التناقض شبه التناحري بشأن الخيارات السياسية الداخلية لم ينسحب على مواقف الحزبَين المعلَنة حيال أهمّ ملفّات السياسة الخارجية
من المرجّح، أيضاً، ألّا يكون الملفّ النووي الإيراني في الأشهر وربّما السنوات المقبلة، قضية خلافية حادّة بين الحزبَين، بعد تراجُع إدارة بايدن عن إصرارها على التوصّل إلى اتفاق مع طهران حوله، واتّهامها الأخيرة بالمسؤولية عن توقّف المفاوضات المرتبطة به، وتصعيدها الكبير ضدّها بحجّة بيعها مسيّرات لروسيا، وقمعها الاحتجاجات التي تشهدها إيران. وقد اتّضحت في الآونة الأخيرة معطيات كثيرة عن تورّط أميركي مباشر في دعم هذه الاحتجاجات والتحريض على المزيد منها، وكذلك عن مساندة مجموعات انفصالية مسلّحة، بما يندرج جميعه في إطار استراتيجية لزعزعة استقرار إيران، عقاباً لها على سياساتها العامة، وضمن توجّه أطول مدًى يهدف إلى إضعافها وربّما تفتيتها إن كان ذلك ممكناً. في هذا الشأن أيضاً، تستطيع إدارة بايدن الاعتماد على دعم الجمهوريين، الذين سيشجّعونها بكلّ تأكيد على تشدّد أكبر حيالها. أمّا بالنسبة للعلاقات مع السعودية، فإن الصلات الخاصة الوطيدة بين دونالد ترامب ومحمد بن سلمان لن تَحول دون موافقة الجمهوريين على ممارسة قدْر معيّن من الضغط على المملكة لدفعها إلى زيادة إنتاج النفط وتخفيض أسعاره، نظراً لِما لارتفاعها حالياً من تداعيات على التضخّم في الولايات المتحدة، وعلى أسعار الوقود. ربّما سيعرض ترامب وحاشيته خدماتهما للتوسّط مع وليّ العهد السعودي وإقناعه بالعدول عن سياسته في هذا المجال. سيتوافق نوّاب الحزبَين على الأغلب حول ضرورة استمرار معدّلات الإنفاق العسكري الأميركي القائمة، وربّما زيادتها، لاستعادة التفوّق العسكري النوعي في مواجهة المنافِسين الاستراتيجيين في الصين وروسيا.
القضية الدولية الوحيدة التي قد تَبرز حولها تباينات فعلية بين الجمهوريين والديموقراطيين هي حول المدى الذي يجب أن تذهب إليه واشنطن في دعمها لأوكرانيا. أوّل تصريح يوضح مِثل هذا الاحتمال صدر عن كيفين مكارثي، زعيم الأقلّية الجمهورية في مجلس الشيوخ، الذي اعتبر أنه في حال فوز حزبه بغالبية المقاعد في الانتخابات النصفية، فإنه لن يُوقّع «شيكاً على بياض لأوكرانيا» لأن الولايات المتحدة تواجه ركوداً. لم يعارض النواب الجمهوريون ضخّ الإمكانيات العسكرية والمالية لأوكرانيا، والتي بلغت حتى اليوم حوالي الـ60 مليار دولار من الولايات المتحدة وحدها، من أصل 84 ملياراً هي مجمل الدعم الغربي المقدَّم لها إلى الآن. هم يشاطرون زملاءهم الديموقراطيين رغبتهم في إلحاق هزيمة بروسيا واستعادة واشنطن هيبتها كقوّة أولى على صعيد عالمي، لكن ضغوط الواقع المحلّي، وما سيترتّب على إطالة أمد الحرب من أثمان اقتصادية واجتماعية داخلية في الولايات المتحدة، هي عوامل تَحملهم على مقاربات أكثر واقعية من شريحة معتبَرة من الديموقراطيين. فهم يمثّلون في غالبيتهم الولايات التي عانت أصلاً من مفاعيل سياسات العولمة، والأكثر تضرّراً اليوم من التضخّم والركود، الناتجَين من الحرب في أوكرانيا وتداعياتها على الاقتصاد العالمي. تتقاطع مواقف بعض هؤلاء النواب مع موقف الجناح التقدّمي في الحزب الديموقراطي، الذي وجّه 30 من نوابه رسالة إلى بايدن يطالبونه فيها بالبحث عن حلّ تفاوضي مع روسيا تجنّباً لمواجهة مباشرة معها، وللحدّ من التبعات الاقتصادية والاجتماعية للحرب الأوكرانية على الداخل الأميركي. في حال فوز الجمهوريين، قد نشهد تقاطعات من هذا النوع، بخاصة مع ما تكشفه التطورات الميدانية في أوكرانيا من اتّجاه لإطالة أمد الحرب، وما يترتّب على ذلك بالضرورة من ارتفاع أكلافها المباشرة وغير المباشرة على صعيد دولي. ستجد إدارة بايدن نفسها في مِثل هذه الظروف أمام كتلة وازنة معارضة لمشروع حرب إضعاف روسيا الذي تتبنّاه، بما سيجبرها ربّما على مراجعة خياراتها والتفكير بحلّ تفاوضي مع موسكو.