لم يكن لِيَخطر في بال أكثر المتشائمين، أن يستنسخ الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، تجربته المريرة إبّان عزْله وحبْسه أيّام كان رئيساً لبلدية اسطنبول، مع الرئيس الحالي لهذه البلدية، أكرم إمام أوغلو، الذي يمثّل المرشّح (المحتمَل) الأوفر حظّاً لهزيمته في الانتخابات الرئاسية. لهذا السبب تحديداً، يبدو توقيت محاكمة إمام أوغلو، وعزْله، سياسيّاً بامتياز، كون إبعاده يزيل عقبة أخرى من طريق الرئيس الطامح إلى العودة المظفرة، فيما لا تزال استطلاعات الرأي تعاكس أهواءه. لكن إجراءً كذاك، وفي حال الإدانة المتوقّعة لإمام أوغلو بتهمة «إهانة» «اللجنة العليا للانتخابات» نظراً إلى ولاء القضاء لإردوغان، يمكن أن يأتي بنتائج عكسية تصبّ هي الأخرى في مصلحة المعارضة
«هذه الأغنية لن تنتهي هنا»؛ كان هذا الاقتباس عنواناً لألبوم تضمّن سبع قصائد وأغاني مختلفة جمعها، في آذار عام 1999، رئيس بلدية اسطنبول آنذاك، رجب طيب إردوغان، عندما حكمت محكمة تركية بسجْنه وعزْله من منصبه ومنْعه من ممارسة الحياة السياسية. على أن الرجل تجاوز محنته في ما بعد، وأسّس، في منتصف آب 2001، حزب «العدالة والتنمية» الذي تزعّمه، ليبدأ، اعتباراً من عام 2003، مرحلة لا تزال مستمرّة من حُكْمِه البلاد منفرداً. ولعلّ هذه المحنة لن تُمحى من ذهن الرئيس القلق على مستقبل زعامته، فهو أبى إلّا أن يذيق الكأس المرّة التي تجرّعها في ما مضى، على يد جلاوزة النظام البائد، لمنافس تُظهر الأرقام أنه أكثر مَن يشكّل تهديداً لعرشه، رئيس بلدية اسطنبول، أكرم إمام أوغلو، مع تحوُّل المعركة على الرئاسة إلى معركة حياة أو موت بالنسبة إلى إردوغان. فاستطلاعات الرأي لا تمنح الأخير فرصة للفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة، في حال توحّد المعارضة حول مرشّح مشترك، يؤيّده الأكراد، فيما تصبح فرص فوز المعارضة، وفقاً للاستطلاعات أيضاً، أعلى، في حال اختيار ترشيح أكرم إمام أوغلو. وللظفر بهذه الحرب، بدأ إردوغان استخدام كل أنواع السلاح المحرّم والمتاح في الخارج كما في الداخل. فمن أجل استقطاب الأموال للتخفيف من حدّة الأزمة الاقتصادية الخانقة، سلّم - مثلاً - ملفّ جمال خاشقجي القضائي بكامله للسعودية، وسحب كل التهم الموجّهة ضدّ الإمارات بضلوعها في محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، وتَصالح مع إسرائيل، حتى إنه وصف، في نيسان الماضي، عمليّات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية ضدّ العدو الصهيوني، بأنها «شنيعة وإرهابية».
أمّا في الداخل، فجرّب أيضاً كل أنواع السلاح في حربه المصيرية؛ فاستهدف أوّلاً الكتلة الكردية ممثَّلةً بـ«حزب الشعوب الديموقراطي» من خلال تصفية معظم رؤساء البلديات الأكراد المنتخَبين، وتعيين موالين له بدلاً منهم، ومن ثمّ رمي قادتهم في السجن، وفي مقدّمهم رئيس الحزب، صلاح الدين ديميرطاش. كما بدأ حرباً مفتوحة على قيادات «حزب العمال الكردستاني» في شمال العراق، زاد عليها التهديد بعملية عسكرية واسعة في سوريا تُظهره بمظهر البطل القومي، علّ ذلك يعوّض بعضاً من شعبيته المتآكلة. وأكثر من ذلك، ومن بعد رميه العصا في وجه الأكراد، رمى لهم جزرة التعاون، متأمّلاً أن يأخذ بالحسنى والوعود التي تُغدَق عليهم منذ عشرين سنة، ما يمكن أن يكون إسفيناً يدقّه بينهم وبين المعارضة لمنْع تصويتهم لمرشّحها. كذلك، ذهب إلى العلويين مغدقاً الوعود بأن تتكفّل الدولة بمصاريف المياه والكهرباء في أماكن عبادتهم (بيوت الجمع)، وسط سخط علوي خلفيته رفْض إردوغان الاعتراف بهم كمعتقد وهوية، وهو أصل المطالب العلوية.
تتّجه الأنظار إلى المسار القضائي للقضيّة، والذي يبدو من العبث الرهان عليه


وكانت المفاجأة أن المعارضة التقت، منذ أقلّ من سنة، من أجل التعاون لتشكيل جبهة مشتركة ضدّ إردوغان، وشريكه حزب «الحركة القومية» اليميني المتطرّف الذي من دون أصواته، ولو القليلة (8%-10%) لَمَا ربح إردوغان انتخابات الرئاسة، ولا الغالبية المطلقة في البرلمان، ولا العديد من البلديات. ويتشكّل التحالف المعارِض من أحزاب: «الشعب الجمهوري»، «الجيّد»، «المستقبل»، «الديموقراطية والتقدُّم»، «الديموقراطي» و«السعادة»، في ما يعرف بـ«لقاء الستّة» أو «طاولة الستة» أو «الطاولة السداسية»، والذين اتفقوا جميعاً على أن يدعموا مرشّحاً واحداً للرئاسة. وأظهرت استطلاعات الرأي أن أكرم إمام أوغلو، عضو «الشعب الجمهوري»، هو الأوفر حظاً من بين المرشحين لهزيمة إردوغان، متقدِّماً على رئيس بلدية أنقرة منصور ياواش، وزعيم «الشعب الجمهوري» نفسه كمال كيليتشدار أوغلو. وكان إمام أوغلو قد فاز برئاسة بلدية اسطنبول، في انتخابات 31 آذار 2019، وبفارق بلغ 30 ألف صوت، وبنسبة لا تزيد على 1%. لكن إردوغان الذي عزّت عليه خسارة البلدية الأولى في تركيا، بعدما كانت سبب صعوده السياسي، ضغط على «اللجنة العليا للانتخابات» لإعادة الفرز، فكان له ما أراد، وإنْ لم تتغيّر النتيجة. ولكن الخسارة كانت لإردوغان الذي ضغط من جديد، لتلغي اللجنة انتخابات اسطنبول برمّتها، وتدعو إلى إجراء انتخابات جديدة في 24 حزيران. غير أن النتيجة جاءت صادمة لإردوغان الذي خسر مرشّحه القوي بن علي يلديريم مجدّداً، لكن هذه المرّة بفارق تاريخي بلغ 800 ألف صوت.
وشكّلت انتخابات اسطنبول مناسبة لظهور وجه علماني جديد يحظى بقبول الغالبيّة، ولكن إردوغان وجد فيه منافساً أوّل وخطراً كبيراً عليه في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى بعد خمس سنوات. كان كل شي هادئاً وطبيعياً عندما أطلق الرئيس التركي أولى رصاصاته ضدّ منافسه المحتمَل. فقد قرّرت محكمة الجزاء الأصلية السابعة في اسطنبول، في أولى خطوات «الانقلاب القضائي»، إقامة دعوى على إمام أوغلو، متهمة إيّاه بـ«إهانتها» في نيسان 2019، في أعقاب قرار إعادة الانتخابات البلدية في اسطنبول، حين اعتبر أن أعضاءها يتّسمون بـ«الغباء»، علماً أن إمام أوغلو قال ذلك ردّاً على وزير الداخلية، سليمان صويلو، الذي اتهم منتقدي اللجنة العليا بـ«الغباء». وانتظرت اللجنة حتى قبل يومين، لتتقدَّم بشكوى ضدّ إمام أوغلو بتهمة تحقيرها، فيما بقي صويلو حراً طليقاً، على رغم أنه هو مَن بادر إلى استخدام هذه العبارة.
في هذا الوقت، تتّجه الأنظار إلى المسار القضائي للقضيّة، والذي يبدو من العبث الرهان عليه. فالقضاء التركي، بكامل مؤسّساته، تحوّل، بعد عام 2018 - مع بدء العمل بالنظام الرئاسي الجديد -، إلى ألعوبة بيد رئيس الجمهورية. وصار واضحاً أن المطلوب هو شيء واحد، وهو منع إمام أوغلو من الترشّح للرئاسة، وإرباك «لقاء الستة»، وخصوصاً أن الحُكم بسجنه سنتين وسبعة أشهر ونصف شهر سيفضي تلقائيّاً إلى حرمانه من مزاولة حقوقه السياسية، ومنها أيضاً عزْله من منصبه. على أن ذلك يبقى رهن محكمتَي التمييز (في حال الاستئناف) والعليا، وأمامهما الوقت الكافي وغير المحدود لاتخاذ القرار النهائي. وإلى حينه، سيواصل إمام أوغلو عمله وحقوقه كالمعتاد، غير أن المعارضة وقعت حتماً في فخّ إردوغان وقضائه، ولا سيما أن القرار القضائي النهائي قد يصدر عشيّة الانتخابات الرئاسية، وفي حال كان إمام أوغلو هو المرشّح، فسيسقط ترشيحه ويفوز إردوغان بما يشبه التزكية. من هنا، لن تغامر المعارضة بترشيح رئيس بلدية اسطنبول، وستذهب إلى مرشّح آخر يُحتمل أن يكون كمال كيليتشدار أوغلو نفسه، أو منصور ياواش، أو شخصيّة أخرى، علماً أنها تراهن على أن يُحدِث قرار المحكمة نتيجة عكسية تقوّي أكثر وضع مرشّحها أيّاً كان اسمه، وتضعف تالياً حظوظ إردوغان أكثر.
لم يمرّ قرار المحكمة مرور الكرام على المعارضة التي التقى زعماؤها الستة مع إمام اوغلو في مهرجان تحدٍّ ضخم نُظِّم بعد ظهر يوم أمس أمام بلدية اسطنبول في منطقة سراج خانه، وحضره عشرات الآلاف. وتحدّث في اللقاء، إمام اوغلو والزعماء الستة، متعهّدين بـ«مواجهة الانقلاب الجديد والدفاع عن الديموقراطية وإسقاط نظام استبداد الفرد الواحد». ولعلّ التوصيف الأكثر دقّة جاء على لسان زعيمة «الحزب الجيّد»، مرال آقشينير، من أن تركيا تحوّلت إلى «إمبراطورية للخوف»، فيما دعا رئيس الجمهورية السابق، عبد الله غول، الأُمّة إلى «تصحيح هذه الخطأ المخجل». أما زعيم «حزب الشعب الجمهوري»، كيليتشدار أوغلو، فرأى أن التعليمات جاءت مباشرة من إردوغان، وأن على المحكمة أن تبرّئ إمام أوغلو. ووفق الكاتبة برين سونميز، فإن قرار المحكمة ليس عقاباً لإمام أوغلو فحسب، بل لكلّ الناخبين، كونه يعكس استمراراً لذهنية 28 شباط 1998، حين استُهدِف الإسلاميون، الذين باتوا يستخدمون التكتيك نفسه لاستهداف خصومهم. وانتقد الوزير السابق وأحد الأسماء البارزة في حزب «العدالة والتنمية»، حسين تشيليك، قرار المحكمة، واصفاً إيّاه بـ«السيئ جدّاً للسلطة»، وبأنه «سيعزّز وحدة المعارضة». أمّا الزعيم البارز سابقاً في «العدالة والتنمية»، رئيس البرلمان السابق بولنت أرينتش، فرأى أن القرار «مخجل ومحبط ويكسر سمعة القضاء»، داعياً المحكمة العليا إلى تصحيح الوضع فوراً. وقال إن «مثل هذا الحكم لن يساعد سوى على تقوية ملفّ المرشّح المنافس لإردوغان». كذلك، حفلت الصحافة بنشر صور لرئيس المحكمة التي أصدرت الحكم، وهو مهدي قومشو، مع نواب وأعضاء في حزب «العدالة والتنمية» في مناسبات مختلفة. ولعلّ أبرز التعليقات الخارجية جاءت على لسان الرئيس الأميركي، جو بايدن، الذي رأى أن القرار «يتعارض مع الحريات والحقوق الأساسية وسيادة القانون»، فيما وصفته وزارة خارجية الولايات المتحدة بأنه «مخيّب للآمال ومقلق للغاية».
ويمكن هذا القرار أن يجرّ البلاد نحو مزيد من التوتّر السياسي والفوضى العامة والأمنية وتردّي الوضع الاقتصادي، وهو ينبئ بأن الأشهر الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية ستكون ساخنة في انتظار الفصل الحاسم، فيما السؤال لم يَعُد يتمحور حول ما إذا كان إردوغان سيكسب الانتخابات أو لا، بل ما إذا كانت الانتخابات ستجرى أصلاً في موعدها؟