميركية قد فشلت بالفعل في منْع الجمهورية الإسلامية من التموضع كدولة حافة نووية، وهو ما دفع رئيس الاستخبارات العسكرية السابقة، اللواء تامير هايمن، إلى المطالبة بمناقشة الاستراتيجية التي تمّ اتّباعها وأوصلت الأمور الى حيث وصلت الآن. كذلك، يعكس حديث وزير الأمن السابق حجم المخاوف الإسرائيلية من المرحلة التي بلغها التطوّر الإيراني في الميادين كافة، ومحدودية خيارات تل أبيب إزاء هذا التطوّر، وما يستتبعه من مخاطر على مستقبل الكيان العبري وأمنه القومي في المرحلة المقبلة. على أنه لا ينبغي تجاهُل حقيقة أن غانتس تعمّد أيضاً أن يُسجِّل، على أبواب تسلّم بنيامين نتنياهو السلطة، أن الموقف من الخطر الإيراني ليس قضية خلافية في إسرائيل، وأن راية مواجهته ليست حكراً على نتنياهو الذي يحاول أن يُقدّم نفسه بهذه الصورة.