فرضت المتغيّرات الدولية على كيان العدو، أن يولي اهتماماً خاصاً لتأثيراتها في تعظيم المخاطر الإقليمية، انطلاقاً ممّا ورد في التقدير الاستخباري السنوي للعام 2023، من أن «الأمواج المرتفعة في النظام الدولي ترتطم بمنطقتنا بقوّة... والشرق الأوسط يتأثّر للغاية بتغيير السياسة الأميركية في العالم»، في إشارة إلى انعكاس الأولويات التي فرضت نفسها على الولايات المتحدة في مواجهة الصين وروسيا. لكن المتغيّر الرئيس الذي تفرَّع من تلك التحوّلات المتسارعة، ووَجد طريقه سريعاً إلى الخطابَين السياسي والاستخباري في إسرائيل، هو تطوُّر التعاون الروسي - الإيراني، والذي دعا رئيس الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية «أمان»، العميد عميت ساعر، خلال مؤتمر لمعهد «غازيت»، إلى «القلق والنظر» إليه بجدّية، لِما قد يترتّب عليه من تداعيات تطال الأمن القومي الإسرائيلي.تدرك إسرائيل أن روسيا ليست في وارد التحوّل إلى عدوّ لها، ولكنها تعلم أن لتعمُّق علاقات الثانية بإيران أبعاداً خطيرة لا يمكن لمؤسّسات التقدير والقرار تجاهلها. صحيح أن موقع إيران الجغرافي ومصلحتها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، يفرضان عليها تعزيز صِلاتها بجيرانها في الشرق، إلّا أن تَحوّل هذا الأخير إلى بديل استراتيجي تلجأ إليه الجمهورية الإسلامية من أجل تعزيز عناصر صمودها وقدراتها على مواجهة الحرب الاقتصادية التي تتعرّض لها، والتي تشكّل العمود الفقري في الحروب الغربية عليها، هو الذي تَنظر إليه تل أبيب بعين القلق، متوجّسةً أيضاً من تأثيره على تحقيق طهران مزيداً من التطوّر العسكري، وتعزيزها مكانتها الاستراتيجية. ولعلّ التطوّر الدراماتيكي الأهمّ في خضمّ ذلك «الانزياح»، من وُجهة النظر الإسرائيلية، هو «التقارب بين إيران وروسيا»، والذي تكمن خطورته الأبرز، وفق ساعر، في أنه «لم ينجم عن حاجة إيرانية (إلى روسيا)، وإنما عن حاجة روسية (إلى إيران)»، وهو ما دفع رئيس الحكومة المكلَّف، بنيامين نتنياهو، أيضاً، إلى وصْفه بأنه «شراكة إشكالية».
تدرك إسرائيل أن روسيا ليست في وارد التحوّل إلى عدوّ لها، ولكنها تعلم أن لتعمُّق علاقات الثانية بإيران أبعاداً خطيرة


في الحالة الأولى (أي الحاجة الإيرانية إلى روسيا)، تبقى العلاقة محكومة بالسقف الروسي بشكل أو بآخر، كما أنها تعبّر عن محدودية خيارات إيران نتيجة تفاقُم الصعوبات أمامها، ومحاولتها تجاوُزها من خلال تعزيز صِلاتها مع الدول الشرقية، التي سيبقى، مع ذلك، تجاوبها مضبوطاً بمجموعة قيود، من ضمنها التوازنات في العلاقة مع الولايات المتحدة. أمّا في الحالة الثانية، فلن تكون روسيا في موقع مَن يضغط على إيران وفق ما تأمله إسرائيل، وبالتالي سيتبدّد «الإجماع الدولي» (في ما بين القوى العظمى، شرقيةً كانت أم غربية) الذي راهنت عليه الأخيرة في تصعيد الضغوط على طهران، وهو ما سبق أن واجهتْه الجمهورية الإسلامية في صورة عقوبات دولية قاسية عليها. يُضاف إلى ما تَقدّم أن تطوّر العلاقات مع روسيا، ينبئ بتعزّز مكانة إيران على المستويات الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية والأمنية. إذ بحسب التقدير الاستخباري الإسرائيلي، فإن الإيرانيين «سيجبون ثمناً لهذا الدعم»، وهو ما يتساءل ساعر عن طبيعته وحجمه. وفي هذا الإطار، تتكاثر التساؤلات الأميركية والإسرائيلية حول الأثمان التي يمكن أن تَجبيها إيران، وهي تشمل، على المستوى العسكري بحسب العديد من التقارير الغربية والإسرائيلية، إمكانية تَزوّدها بطائرات حربية ودفاعات جوّية أكثر تطوّراً، واستفادتها أيضاً من روسيا في مجال التكنولوجيا، وصولاً إلى احتمال انعكاس ما تَقدّم على الساحة السورية.
وإذ يعبّر ذلك التعاون عن «خيار استراتيجي عميق» وفق ساعر، سيستدعي بلا شكّ ردّاً غربياً، فإن إيران، التي تعرّضت ولا تزال لمختلف أنواع الحروب قبْل الحرب الأوكرانية وبعْدها، لا ترى جديداً في هذا المجال، وتعتقد أن ثمّة فرصة أمامها أتاحتْها لها المتغيّرات الدولية المتسارعة، حتى تتمكّن من توسيع هامش مواجهة هذه الحروب. وممّا يَجدر التنبيه إليه، هنا، هو أن تَوجّه الجمهورية الإسلامية شرقاً لا يتعارض، بحال من الأحوال، مع شعارها الذي ميّزها منذ انتصار ثورتها عام 1979: «لا شرقية ولا غربية». إذ إن الشعار المذكور، الذي ظَهر منذ أربعين عاماً ولا يزال حاكماً للنظام الإسلامي بحسب المسؤولين الإيرانيين، لا يعني أنْ لا علاقات مع الشرق ولا علاقات مع الغرب بالضرورة، وإنّما أنْ لا تبعية لا للشرق ولا للغرب، وهو ما ثَبت في الممارسة إزاء القضايا الداخلية والخارجية، من دون تجاهُل وجود تيّار غربي الهوى داخل إيران.