بعشوائية زمنية وترتيب ظاهر، يُفرد اللواء احتياط نيكولاي بلوتنيكوف على حائط مكتبه تاريخ المهام العسكرية للقوّات الروسية منذ السبعينيات، عبر مجموعة من صُوره الشخصية، توثّق لحظات دولية مهمّة كان حاضراً فيها. هناك، في وسط العاصمة الروسية، داخل مقرّ «معهد الاستشراق» التابع لـ«الأكاديمية الروسية للعلوم»، يتنقّل البروفسور من وسط آسيا والقوقاز إلى البلقان وأوروبا الشرقية، مدلّلاً بأصابع يده القوية على الذكريات والنزاعات المسلّحة والسياسية. منذ 17 عاماً، انتقل الضابط الرفيع من الميدان إلى الاحتياط، ومن العسكر إلى الدراسات والبحث. يرأس بولتنيكوف، حاليّاً، «مركز المعلومات العلمية والتحليلية» التابع للمعهد، الذي يقوم بدور أكاديمي بحثي في دراسة المسائل السياسية والاجتماعية في الشرق الواسع. وقد نظّم المعرض، أخيراً، «سيمينار الأزمات الحالية والمحتمَلة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وسُبل حلولها»، حيث قدّم عدد من الباحثين والخبراء الروس والأجانب دراسات وأوراق عمل في شأن مختلف المسائل الجيو ــ سياسية في الشرق، وجرت نقاشات معمّقة حول طاولة مستديرة. في ما يلي، يجيب بولتنيكوف عن أسئلة «الأخبار» بخصوص ما يسمّيه بكلّ ثقة «الحرب العالمية الثالثة» التي تدور في أوكرانيا، والتحوّلات المُرافقة في محيط روسيا والمشرق العربي.
كيف تقيّمون العملية العسكرية الجارية في أوكرانيا؟
ــ هو صراع كبير جدّاً. روسيا تُواجه وحدها حلف الناتو الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى دول المحيط الهادئ التي انضمّت إلى المعركة ضدّنا مثل كوريا الجنوبية واليابان وأوستراليا ونيوزيلندا. هناك أكثر من ثلاثين دولة تشترك في الحرب. إن الدعم من تحالف دول شمال الأطلسي لأوكرانيا بدأ منذ مدّة طويلة، لكنه فعّال جدّاً منذ الانقلاب في 2014.

كيف سارت عملية التعبئة الجزئية؟ وهل هناك جهوزية لدى مواطني روسيا الاتحادية للانخراط في الأعمال العسكرية؟
ــ عملية التعبئة الجزئية تمّت بنجاح، وعلى دفعات. منذ 1945، لم تحصل مِثل هذه الأحداث في بلدنا. حصلت بعض المشاكل الطبيعية، ما ساعد على كشف الثغرات واستقاء الدروس من قِبَل القوّات المسلّحة والسلطات المحلّية. هناك إصلاحات يجب القيام بها، لكن الشعب الروسي يدعم القتال في هذه المعركة الوجودية، وخصوصاً بعد المجازر التي ارتكبها النازيون ضدّ المواطنين المدنيين المتعاطفين مع روسيا، كُثُر تطوّعوا في مراكز التجنيد بسبب هذه الممارسات. حتى الآن، عدا عن الـ 300 ألف رجل الذين جرى استدعاؤهم وفقاً لخطّة رئاسة أركان القوات المسلحة، هناك أكثر من 70 ألفاً تطوّعوا للالتحاق بالخدمة.

مَن هي أكثر الدول الغربية انخراطاً في المعركة ضدّ روسيا؟ وكيف تفعل ذلك؟
ــ بتسلسل تنازلي، هناك 34 دولة أجنبية تحارب روسيا بشكل مباشر. الولايات المتحدة وبريطانيا وبولندا في المركز الأول. هناك ضباط وجنرالات حالياً من الولايات المتحدة وبريطانيا وبولندا وكندا وفرنسا، منخرطون في أعمال التخطيط والإدارة المباشرة للعمليات العسكرية للمسلّحين الأوكران والمرتزقة الأجانب، بينما تقوم أجهزة أمنية عسكرية تابعة للأميركيين والبريطانيين والألمان بشكل أساسي، بتقديم الدعم المعلوماتي والدعم الاستخباري للأوكران. طبعاً، هناك وجود لأكثر من شركة عسكرية أجنبية خاصة ومرتزقة سبق أن خدموا في القوّات المسلحة لبلدانهم، وهم موجودون في معظم خطوط التماس مع القوات الروسية. في 7 تشرين الأوّل الفائت، في إقليم زابوروجيا، تمّ رصد مجموعة من المرتزقة من الناطقين بالإنكليزية من حوالي عشرة أشخاص بينهم ضبّاط أميركيون، قتلوا على يد القوّات الروسية، وهناك حالات أخرى غيرها جرى توثيقها. كما أن الناتو يوفّر الأسلحة المعقّدة مع خبراء أجانب لتشغيلها أو لتدريب القوّات الأوكرانية عليها. في الوقت نفسه، كلّ دول الناتو تدّعي أنها لا تريد الانخراط في المواجهة مع روسيا. هم يكذبون. عملياً، نحن في وسط الحرب العالمية الثالثة، وهي حرب مندلعة بالفعل، لكن العالم لم يدرك ذلك بعد.
سياسة الاتحاد الروسي تقوم أساساً على منْع صراع نووي، كما على منْع أيّ صراع مسلّح آخر


ما هي النقطة الفاصلة للوصول إلى استخدام روسيا السلاح النووي؟ وما هي سيناريوات هذا الاستخدام؟ وما الأهداف المحتملة؟
ــ سياسة الاتحاد الروسي تقوم أساساً على منْع صراع نووي، كما على منْع أيّ صراع مسلّح آخر. أمّا الأميركيون وتوابعهم، فهم يسوّقون لاحتمال قيام روسيا باستخدام أسلحة نووية، وقد تخطّت الأكاذيب حدود الدعاية المعادية لروسيا وشيطنتها إلى حدّ الابتزاز الدعائي. لا معنى لاستخدام روسيا أسلحة نووية على أراضيها، بالإضافة إلى أنه لدى روسيا أسلحة تقليدية عالية الدقة وحديثة، تُستخدم بنشاط وعلى نحو فعّال ضدّ الأهداف الحيوية من البنية التحتية لنظام كييف، وخصوصاً بعد العمل الإرهابي على جسر القرم من قِبَل الاستخبارات الأوكرانية في 10 تشرين الأول. ولا يزال في ترسانة روسيا الكثير من هذه الأسلحة التي لم تُستخدم بعد. أمّا بخصوص الاستخدام الفعلي للسلاح النووي، فهذا الأمر محدَّد في العقيدة القتالية الروسية، بأنه يُستخدم فقط في حال الردّ على هجوم نووي ضدّ روسيا، أو في حال استخدام أسلحة دمار شامل أخرى ضدّها و/أو حلفائها، أو حتى في حال استخدام أسلحة تقليدية تهدّد وجودها وأمنها. وقرار الاستخدام هو في يد رئيس الاتحاد الروسي، بينما الأهداف هي من اختصاص قيادة أركان القوات المسلّحة، والأهداف هي من الأسرار الكبيرة.

كيف تقيّمون نتيجة الاستفتاء في الأقاليم؟
- نتائج الاستفتاء تُعبّر عن إرادة الملايين، فالغالبية العظمى من السكّان صوّتوا لمصلحة الانضمام إلى روسيا. لا أحد يستطيع تجاوز إرادة هؤلاء الناس، وهذا حقّهم الوارد في إعلان الأمم المتحدة. أمّا حول ردّ فعل الغرب، فهو متوقّع، لكن لا أحد في روسيا يهتمّ بمواقف الغرب حيال مصير شعبنا. الغرب فقد كلّ صدقيّته قبل وقت طويل في يوغوسلافيا، ولا يمكن الثقة به مجدداً.

ما هو مصير أوكرانيا؟
ــ روسيا ليست مِثل دول أوروبا الاستعمارية: بريطانيا وفرنسا وإسبانيا، وليس لديها تاريخ استعماري. وبالتالي، ليس لديها أطماع في أوكرانيا، إنّما الهدف حماية مواطنينا من التدمير الذي يقوم به النازيون. كيف سيكون مصير بلد وشعب تتحكّم به الولايات المتحدة وبريطانيا عبر نظامٍ دُمية؟ إذا لم يتغيّر الوضع في مرحلة قريبة، فإن أوكرانيا أمام مخاطر الانحلال في مستقبل ليس ببعيد.

ما هي توقّعاتكم لتأثير الحرب في أوكرانيا على المجتمعات والحكومات الأوروبية؟
- من المهمّ أن نميّز بين الناس العاديين وبين صُنّاع القرار الذين يخدمون سيّدهم الأميركي خلف البحار. إن الروسوفوبيا في النهاية ستنقلب بشكل عكسي على مَن يخلقها. أتمنّى من قادة الاتحاد الأوروبي أن يبدلّوا سياسات العداء بسياسات سلمية في المستقبل القريب والبعيد.

هل هناك اتّصالات خلْفية مع الأوروبيين؟
- من جهتنا في المعهد، لم نقطع أبداً علاقاتنا وتعاوننا مع شركائنا من الأوروبيين والأميركيين. هناك الكثير من الأشخاص العقلاء في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، الذين يفهمون جيداً ماذا يجري في العالم ومَن هو مسؤول عن ذلك كلّه. ولكن للأسف، هؤلاء العقلاء ليسوا في السلطة وليسوا صنّاع القرار.

إلى متى يستمرّ الأوروبيون في السياسات المعادية لروسيا؟ هل هناك توقّعات بحصول تحوّل ما؟
ــ سوف يستمرّ الأوروبيون في هذه السياسة حتى يأتي الأمر من الماستر خلف البحار. أوروبا لم تَعُد مستقلة القرار. كيف يمكن تفسير رفْض الغاز الروسي الرخيص، الذي شكّل لسنوات طويلة الأساس في الاقتصاد الأوروبي المزدهر، مقابل الحصول على غاز سائل بأسعار مضاعَفة من الأميركيين؟ لن تستطيع الاقتصادات الأوروبية تحمُّل الأمر لوقت طويل.

لماذا يدعم الأميركيون بولندا بهذا الشكل؟
بولندا مثل أوكرانيا، تستخدم كأداة بِيد الأميركيين ضدّ روسيا. هناك العديد من الأحقاد التاريخية التي يحملها البعض في وارسو ضدّ الروس، تبدأ من طرد الروس للغزاة البولنديين لموسكو عام 1612. الأميركيون والبريطانيون يعملون على تذكية فوبيا روسيا بشكل محترف.

كيف ترون انعكاس الأزمة الأوكرانية على القوقاز؟
- هناك مَن يحاول إشعال النار في القوقاز، ليس فقط من كييف.

نتائج الاستفتاء تُعبّر عن إرادة الملايين الذين صوّتوا لمصلحة الانضمام إلى روسيا


لماذا انفجر الصراع بين طاجيكستان وقرغيزستان؟ هل هناك خطر على كازاخستان؟
- المشكلة الأساسية في طاجيكستان وقرغيزستان تتعلّق بالقضايا الحدودية العالقة، حيث من المستحيل أن تحدَّد تبعية تلك المناطق المتداخلة. طول الحدود بين البلدين 970 كلم، نصفها غير مرسّم أو محدَّد المعالم. هذه القضايا لا يمكن أن تُحلّ بالقوّة، إنّما بالسياسة والدبلوماسية، من المهمّ أن يتمّ التفاوض وخلْق أجواء من الثقة وحسن الجوار بين الشعبَين الشقيقَين. أمّا كازاخستان، فقد مرّت بتجربة خطيرة في كانون الثاني من هذا العام. تدخُّل منظّمة معاهدة الأمن الجماعي هو الذي ساعد كازاخستان على تجاوز الأزمة. لكن من الواضح أن الدروس المستقاة من هذه التجربة ساعدت أستانا على اتّخاذ الإجراءات المناسبة.

ما هو مصير الأزمة في صربيا؟ ولماذا تَجدّد التوتّر في يوغوسلافيا السابقة؟
- هذا العام زرْتُ صربيا والبوسنة والهرسك. يسعى الغرب إلى وضع يده على هذه الدول، وسياستهم الاستعمارية تنبع من عقيدة فرّق تسد. وهذا الأمر شعر به العرب منذ القِدم حين قُسِّم المشرق بين البريطانيين والفرنسيين. في البلقان، هناك الكثير أذعنوا للهيمنة الأنغلوسكسونية، إنما الصرب تحديداً يقدّرون استقلالهم جيداً. الاستفزازات التي يعمل عليها الغرب حالياً هدفها إخماد التمرّد السلافي في البلقان على الهيمنة الغربية.

هل أثّرت الحرب في أوكرانيا على الدور الروسي في المشرق وسوريا؟ وهل انخفض عديد القوّات الروسية فيها؟
ــ لا. روسيا كانت وستبقى محفّزاً موثوقاً على جهود السلام في المشرق. تاريخياً، لم تكن روسيا قوّة احتلال، ولطالما نظرَت إلى الشرق الأوسط كمنطقة قريبة مترابطة، لأن الروس أصلاً مجتمع متعدّد. في سوريا، القوّات الروسية لا تزال في مواقعها العسكرية ذاتها. قوّاتنا لم تخفض عديدها، ووجودها أساسي جدّاً في مواجهة الإرهابيين في إدلب وفي التنف، كما يحول دون تدهور الأوضاع العسكرية في شمال شرق سوريا، في ظلّ التهديدات التركية للأكراد. روسيا تقوم بجهود التهدئة، بينما الأميركيون يقومون بدور معاكس.

ما رأيكم بالهجمات الإسرائيلية على سوريا؟ لماذا لا يتمّ تزويد الجيش السوري بأسلحة قادرة على ردع العدوان، أو لماذا لا تتدخّل منظومات الدفاع الروسية؟
- القانون الدولي يدين أيّ اعتداء على أراضي دولة ذات سيادة، وإسرائيل تبرّر اعتداءاتها بوجود قوات إيرانية في سوريا. في الحقيقة، إسرائيل تستفيد من حالة ضعف سوريا، وإسرائيل أصلاً ساعدت في هذه الحالة من خلال دعمها للمنظّمات المناهضة للحكومة السورية، بما فيها التنظيمات الإرهابية. روسيا دائماً تدين هذه الأعمال، لكنها لا تستطيع الدخول في مواجهة عسكرية مع إسرائيل. بحسب معلوماتي، فإن القوّات الروسية تحذّر دائماً حلفاءنا في القوّات السورية عندما تستشعر خطر ضربات إسرائيلية. الدفاع الجوّي السوري مسلَّح بأسلحة روسية الصنع ومن ضِمنها أنظمة دفاع جوي حديثة. أعتقد أن الوقت لن يكون ببعيد، حتى تستطيع قوّات الدفاع الجوّي السوري تقنياً، وعلى مستوى التدريب، التحوّل إلى عائق فعلي أمام أيّ اعتداء على الأراضي السورية.

كيف تقيّمون الوضع في فلسطين؟ وما رأيكم بالممارسات الإسرائيلية اليومية بحق الفلسطينيين؟
ــ تبْقى المسألة الفلسطينية خطيرة، وحلّها لا يحصل إلّا بتطبيق قرارات الأمم المتحدة، وروسيا تحاول قدْر المستطاع الدفع في هذا الاتجاه دائماً. الوزير سيرغي لافروف أعلن، خلال اجتماع مع السفراء العرب في موسكو، أن المسألة الفلسطينية يجب أن توضع على رأس الاهتمامات والنقاشات لحلّها، لأنه من دون ذلك لا يمكن الوصول إلى الاستقرار في الشرق الأوسط.

كيف تصفون الموقف الإسرائيلي من الحرب في أوكرانيا؟
- الإسرائيليون يتفهّمون الموقف الروسي، سواء في معسكرَي اليمين أو اليسار، وخصوصاً من العسكريين الحاليين والسابقين. إنما يائير لابيد ليس من بين هؤلاء. لكن لا يوجد أيّ مبرّر لصمْت إسرائيل على تمدّد النازيين الجُدد في أوكرانيا. كيف يمكنهم أن يصمتوا، والشوارع والساحات تسمّى باسم أولئك الذين يقولون إنهم شاركوا في أعمال القتْل الجماعي لليهود خلال الحرب العالمية الثانية؟

هل سيشكل غاز المتوسط بديلاً للغاز الروسي؟
- بحسب العديد من الخبراء، فإن الغاز في الحوض الشرقي للبحر المتوسّط ليس بديلاً من الغاز الروسي. أوّلاً، هو يحتاج إلى وقت لكي تحصل عملية الاستخراج الواسع، وثانياً حتى لو حصل ذلك، فإنه سيَستبدل جزءاً قليلاً من الغاز الذي تستورده أوروبا من روسيا.

مدير «مركز المعلومات العلمية والتحليلية» في «معهد الدراسات الشرقية» التابع لـ«أكاديمية العلوم الروسية»