أنبأت السرعة التي وُقّع بها الاتفاق السياسي بين الحكومة والمعارضة في فنزويلا، أخيراً، بعد أكثر من ثلاث سنوات من الأخذ والردّ العقيمَين، بوجود دفْع خارجي سهّل التوصّل إلى هذه التسوية. دفْع تصدّرته الولايات المتحدة التي لم تَجد بدّاً من التضحية بحلفائها الفنزويليين لصالح تهدئة من الدولة الكاريبية، ذات الامتيازات النفطية الهامّة، تتيح تعويض جزء من النقص الذي خلّفته أزمة الطاقة العالمية، الناجمة عن العقوبات الغربية على روسيا. وتجلّت هذه المقايضة، بوضوح، في إعلان واشنطن الفوري تخفيف العقوبات المفروضة على كاراكاس، والذي تُرجم عبر منْح شركة «شيفرون» الأميركية ترخيصاً جديداً مدّته 6 أشهر، لتنفيذ مشاريع مشتركة مع شركة النفط الوطنية الفنزويلية «PDVSA». وتمتلك فنزويلا أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في العالم، ولطالما كانت، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى العقد الأوّل من القرن الحالي، مورّداً أساسيّاً للنفط ومشتقّاته إلى الأسواق الأميركية. ومن هنا، فإن هذه الخطوة تُعتبر «أكثر إلحاحاً لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، منها للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، خصوصاً في السياق السياسي العالمي القائم حالياً»، إذ إن الرفع التدريجي للعقوبات عن فنزويلا سيؤدّي، أوّلاً، إلى ضخّ المزيد من النفط في السوق العالمية، وهو ما يحتاج إليه بايدن لمنْع مزيد من الارتفاع في أسعار الوقود. كما أن النفط الفنزويلي سيعوّض، ثانياً، ما حُرمت منه السوق الأميركية بعد فرْض العقوبات على مشتريات النفط من روسيا، خصوصاً أن دخول «شيفرون» على الخطّ سيضاعف الإنتاج ليصل إلى 1.5 مليون برميل يومياً، وفق ما يؤكد خبراء.
على الجهة الفنزويلية، من شأن الإجراءات الأميركية أن تساعد كاراكاس في إعادة بناء قطاعها النفطي، وبالتالي العودة مجدّداً إلى السوق العالمية، ومضاعفة دخلها، مع ما يعنيه ذلك من انعكاسات إيجابية على مستويات عدّة، وخصوصاً لناحية التحسين المحتمل في الأجور (يبلغ متوسّطها الشهري حوالى 25 دولاراً)، والحدّ من أزمة المهاجرين الفنزويليين. يُضاف إلى ما تَقدّم الدعم الذي ستحظى به السندات الفنزويلية المتعثّرة، والتي ارتفعت قيمتها سريعاً بالفعل. أمّا سياسياً، فسيكون للانفتاح الأميركي تأثيره على ظروف الانتخابات الرئاسية المزمع عقْدها في عام 2024، إذ ستُجبَر الدول الغربية على الاعتراف بشرعية مادورو، وهو ما بدأت معالمه بالظهور في قمّة «cop27» التي عُقدت أخيراً في مصر، حيث أجرى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، محادثات سريعة مع نظيره الفنزويلي على هامش القمّة، لتنتشر سريعاً أنباء عن ضغوط تمارسها شركات الطاقة المتعدّدة الجنسيات، مثل «إيني» و«ريبسول» الأوروبية، من أجل الحصول على امتيازات في فنزويلا مماثلة لتلك التي حصلت عليها «شيفرون».

مادورو «أكثر قوة»
مع بداية العام الجاري، توقّع الرئيس الفنزويلي أن يصل إنتاج النفط في بلاده إلى عتبة المليونَي برميل يومياً بحلول نهايته، إلا أن ذلك لم يتحقق بسبب العوائق اللوجستية التي يواجهها قطاع النفط الفنزويلي الرازح تحت عقوبات كانت واشنطن قد بدأت بفرضها منذ 15 عاماً في عهد الرئيس السابق هوغو تشافير، وبلغت ذروتها أخيراً مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2018. مع ذلك، أثبت النظام الفنزويلي «أنه مرن وقابل للتكيّف»، وفق ما يورد الكاتبان خورخي غرايساتي، وولف فون لاير، في مقالٍ نُشر العام الماضي في مجلّة «فورين أفيرز» الأميركية، مؤكدَين أن العقوبات «لم تفشل في إحداث تغيير في النظام فحسب، بل يبدو أيضاً أنها أدّت إلى تعميق قوة مادورو». ويرجع الكاتبان ذلك إلى عدّة أسباب: الأول؛ تردّد واشنطن منذ عام 2006 في اعتبار «تغيير النظام» هدفاً ثابتاً لها في فنزويلا باستثناء "الوضوح" الذي أظهره ترامب في هذا السياق، حيث «اعتقد صانعو السياسة أن نقص الموارد الناتج من العقوبات سيؤدي إلى فقدان مادورو السيطرة على المصالح الرئيسة، من الجهات الفاعلة المحلية مثل النخبة التجارية والعسكرية إلى الحلفاء الدوليين مثل روسيا والصين»، لكن ذلك لم يحصل، إذ استطاع مادورو المحافظة على تلك المصالح بل وتقويتها.
ويرتبط السبب الثاني بالدور الذي لعبته «PDVSA» في الحفاظ على استقرار الأوضاع نسبياً في البلاد، على اعتبار أن الحكومة، منذ عام 2003، تستعمل عائدات الشركة لتمويل البرامج الاجتماعية، ودعم سعر الصرف الرسمي، وهو الأمر الذي ساعد مادورو في البقاء في السلطة، على رغم انهيار الصادرات النفطية. أمّا السبب الثالث، فتَمثّل في اتّباع مادورو نهج «تحرير اقتصادي على الطراز السوفياتي»، عبر فتح أجزاء من الاقتصاد من مثل قطاعي الخدمات والنفط بهدف استقطاب مشاريع جديدة، وهو ما حدث في «PDVSA» نفسها، التي دعت حكومة مادورو رؤوس أموال وطنية ودولية إلى الاستثمار في مشاريعها. كذلك، استطاع مادورو العمل خارج نطاق النظام المالي الأميركي، مستفيداً من علاقاته مع الأنظمة الخاضعة للعقوبات من مثل إيران وروسيا والصين، التي لعبت بدورها دوراً أساسياً في مساعدة كاراكاس، كما فعلت بكين عندما زادت من وارداتها من النفط الفنزويلي عبر سلسلة من «الشركات الوهمية»، وأيضاً طهران عندما أرسلت شحنات نفطية إلى فنزويلا قبل عامين.