شهد الأسبوع الماضي توتّراً غير مسبوق منذ نحو خمسة أعوام في شبه الجزيرة الكورية، على إثر التحرّكات العسكرية الجديدة لكلّ من الكوريتَين الشمالية والجنوبية. إذ نفّذت الأخيرة، بمشاركة الحليف الأميركي، تدريبات عسكرية، استُدعيت خلالها القاذفة النووية الاستراتيجية «B-1B»، وهو ما ردّت عليه الأولى بإطلاق صواريخ باليستية ونشْر طائرات حربية، لتعود واشنطن وسيول وتردّان بإطالة أمد المناورات يوماً إضافياً. وعلى الرغم من أن العديد من المسؤولين الأميركيين، الحاليين والسابقين، شكّكوا في نجاعة هذا الأسلوب، بدليل أن الصواريخ التي جرّبها الشمال، قبل أيام، لديها القدرة على حمْل رؤوس نووية قصيرة المدى، ما يعني أن الأهداف العسكرية الرئيسة في الجنوب، بما فيها القواعد العسكرية الأميركية، تُعدّ في مرمى نيرانه، إلّا أن الولايات المتحدة تبدو مصمّمة على تبنّي خيار التدريبات العسكرية، والذي يبدو أنه لم يَعُد هدفه الرئيس، أقلّه مرحلياً، منْع بيونغ يانغ من تطوير أسلحة نووية، بقدْر ما هو لجمها عن استخدامها، وفق ما لمّح إليه وزير الدفاع الكوري الجنوبي، لي جونغ سوب. يأتي ذلك فيما بدأت تعلو أصوات غربية بالمطالبة بـ«التركيز على الاتفاق مع بيونغ يانغ لتقليل خطر نشوب صراع في شبه الجزيرة الكورية، حتى لو كان ذلك بمثابة قبول ضمني بأن الشمال سيستمرّ في امتلاك أسلحة نووية»، وفق ما يقول الكاتب في صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية، كريستيان ديفيز.ويُعدّ هذا التوجّه الجديد دليلاً إضافياً على فشل استراتيجية العقوبات والضغط الدبلوماسي المتَّبعة من قِبَل واشنطن وحلفائها، في ثنْي بيونغ يانغ عن سياستها النووية، وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة حول خلفيات هذا الفشل. يعتقد سو كيم، المحلّل في مؤسسة «راند»، بأن ثمّة «دعماً روسياً وصينياً لتسهيل الالتفاف على العقوبات، واختراق برامج العملات المشفّرة من أجل الاستمرار في تطوير البرنامج النووي الكوري»، وفق ما تنقل عنه وكالة «أسوشيتد برس» الأميركية. وهو اعتقاد يوافق عليه المحلّل في «المعهد الكوري للتوحيد الوطني» في سيول، هونغ مين، الذي يرى أن «الحرب الروسية في أوكرانيا فتحت على ما يبدو فرصة جديدة لكوريا الشمالية، لنقل التكنولوجيا الروسية والإمدادات اللازمة لتوسيع قدراتها العسكرية». وعلى الرغم من أن كلّ عملية إطلاق تكلّف كوريا الشمالية ما بين مليونَي وعشرة ملايين دولار أو أقلّ بقليل، إلّا أن التكلفة العالية لا يبدو أنها تشكّل حاجزاً بالنسبة إلى قيادة البلاد، على الرغم من التباطؤ الاقتصادي، وهو ما يعزوه تقرير «أسوشيتد برس» إلى رغبة بيونغ يانغ في انتزاع تنازلات مستقبلية، فيما يذهب البعض إلى أن الشمال بات يرى في أسلحته النووية «الضمانة الوحيدة للحفاظ على سيادته»، وفق ما يؤشّر إليه حديث كيم يو جونغ، شقيقة الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في آب الماضي، حينما ردّت على عرْض الرئيس الكوري الجنوبي، يون سوك يول، مساعدة بلادها اقتصادياً مقابل التخلّي عن السلاح النووي، بالقول إن «أحداً لا يتخلّى عن مصيره في مقابل كعكة ذرة».
البيان المشترك بين الصين وروسيا كان بمثابة نقطة انعطاف للقِيادة الكورية الشمالية


على أن هذا التصعيد الشمالي لا يبدو منفصلاً عن مجمل السياق الدولي. بالنسبة إلى راشيل مينيونغ لي، المحلّلة في موقع «نورث 38»، «ليس هناك تصرّفات دولة تحدث في فراغ، والأمر نفسه ينطبق على كوريا الشمالية. لهذا السبب، وبدلاً من الردّ على إجراءات بيونغ يانغ أو تحليلها بشكل مجزّأ، من المهمّ تفحص خلفيّة الإجراءات الشمالية، والتي يتمّ على أساسها تشكيل تصوّرات البلاد واتّخاذ القرارات وتنفيذها». وتَلفت مينيونغ لي، في مقال نُشر أوائل هذا الشهر، إلى أن الدلالات على تقرّب بيونغ يانغ من بكين «تتزايد بشكلِ مطّرد ومتّسق في السنوات الأخيرة»، محتمِلةً أن يكون البيان المشترك بين الصين وروسيا، والذي صدر في الرابع من شباط الماضي، قد مثّل «نقطة انعطاف للقِيادة الكورية الشمالية»، التي رأت، على ما يبدو، في هذه الوثيقة، ترجمة لـ«عالم مجزّأ بشكل متزايد، تتضاءل فيه قوة الولايات المتحدة ودورها على المسرح العالمي». ولعلّ ذلك التقدير انعكس بوضوح في خطاب كيم أمام مجلس الشعب الأعلى في أيلول الماضي، حيث قال إن «التحوّل من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدّد الأقطاب يتمّ تسريعه بشكل كبير»، وأيضاً في إعلان وزير الدفاع الكوري الشمالي، تشوي سون هوي، نيّة بلاده إجراء «عمليات استراتيجية وتكتيكية منسَّقة مع الجيش الصيني». أمّا بخصوص العلاقة مع روسيا، فقد بعث كيم، في 15 آب، برسالة إلى بوتين أشاد فيها بتنامي «التعاون الاستراتيجي والتكتيكي والدعم والتضامن» بين البلدَين، فيما حمّلت موسكو، أخيراً، واشنطن المسؤولية عن تفاقم الوضع في شبه الجزيرة الكورية، لرغبتها في «إجبار بيونغ يانغ على ترْك سلاحها». بناءً عليه، تَرصد مينيونغ لي تحوُّلاً في اتّجاهين: الأوّل تَراجُع كوريا الشمالية عن الرؤية التي رسمها الرئيس السابق، كيم إيل سونغ، تجاه الولايات المتحدة عام 1994 (حيث تمّ تطبيع العلاقات واتُّفق على التفاوض بشأن نزع النووي)؛ والثاني، ذهاب بيونغ يانغ نحو الاعتقاد بأن «تطبيع العلاقات مع واشنطن لا طائل من ورائه، وأن من الممكن ضمان المصالح الاقتصادية للبلاد من خلال التوافق مع الصين وروسيا».
بالنتيجة، يرى مراقبون أنه سيكون أجدى للولايات المتحدة وحلفائها تقديم عروض جديدة لكوريا الشمالية، لإقناعها بأن «المفاوضات - على عكْس المرّات السابقة - ستصّب في مصلحة النظام الكوري الشمالي على المدى البعيد». غير أن هؤلاء يستبعدون تَحقّق مِثل هذا السيناريو في ظلّ حُكم جو بايدن في الولايات المتحدة، وحُكم «المحافظين» في كوريا الجنوبية، واللذين يصرّان على التفكير من «داخل الصندوق»، من دون الاستفادة من تجارب أسلافهما، ما يعني أن شبه الجزيرة الكورية سيشهد مزيداً من التوتّر في المرحلة المقبلة.