منذ تبنّي الزعيم الصيني الراحل، دينغ سياو بينغ، اقتصاد السوق بدل المُوجَّه، في نهاية سبعينيات القرن الماضي، اختارت الصين أن تُنافس الولايات المتحدة تحت سقف العلاقة معها، مُفتتِحةً عهد الصعود الجديد إلى القمّة الاقتصادية للعالم، والتي كانت الأولى قد أخْلَتها لمصلحة الثورة الصناعية الغربية في العقود الأولى من القرن التاسع عشر، بعد أن فصلت إلى حدّ كبير بين الاقتصاد والأيديولوجيا. ولعلّ الموقف الأخير للرئيس الصيني، شي جين بينغ، بشأن إيران خلال القمّة الصينية - الخليجية، هو نسخة أكثر غلوّاً من براغماتية دينغ، نحو تقديم المصلحة القومية على أيّ شيء آخر. لكنه ليس كافياً ليبرّر استعجال السعوديين الاستنتاج بأنه يعني تخلّياً صينياً عن إيران لمصلحة العلاقة مع المملكة ودول الخليج الأخرى. إذ إن طهران تبْقى شريكاً تجارياً وسياسياً كبيراً لبكين، بدليل الاتّفاقية البعيدة المدى المُوقَّعة بينهما والتي تشمل مبيعات نفطية واستثمارات في بُنى تحتية إيرانية تبلغ قيمتها 400 مليار دولار، كما أنها محطّة أساسية في مبادرة «الحزام والطريق» التي أطلقها شي نفسه عام 2013، وهي أيضاً حليف طبيعي في المواجهة مع أميركا.لكن بيان القمّة الخليجية - الصينية طَرح تساؤلات أخرى تتعلّق بأخلاقيات السياسة الخارجية للصين، التي آثرت حتى الآن الابتعاد عن الانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك. ومَردّ هذه التساؤلات لا اللهجة التي تضمّنها البيان ضدّ إيران فقط، وإنّما لأنه عكَس تبنّي بكين وُجهة نظر النظام السعودي ذي الأدوار المعروفة، مقابل تعظيم حصّتها من التجارة مع دول الخليج، والتي تَنظر إليها على أنها أكثر إفادةً لها بكثير من تجارتها مع طهران. وبدا هذا التصرّف مشابِهاً لتصرّف الأميركيين في الاستفادة من التحالف مع دولة ما، ثمّ إدارة الظهر لها عند الحصول على وضعيّة أفضل مع دولة أخرى، ولا سيما إذا ما اقترن الحال بمساعدة صينية للمملكة على امتلاك تكنولوجيا سلاح. فلماذا يتعيّن على إيران عندها أن تَعتبر الصين حليفاً؟ وبماذا سيفيدها التحالف إذا قرّرت أميركا استغلال ما قد تراه تخلّياً صينياً عنها للاستفراد بطهران، خاصة وأن الأميركيين يسعون بالفعل إلى الدخول على خطّ التظاهرات الإيرانية التي صاروا يَعتبرون دعمها هدفاً أول، يتقدّم حتى على العودة إلى الاتفاق النووي؟
لا يعني ما تَقدّم أن إيران لم تَعُد مهمّة بالنسبة إلى بكين. فالموقع والحجم وحدهما، ومعارضة طهران للأميركيين، تكفي ليسعى الصينيون، كما فعلوا، لاحتواء الخلاف معها. لكن ما جرى أشعرَ الإيرانيين، ولا سيّما التيار المحافظ الحاكم، المؤيّد للعلاقات مع بكين، بخيبة أمل عميقة، بسبب الآمال الكبيرة التي كانت عُلّقت على العلاقات مع الصين، والتي دفعت بهذا التيّار إلى حسْم خياره بـ«التَوجّه شرقاً»، حتى حين بدا أن التوصّل إلى صفقة نووية مع أميركا صار في المتناول. في المقابل، ينادي التيّار الإصلاحي، منذ زمن، بـ«تصحيح» العلاقة المائلة لمصلحة الصين، ويذهب بعضه، وتحديداً «الجبهة الإصلاحية» المؤيّدة للرئيس الأسبق محمد خاتمي، بعد الخلاف الأخير، إلى الدعوة إلى فكّ ذلك «التحالف» وإعلان تأييد استقلال تايوان، على اعتبار أن الموقف الصيني في القمّة مع الخليج مثّل «إذلالاً قومياً» لإيران. ويستبطن الموقف المتقدّم رغبة هؤلاء في عقْد صفقة مع الولايات المتحدة بشأن الملفّ النووي، تزيح العقوبات الأميركية عن إيران، وتُريحها من دفْع ثمن تحالفها مع روسيا، وإلى حدّ أقلّ مع الصين.
بيان القمّة الخليجية - الصينية طرح أسئلة حول أخلاقيات سياسة الصين الخارجية


من وُجهة النظر الصينية، يُظهر الخلاف صعوبة الحفاظ على التوازن في الصراعات المتجذّرة في هذه المنطقة، في الوقت الذي تسعى فيه بكين إلى مدّ نفوذها فيها. ولأنها لا تريد تفويت فرصة تاريخية لتعزيز وجودها في الخليج، مستفيدةً من التوتّر السعودي - الأميركي، تعتقد بكين، وفق ما تورده صحيفة «ساوث تشاينا مورنينغ ديلي»، أن الوقت قد حان لاتّخاذ خيارات واضحة تتعلّق بمصالحها. وللمقارنة، عندما زار شي السعودية عام 2016، انتقل بعدها إلى إيران، لكنه في زيارته الأخيرة مكث ثلاثة أيام في المملكة، ثمّ عندما عبّرت طهران عن انزعاجها من البيان الصيني - الخليجي، أرسل نائب رئيس الوزراء، خو تشون خوا، لاحتواء الخلاف وطمْأنة الإيرانيين إلى موقف بلاده. على أن الأسئلة حول السياسات الصينية، لا تقف عند حدود إيران، بل تمتدّ إلى دول أخرى من بينها كوريا الشمالية المخنوقة بالحصار الغربي، والتي تُعدّ جغرافياً في حضن الصين، فيما دعْم الأخيرة لها يظلّ محدوداً، على رغم أن بكين قاتلت أيام ماو تسي تونغ ضدّ الأميركيين مباشرة، مع الجيش الشمالي في الحرب الكورية عام 1950. وإذا كان دينغ، وقبْله ماو، قد انزعجا من التدخّل السوفياتي في شؤون الحزب الشيوعي الصيني في ذلك الزمن، الأمر الذي منَع توحيد الجهود ضدّ الغرب، فإن الحال اليوم في ما بين الصين وروسيا، اللتين تُواجهان كلتاهما تصعيداً غربياً متفاوتاً، يظلّ مثيراً للتساؤلات والشكوك، على رغم إعلان «صداقة بلا حدود» الصيني - الروسي، أوائل العام الجاري.
إلّا أن الخلافات الأيديولوجية شيء، والانعطافات المفاجئة وغير المبرَّرة في السياسات، مِثل ذلك الذي حدث مع إيران، شيء آخر. ومع أن السياسة لم تكن يوماً أسود وأبيض، ولكن الأسئلة تظلّ معلّقة في انتظار المزيد من المواقف الصينية، ويبقى معها الأمل قائماً بأن يكون الخروج عن المسار مجرّد تكتيك مرحلي.