في السردية الغربية السائدة، تقدم الأحداث الجارية في إيران على أنها تمرد للقطاعات «الشابة والحديثة» في مجتمعها ضد نظام الجمهورية الإسلامية. ينهل مروّجو هذه السردية، من «خبراء» غربيين، أو إيرانيين مقيمين في الغرب أساساً، من مفاهيم ومقولات علم الاجتماع لإسباغ طابع «علمي» عليها، وتصوير ما يقع في هذا البلد على أنه بداية ثورة شعبية عارمة شبيهة بتلك التي أطاحت بالنظام الشاهنشاهي في 1979. توظيف علم الاجتماع لخدمة أجندات سياسية محلية و/أو دولية، منسجمة مع مصالح القوى المسيطرة أو متناقضة معها، ليس بالأمر الجديد. سبق لعالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيير بورديو أن اعتبر أن هذا العلم «فن قتالي»، يوفر للباحثين والمناضلين المنحازين لقضايا الشعب، وللعدالة الاجتماعية، أسلحة نظرية لتحليل وتفكيك آليات السيطرة المعتمدة من قبل الرأسمالية المعاصرة، والمساهمة في بلورة سياسات مناهضة لها. غير أن استراتيجيات السيطرة المذكورة لجأت هي الأخرى إلى استعمال العلوم الإنسانية، كعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا مثلاً، والأخيرة وُصفت عند نشأتها بالعلم الاستعماري، لإنفاذ مشاريعها، وإعادة هندسة الواقع الاجتماعي والسياسي ليتناسب مع مراميها. آخر نموذج على مثل هذا التوظيف للإنسانيات هو الخطاب الأميركي حول العراق، الذي ساد قبل غزو هذا البلد وبعده، والذي استخدم لتبرير تدمير الدولة العراقية المركزية باعتبارها لا تمثل «المكوّنات الحقيقية» للمجتمع العراقي، وبناء نظام سياسي على قاعدة التمثيل الطائفي والإثني، يندرج في إطار مشروع إعادة صياغة الشرق الأوسط. الهدف المعلن لهذا المشروع كان «تصدير الديموقراطية» عبر الغزو العسكري المباشر والقوة الخشنة، وقد فشلت واشنطن في تحقيقه. غير أن الخلاصة الرئيسية التي توصلت إليها دولتها العميقة، والنخب السياسية والثقافية المرتبطة بها، هي ضرورة استبدال التدخل العسكري المباشر بالحرب الهجينة وأدواتها، والتي يحتل فيها التخريب الاجتماعي في البلدان المستهدفة أميركياً موقعاً مركزياً.يُفرض على إيران حصار اقتصادي ومالي خانق من خلال العقوبات و«الضغوط القصوى»، وتتعرض لعمليات زعزعة استقرار أمنية وعسكرية، بغية تأليب أوسع شريحة ممكنة من الإيرانيين ضد الدولة، وخلق الأرضية المناسبة لـ«الديناميات الاجتماعية الداخلية» القابلة للاستغلال من القوى الخارجية. غير أن «الخارج»، أي التحالف الغربي - الإسرائيلي، ومعه بعض النظم الخليجية، لم يكتف بإيجاد الظروف الملائمة لتأجيج الانقسامات الداخلية في إيران، بل هو عمل منذ سنين طويلة على دعم القوى المعادية لنظامها، بدءاً بالحركات الانفصالية في كردستان وسيستان بلوشستان والأهواز، مروراً بمجاهدي خلق، ووصولاً إلى مروحة من الجمعيات والشبكات الناشطة في أوساط الطلبة والشباب والطبقات الوسطى. وهو استغل أيضاً بعض البيئات المعارضة بين الإيرانيين المقيمين في الخارج لإنشاء أطر مهمتها تأمين سبل للنفاذ إلى الداخل الإيراني، إضافة طبعاً إلى الدور المحوري الذي تلعبه ترسانة الحرب الإعلامية، أي مجموعة من القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية المكرّسة حصراً لضخ الدعاية المعادية لطهران. الفرضية المحورية التي ترتكز إليها هذه الاستراتيجية هي أن مفاعيل العولمة الثقافية على الشرائح العليا والوسطى في المجتمع الإيراني و«الجاذبية الهائلة» لنمط الحياة الغربي، نجحت في إنتاج وتعميق شرخ حقيقي بين هذه الشرائح، خاصة الشابة، وبين النظام الإسلامي ومنظومة قيمه السائدة ونمط الحياة الحالي في إيران.
تتعامى خطة التخريب عن واقع المجتمع الفعلي في إيران ووجود قاعدة راسخة مؤيّدة للنظام وثوابته العقائدية والسياسية

ومع أن هذه الفرضية أيديولوجية بامتياز، وتتعامى عن واقع المجتمع الفعلي في إيران، ووجود قاعدة موالية راسخة مؤيّدة للنظام الإسلامي وثوابته العقائدية والسياسية، فإنها بمثابة حجر الزاوية في الخطة المتّبعة الآن والرهانات التي تتأسس عليها. يعتقد أصحاب الخطة أن الشرائح «الشابة والحديثة» في المجتمع الإيراني قادرة على الاضطلاع بدور «طليعي» في قيادة حركة الاحتجاجات التي سرعان ما ستنضم إليها قطاعات وشرائح أخرى، متضررة من الأوضاع المعيشية الصعبة، أو من أبناء الأقليات المتطلعة بنظرهم إلى الانفصال، ما سيدخل إيران في دوامة اضطرابات مديدة، تضعف سيطرة الدولة على البلاد، وتثير انقسامات في صفوف قيادتها ومؤسساتها. تنبري مراكز دراسات ووسائل إعلام غربية إلى تقديم نصائح علنية، هي في الحقيقة «برنامج عمل»، للجهات المشاركة في الاضطرابات الراهنة، حول كيفية تنظيمها وتأطيرها لتأمين شروط نجاحها. ومن اللافت مثلاً أن أسبوعية «إيكونوميست»، أسبوعية عالم المال والأعمال «الرصينة والموضوعية»، أضحت فجأة منبراً ثورياً يشرح للمحتجّين الإيرانيين كيفية إدارة المواجهة بنجاح. ففي تقرير وثائقي مصور نشر على موقعها في السابع من الشهر الجاري، رأت الأسبوعية البريطانية أن بين أبرز المتطلبات لصيرورة الاحتجاجات «ثورة» هو أن تنبثق من المحتجين «قيادة قوية يستطيع العالم الخارجي التعامل معها على أنها تمثل إيران المستقبل». المضحك هو أن معدّي التقرير «يقترحون» أن يختار المعارضون رمزاً لهم من خارج إيران يفضّل أن يكون امرأة للقطيعة، برأيهم، مع توجهات النظام الإسلامي، ولا يجدون سوى مسيح أحمدي نجاد، المقيمة في الولايات المتحدة والمرتبطة بالاستخبارات الأميركية (والتي استقبلها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أمس)! النقطة الأخرى هي الاستعداد لمعركة طويلة والقدرة على احتمال أكلافها، لأن «الثورة التي انتصرت في شباط 1979، انطلقت في بدايات 1978». الرهان الثالث هو «استدراج النظام للقيام بعمليات قمع واسعة النطاق ينجم عنها الكثير من الضحايا، تتسبب بانقسامات في صفوف القوى الأمنية والعسكرية». النقطة الرابعة، هي مطالبة «المجتمع الدولي» بالتدخل ومساندة المحتجين. وبمعزل عن مدى وجاهة مثل هذه النصائح والتوصيات، الصادرة عن المجلّة المفضّلة لأصحاب المليارات، فإن الحرب الإعلامية - الأيديولوجية الغربية التي تشارك فيها عشرات مراكز الدراسات المرموقة ووسائل الإعلام الرئيسية، تزخر بوصفات مشابهة تهدف إلى إقناع المعارضين الإيرانيين بأن الغرب يقف معهم من جهة، وتعبئة الرأي العام الغربي ضد إيران لحمله على تأييد أقصى السياسات المتشددة حيالها من قبل حكوماته. بطبيعة الحال، فإن الأطراف المنخرطة في هذه الاستراتيجية تعرف بأن النظام في إيران قادر على التعامل مع الأزمة المفتعلة الحالية، والتغلب عليها، لكن ما يريدونه ببساطة هو السعي لإضعاف وحدتها المجتمعية وتكبيدها أكبر قدر ممكن من الخسائر البشرية والمادية.