سرعان ما انتشرت الاحتجاجات في الصين، من الغرب الأقصى حتى الساحل الشرقي، لتشمل كبرى المدن والعاصمتَين السياسية بكين، والاقتصادية شنغهاي، متأثّرة بتغطية إعلامية هي بمثابة تعبئة، بعدما حلَّت عنواناً أوّل في الإعلام الغربي، أضيفَ إلى احتجاجات إيران والحرب الروسية في أوكرانيا اللتَين تراجَع الحديث عنهما في الأيّام القليلة الماضية، وبما يُضخّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي من مقاطع مصوّرة ودعوات إلى التظاهر. ليس فعل الاحتجاج، على أيّ حال، حديث العهد في الصين، فالحراكات المطلبية لطالما شكّلت سِمة مجتمعيّة، لكنها باتت تتّخذ اليوم، وبفعل المواجهة المستعرة بين جبهتَين غربية وشرقية، طابعاً سياسياً يَظهر هو الآخر متأثّراً بالعداء المتنامي للبلد الآسيوي. وللدلالة على ما تَقدّم، يمكن أوّلاً التوقّف عند جملة تصريحات خرجت في هذه المناسبة، مِن مِثل قول الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، إن الرئيس جو بايدن يتابع ما يجري في الصين عن كثب، ويدعم حقوق المتظاهرين، في تشكيك وزارة الخارجية الأميركية في نجاعة سياسة «صفر كوفيد»؛ وتحذير رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، من أن الصين تشكّل «تحدّياً منهجيّاً» لـ«قيم ومصالح» المملكة المتحدة، وقوله إن «العصر الذهبي» للعلاقات الصينية - البريطانية الذي ساد في عهد رئيس الوزراء الأسبق، ديفيد كاميرون، «انتهى، إلى جانب الفكرة الساذجة بأن التجارة ستؤدّي تلقائيّاً إلى إصلاحات سياسية واجتماعية». ولعلّ التصريح الآنف يفسّر بما لا يَدَع مجالاً للتأويل الرهان الغربي على «التغيير (المؤمّل) من الداخل»، والذي لم يُثمر التعويل عليه النتيجة المرجوّة.بدأت الاحتجاجات من شينجيانغ شمال غرب الصين، عندما لقي عشرة أشخاص حتفهم في حريق اندلع في مبنى سكني في مدينة أورومتشي، عاصمة المقاطعة، وتسبّب بغضب عارم جرى التعبير عنه على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تفيد السرديّة المتداوَلة بأن السياسة الصارمة التي تتّبعها بكين لاحتواء الجائحة، «صفر كوفيد»، أَبطأت جهود الإغاثة، وعَرقلت وصول فِرق الإنقاذ إلى مكان الحادث. وتقضي السياسة الحكومية المستمرّة منذ ظهور الوباء أوّلاً في ووهان، بفرض قيود مشدَّدة فور تسجيل إصابات، ووضْع الأشخاص الذين تَثبت إصابتهم في الحجر الصحي، وفرْض فحوصات «بي سي آر» شبه يوميّة ليتمكّن الأشخاص من دخول الأماكن العامّة. وعلى خلفيّة الحادثة، أظهرت صور انتشرت على مواقع التواصل، مئات الأشخاص متجمّعين ليلاً أمام مبنى بلدية أورومتشي، وهم يهتفون «ارفعوا الإغلاق». وفق الرواية الرسمية، تعقَّدت محاولات الإنقاذ بسبب «نقص في أماكن وقوف الآليات وعدد كبير من السيارات الخاصّة المتوقّفة على جانبَي» الزقاق المؤدّي إلى المبنى، كما صرّح رئيس فريق الإطفاء في أورومتشي، لي وين شينغ، فيما قدَّم رئيس البلدية، مايمتيمينغ كادي، اعتذاره الرسمي عن الحريق، بحسب القناة التلفزيونية العامّة. ودحضت السلطات بعض المزاعم التي يتمّ تداولها عبر شبكة الإنترنت، من أن أبواب المبنى كانت مغلَقة بالأسلاك لمنع السكّان من مغادرته أثناء الحجْر، مشيرة، في الموازاة، إلى أن المدينة التي يقطنها نحو أربعة ملايين نسمة «شهدت تراجعاً في انتقال العدوى بسبب الاتصالات الاجتماعية إلى الصفر»، وأكدت أنها ستعيد «نظام الحياة الطبيعية للسكّان في المناطق المنخفضة الخطورة بطريقة تدريجيّة ومنظّمة».
الاحتجاجات التي بدأت على نطاق مدينة في مقاطعة صينية، سرعان ما توسّعت لتشمل كبرى المدن


لكن الاحتجاجات التي بدأت على نطاق مدينة في مقاطعة صينية، سرعان ما توسّعت لتشمل كبرى المدن، وخصوصاً بكين وشنغهاي، وباتت تطالب إضافةً إلى إنهاء تدابير الإغلاق بفتح مجالات أوسع للحريات السياسية، وأحياناً باستقالة الرئيس شي جين بينغ، في موجة تقول وسائل الإعلام الغربية إن البلاد لم تشهد مثيلاً لها، لجهة سعة انتشارها، منذ «الاحتجاجات المؤيّدة للديموقراطية» في عام 1989. ومن بين الشعارات التي هتف بها المحتجّون: «لا لفحوصات كوفيد، نحن جياع»، و«شي جين بينغ استقِل»، و«الحزب الشيوعي الصيني انسحِب»، و«لا للحجْر، نريد الحريّة». وفي ضوء الهتافات التي بدت منظَّمة، ورفْع المحتجّين ورقة بيضاء في استنساخ لشعار احتجاجات هونغ كونغ قبل ثلاث سنوات، اتّهمت وزارة الخارجية الصينية «قوى ذات دوافع مبيّتة» بالربط بين الحريق و«الاستجابة المحلّية لكوفيد-19». في هذا الوقت، لا تزال بكين ملتزمة بتطبيق سياسة «صفر كوفيد» التي تُجبِر الحكومات المحليّة على فرْض إغلاقات عامّة مفاجئة، وإصدار أوامر بالحجر الصحي والحدّ من حريّة التنقل، من أجل كبْح تفشّي الفيروس. لكن ثمّة مؤشرات إلى أن بعض السلطات المحلّية بدأت تتّخذ خطوات لتخفيف بعض القيود وتهدئة الاضطرابات؛ ففي أورومتشي، قال أحد المسؤولين إن المدينة ستمنح دفعة مالية واحدة قَدْرها 300 يوان (42 دولاراً) لكلّ شخص «ذي دخل منخفض أو بلا دخل»، وأَعلن عن إعفاءات من دفع الإيجار لمدّة خمسة أشهر لبعض الأسر. وأفادت وكالة أنباء «الصين الجديدة»، من جهتها، بأن الحكومة حَظرت «إغلاق البوابات في المجمّعات السكنية»، وهو تدبير أثار غضباً شعبياً، إذ وجد الناس أنفسهم عالقين في منازلهم كلّما تفشّى «كورونا» في دائرة صغيرة. وفي الوقت نفسه، تعهّدت لجنة الصحة الوطنية في بكين، يوم أمس، بـ«تسريع عملية تطعيم الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم 80 عاماً، ومواصلة زيادة معدّل تلقيح البالغين ما بين 60 و79 عاماً».
«ما يثير الاهتمام جدّاً في هذه الاحتجاجات هو كيف أن التركيز على قضيّة واحدة، هي الإغلاق العام بسبب كوفيد-19، تحوّل بسرعة إلى قضايا سياسية أوسع»، وفق ما تقول الخبيرة السياسية، ماريا ريبنيكوفا. اهتمامٌ يبدو أنه سرعان ما وجد مَن يتلقّفه، إذ خرجت تظاهرات عدّة في الجامعات الأميركية لمساندة المحتجّين الصينيين في «معركتهم من أجل الحريّة». لكن بالعودة إلى سياسة الإغلاق، تقول الرواية الغربية للأحداث الجارية، وهي السرديّة الرائجة بطبيعة الحال، إن سياسة «صفر كوفيد» تقتل الصينيين، مستدلّين بما حدث في أورومتشي، وإن انعكاسات الإغلاق المستمرّ منذ ثلاث سنوات كارثيّة على معاش الصينيين - ويمكن هنا الإشارة إلى العنوان الذي يتصدّر موقع صحيفة «نيويورك تايمز»: «احتجاجات الصين على صفر كوفيد بعد أشهر من الألم الاقتصادي» -، علماً أن الحديث الذي راج مع بدء الجائحة كان أنها أَثبتت عدم جدارة النيوليبرالية، وفضحت أنظمة الرعاية الصحية خصوصاً في الولايات المتحدة. لكن لا شكّ في أن هناك حالة اعتراض متصاعدة لدى أوساط اجتماعية صينية متعدّدة، وبدرجات متفاوتة الحدّة ضدّ النظام الحاكم، فيما لم يتّضح بعد كيف تعتزم بكين التعامل مع ما يجري، وإن كانت قد أشارت إلى أنه ينبغي «قمع عمليات التسلُّل والتخريب للقوى المعادية وفقاً للقانون».