لباراك أوباما فضل كبير على الحزب الديموقراطي. أنهى انتصاره في ولاية فيرجينيا، أربعة عقود كاملة من الهيمنة الجمهورية على الولاية، عندما قَلَب تأخّر سلفه، جون كيري، بهامش 8.2% في انتخابات 2004، إلى تقدُّم بنسبة 6.3% في انتخابات 2008، أي حوالى نصف مليون ناخب ديموقراطي جديد في ظرف أربع سنوات فقط. منذ ذلك الوقت، تلوّنت الولاية باللون الأزرق، بما في ذلك فوز جو بايدن بهامش أكثر من 10 درجات مئويّة في الانتخابات الأخيرة. ويتمظهر إنجاز الرئيس السابق، بشكل أكبر، في انتصاره الأكثر عمقاً في شمال كارولينا، وإنْ كان بهامش 0.32% (24 ألف صوت فقط)، بعدما صوّتت الأخيرة لولايتَيْ جورج بوش الابن بهامش يزيد على 12 درجة مئوية. كانت هذه المرّة الوحيدة، حتَّى يومنا هذا، التي تصوّت فيها الولاية لمرشّح ديموقراطي منذ انتخابات 1976، عندما رشّح الحزب حاكم ولاية جورجيا المجاورة، جيمي كارتر، للانتخابات الرئاسية. بيدَ أن هذه الانتصارات، عند تمثيلها على الخريطة، تبدو أشبه بـ«تغلغل عسكري»، رُسم مبكراً على طول الساحل الشرقي للولايات المتحدة. زحْفٌ ديموقراطي من الشمال نحو موطن الجمهوريين في الجنوب، على غرار سيْر معارك الحرب الأهليّة. لم يكن لمثل هذا التمثيل أن يؤخذ على محمل الجدّ، قبل فوز بايدن بولاية جورجيا المعروفة بميولها الجمهورية في الانتخابات الأخيرة، وتمترُس دونالد ترامب في فلوريدا؛ لكنه اليوم، مع توقّع 54% من الجمهوريين المتشددّين اندلاع حرب أهلية جديدة، يبدو أشبه بخطّ إمداد نحو مَعقل الأخير في ثالث أكبر ولاية أميركية (30 صوتاً في المجمع الانتخابي)، وتطويق ما تبقّى من الجنوب وعزله عن الولايات الجمهورية الكبرى.
إذا كان الفضل في الاستيلاء على فيرجينيا وزعزعة الهيمنة الجمهورية في شمال كارولينا يعود بشكل خاص إلى أوباما، لا سيما وأنهما من أكثر الولايات التي يتواجد فيها السود (19% و21% على التوالي)، فإن ما حدث في جورجيا (31.5%) يعود إلى نشاط ستايسي أبرامز في مجال حقوق التصويت. بفضل تسجيل 800 ألف ناخب جديد، خلال أربع سنوات فقط، حقَّقت الأخيرة نتيجة في انتخابات حاكم الولاية لعام 2018، عجِز عن تحقيقها جميع المرشّحين الديموقراطيين في الألفية الجديدة، بمن فيهم جاسون كارتر، حفيد الرئيس السابق. عندما خسرت السباق بهامش 1.4% (55 ألف صوت فقط)، أثبتت أن «الثورة الزرقاء» في الجنوب لا تحتاج إلى رجال بيض، وإنما إلى امرأة سوداء. وهي تنافس الآن مجدّداً على المنصب الذي يُسيطر عليه الجمهوريون منذ عشرين عاماً.
بحلول عام 2021، مباشرةً بعد فوز بايدن بالانتخابات الرئاسية، فاز أيضاً مرشّحان ديموقراطيان بمقعدَي مجلس الشيوخ عن ولاية جورجيا، ممّا كسر غالبية الجمهوريين في مجلس الشيوخ، وزاد عدد مقاعد الديموقراطيين إلى 48 (مع وجود المستقلَيْن بيرني ساندرز وأغنوس كينغ، ونائبة الرئيس كامالا هاريس). رفائيل وارنوك، الذي أصبح أوَّل سناتور أسود يُمثّل الولاية بعد فوزه بالانتخابات الخاصة، يشغَل واحداً من ثلاثة مقاعد ديموقراطية مُهدَّدة، إلى جانب نيفادا ونيو هامبشر. قد تكون خسارة ستايسي مرّة أخرى بهامش ضيق مقبولة، إلّا أن الأمر يختلف عندما يتعلّق بمجلس الشيوخ، لا سيما وأن الديموقراطيين قد يفقدون غالبيتهم في مجلس النواب خلال الانتخابات الحالية.
صحيح. لم يمرّ هذا «التغلغل الديموقراطي» في ولايتَي غرب فيرجينيا (4 أصوات في المجمع الانتخابي) وجنوب كارولينا (9) لسبب وجيه، هو أن ولايات فيرجينيا (13) وشمال كارولينا (16) وجورجيا (16)، تمتلك أصواتاً أكبر في المجمع الانتخابي. ولا يبدو من السهل اختراق فلوريدا في انتخابات التجديد النصفي، سواءُ عن طريق فال ديمينغز ضدّ شاغل مقعد مجلس الشيوخ الجمهوري ماركو روبيو، أو بواسطة الحاكم السابق للولاية (جمهوري سابق) تشارلي كريست ضدّ حاكم الولاية الجمهوري رون دي سانتيس؛ لكنه تمهيد مهمّ لاستمالة ثاني أكبر ولاية جمهورية، أو زعزعتها على الأقلّ.
أدرك بايدن، الجنوبي الأبيض، ضرورة اختيار امرأة سوداء في منصب نائب الرئيس


حلقة الوصل بين النصر الديموقراطي، المُحقَّق فعلاً في فيرجينيا، والمُنتظَر في جورجيا، هي ولاية شمال كاورلينا. بعد انتخابات 2008، عادت الولاية إلى التصويت لمصلحة المرشّحين الجمهوريين، لكن بهوامش ضيقة، مقارنةً بوضعها كولاية جمهورية صلبة قبل ذلك الوقت. في الأثناء، يُطرح اسم حاكم الولاية روي كوبر، كمرشّح مُحتمل لمنصب نائب الرئيس، في حال ترشُّح هاريس للانتخابات الرئاسية المقبلة بدلاً من الرئيس بايدن. بطاقة هاريس - كوبر، هي أفضل صيغة للديموقراطيين، من ناحية التنوَّع (امرأة سوداء ليبرالية من الغرب مع رجل أبيض مُعتدل من الجنوب)، بما يسمح لهم باستقطاب الجمهوريين المُعتدلين بموازاة الديموقراطيين الأكثر تقدّمية بالمعيار الأميركي، ناهيك عن تحفيز هاريس المزيد من السود والنساء من الناخبين.
من الجهة الأخرى، أيْ غرب المنطقة الجنوبية، تشهد تكساس عملية مشابهة. تراجَع التصويت الجمهوري منذ صعود ترامب، في ثاني أكبر ولاية أميركية، بموازاة صعود التصويت الديموقراطي. كاد السيناتور تيد كروز أن يفقد منصبه، في انتخابات 2018، لمصلحة الديموقراطي بيتو أوراك. كانت هذه المرّة الأولى منذ ثلاثة عقود التي يفوز فيها مرشّح جمهوري بعضوية مجلس الشيوخ بهامش ضيّق جدّاً. دفَع كلّ هذا، الأخير إلى الترشّح لانتخابات حاكم الولاية؛ في حال خسارته بهامش ضيّق سيُعزِّز فكرة تأرجح أكبر ولاية جمهورية (40 صوتاً في المجمع الانتخابي). تكساس، حلم ديموقراطي كبير، إذا تحقَّق يوماً ما، سيُنهي إمكانية رؤية رئيس جمهوري آخر في البيت الأبيض لفترة من الوقت.
لا تطمح هذه التغلغلات، شرقاً وغرباً، إلى التوسّع أكثر، إنما تهدف فقط إلى عزل ولايات المركز الجنوبي، كنتاكي وتينيسي وألاباما وميسيسبي وأركنساس ولويزيانا وأوكلاهوما، التي تمتلك معاً 55 صوتاً في المجمع الانتخابي، عن الولايات الأكثر ثقلاً في الجنوب. حتّى باحتساب غرب فيرجينيا وجنوب كارولينا سيكون هناك 68 صوتاً، لا قيمة لها، في حال سقوط تكساس مع شمال كارولينا وجورجيا، التي تُشكّل معاً 72 صوتاً، في أيدي الديموقراطيين. بعبارة أخرى، تمتلك الولايات الثلاث الأخيرة وزناً أكبر من التسعة الأخريات، التي تُمثّل المعقل الرئيس للمتطرّفين البيض الموالين لترامب.
منذ اغتيال جون كينيدي، فاز الديموقراطيون بالرئاسة فقط بفضل مرشّحين من الجنوب، ليندون جونسون وجيمي كارتر وبيل كلينتون – فقط أل غور خسر في انتخابات شابها الكثير من الشكوك. ولا يمكن النظر إلى أوباما باعتباره استثناءً (أوّل ديموقراطي من خارج الجنوب يفوز بالرئاسة منذ منتصف القرن الماضي)، لأن لون بشرته لعب دوراً كبيراً في استقطاب الناخبين السود (12.4% من إجمالي الناخبين، مقارنةً بـ9.7% في انتخابات 2004)، يقع معظمهم في الجنوب، حيث لعبوا دوراً مهماً في ولايتي فيرجينيا وشمال كارولينا.
أدرك بايدن، الجنوبي الأبيض، ضرورة اختيار امرأة سوداء في منصب نائب الرئيس. وهكذا، تمكّن من تكرار إنجاز أوباما في الجنوب. لكن مع تدهور صحّته وبلوغه 82 سنة بحلول الانتخابات المقبلة، سيتعذّر عليه تكرار الأمر نفسه. لهذا، يُطرح اسم كوبر لمنصب نائب الرئيس مع هاريس كمرشّحة رئاسية هذه المرة. لا مناص من وجود مُرشّح ملوّن وامرأة (أو كلاهما معاً) على بطاقة الحزب الديموقراطي في المستقبل القريب. هذه التوليفة الوحيدة - وإن كانت محكومة باعتبارات ليبرالية - لمواجهة «الرجل الأبيض» في الحزب المقابل، ترامب أو دي سانتيس أو أيّ شخص آخر. والحال، إمّا أن ينتصر التحالف العريض من مُعتدلي الحزبَين و«التقدميين» الديمقراطيين، أو يصعد اليمين المتطرّف من جديد. هناك 226 صوتاً مضموناً للديموقراطيين في المجمع الانتخابي، ستصبح في حال تأكيد سيطرتهم على شمال كارولينا وجورجيا، 254 صوتاً، ولن يحتاجوا حينها إلَّا للفوز بـ16 صوتاً من بين خمس ولايات متأرجحة: بنسلفانيا (19)، ميشيغان (15)، أريزونا (11)، ويسكونسين (10)، نيفادا (6). جميعها، باستثناء أريزونا، ولايات ديموقراطية صوَّتت لترامب في انتخابات 2016، قبل أن تتراجع في الانتخابات الأخيرة.
لكن كلّ هذه الأحلام تكاد تتبخّر اليوم، لأن استطلاعات الرأي الأخيرة تُشير إلى أن مُرشّحي ترامب لمجلس الشيوخ، بدلاً من الاكتفاء بالاحتفاظ بمقاعدهم في شمال كارولينا وأوهايو وإنديانا، يمكن أيضاً أن ينتصروا في بعض الولايات الديموقراطية والمتأرجحة، مثل نيو هامبشار وويسكونسين ونيفادا وبنسلفانيا وجورجيا (حيث يدعم ترامب في الولايات الثلاث الأخيرة مُرشحاً لاتينياً وآخر مسلماً وثالث أسود على التوالي)، وهذا إن حدث سيصبح ليس «ثورة جمهورية» فحسب، على غرار ما حصل عام 1994، وإنما أكثر من ذلك: ثورة ترامبيَّة!