ليست مهمّة بنيامين نتنياهو في تشكيل الحكومة الإسرائيلية العتيدة محكومة بالفشل، لكنّها ستكون شاقّة وطويلة في ظلّ انفتاح شهيّة حلفائه من اليمين المتطرّف للتحكّم بالوزارات والمواقع الوازنة. وإذ بدأ نتنياهو، بالفعل، العمل على كبْح هذه الشهيّة، من خلال التلويح بحكومة «وحدة وطنية» مع أحزاب المعسكر المضادّ، فإن هذه الحكومة تبدو صعبة التشكّل بالنظر إلى التجربة المريرة التي عانتها الأحزاب المُشار إليها مع زعيم «الليكود» سابقاً، لكن احتمال قيام هكذا ائتلاف يظلّ قائماً، فيما الاحتمال المقابل هو ترويض الشركاء «اليمينيين»، ومحاولة تقليص دائرة الصلاحيات والامتيازات الممنوحة لهم
بدأ رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، رئيس حزب «الليكود»، بنيامين نتنياهو، مفاوضاته الائتلافية مع الكتل والأحزاب اليمينية و«الحريدية» في «الكنيست»، تمهيداً لتشكيل الحكومة المقبلة. وهي مفاوضات يُتوقّع أن تكون شائكة وصعبة، وإنْ حظي المعسكر اليميني بأغلبية 64 عضواً؛ ذلك أن مطالب أحزابه مبالَغ فيها ومتضاربة، ومنها ما يُعدّ تعجيزياً، وإذا لبّاها نتنياهو، فسيتسبّب لنفسه ولحزبه بأزمة سيطرة على المؤسّسة السياسية، إذ لن تبْقى لديه وزارات وازنة، خاصة في ظلّ مطالب بتوسيع صلاحيات الوزارات التي ستكون من نصيب الحلفاء. وعلى هذه الخلفية، غيّر نتنياهو نبرة حديثه ومضمونه، عمّا كان عليه خلال الحملة الانتخابية، متحدّثاً عن تَوجّه إلى تشكيل حكومة «وحدة وطنية»، بعد أن كان يؤكد أنه معنيّ بتشكيل حكومة يمينية صرفة، الأمر الذي قد يُقرأ على أنه محاولة لمدّ اليد إلى المنافِسين، وطلب تعاونهم على حساب الأحزاب اليمينية. والظاهر أن نتنياهو يريد تحقيق مطلبَين اثنين: أوّلهما، تشكيل حكومة وحدة من «الليكود» وأحزاب الوسط، مع تطعيمها بما أمكن من أحزاب اليمين، وهو الخيار المحبَّذ بالنسبة إليه، كونه يضمّ المنافِسين بلا مطالب مبالَغ فيها، وفي الوقت نفسه يخفّف من مغالاة الشركاء اليمينيين؛ وثانيهما، إرجاع أحزاب اليمين واليمين المتطرّف والأحزاب الدينية «الحريدية» إلى «التعقّل».
على أن الفارق بين الوضع الحالي والوضع الذي أعقب الانتخابات ما قبل الأخيرة، هو أن دعوة نتنياهو اليوم إلى تشكيل حكومة مع مُنافِسيه، أي من أحزاب رئيس الحكومة المنتهية ولايته يائير لابيد، ووزير الأمن بني غانتس، والوزير غدعون ساعر وغيرهم، لا تأتي على خلفيّة حاجته إلى أصواتهم كما كان عليه الأمر في الماضي - وفي ذلك تَغيّر كبير وحاسم -، بقدْر ما هي محاولة للجم الشركاء «اليمينيين» بعدما وصلت مطالبهم إلى مستويات غير مقبولة. على أن لابيد لم يسهّل على نتنياهو تحقيق هدفه، إذ سارع إلى إعلان رفضه الائتلاف في حكومة يترأّسها الأخير، مع التشديد في المقابل على «خطورة المرحلة والتهديدات» التي تكتنفها؛ فـ«البلد منقسم من جديد، وغاضب من جديد، ومهدَّد بالانقسام إلى "نحن وهم" مرّة أخرى، وعلينا أن نُقرّر إلى أين تتّجه الأمور، إذ إننا قريبون من نقطة اللاعودة». أمّا غانتس وساعر فلم يدليا بموقفهما، إلّا أن الأرجح أنهما غير معنيَّين بها؛ فالأول جرّب في السابق الائتلاف مع رئيس «الليكود»، وكانت النتيجة النكث بالوعود؛ والثاني يتقدّم مُنافسي نتنياهو منذ أن كان في «الليكود»، وهو السبب الرئيس الذي دفعه إلى الانشقاق عن حزبه، وبالتالي يَصعب أن يجلس إلى جانب غريمه.
يواجه نتنياهو شهيّة حزبه لقمع مطالب الشركاء، باعتبارها ستحرم «الليكود» من تولّي وزارات وازنة


مع ذلك، لا يُعدّ خيار ضمّ أحد أحزاب الوسط، مستبعداً بالكامل، وإنْ كان الثمن الذي سيتلقّاه هذا الحزب الوسطي أو ذاك مرتفعاً، إلّا أنه سيبقى في كلّ الأحوال دون ما تطلبه أحزاب اليمين المتطرّف. لكن ما هي الكتلة الوسطية، التي يبلغ عدد مقاعدها في «الكنيست» 14، ويمكن أن تعوّض نتنياهو أصوات «الصهيونية الدينية»؟ وما الذي سيكون عليه موقف الأحزاب اليمينية و«الحريدية» في هذه الحالة؟ ثمّة الآن تململ وانزعاج داخل معسكر نتنياهو من مواقف الأخير، خصوصاً بعد إعلانه رغبته في تشكيل «حكومة وحدة»، إذ أعلن رئيس حزب «الصهيونية الدينية»، بتسلئيل سموتريتش، ورئيس حزب «القوة اليهودية»، إيتمار بن غفير، في بيان مشترك، أنه «إذا أخطأ نتنياهو وأراد تشكيل حكومة مع غانتس ولابيد، فسننتظر سنة كاملة حتى ينهار ائتلافهم على نفسه، وسوف نعود بعد الانتخابات المقبلة مع ثلاثين عضو كنيست».
ويطالب سموتريتش بوزارتَي الأمن والمالية وبحقائب أخرى ومواقع حسّاسة في لجان «الكنيست»، فيما يتطلّع بن غفير إلى تسلُّم وزارة الأمن الداخلي، المسؤولة عن الشرطة، وتوسيع صلاحياتها إلى حدّ بعيد، بما لا يترك هامش مناورة لدى الأجهزة الأمنية التابعة لها، مع إمكان تغيير قواعد الاشتباك حيال الفلسطينيين وقواعد إطلاق النار عليهم، والتي يريدها بن غفير مطلقة. كذلك، يريد بن غفير شغْل عدد آخر من الوزارات، وتسلُّم مسؤوليات في لجان وازنة في «الكنيست»، فيما يشدّد كلا الحزبَين على ضرورة إجراء تغييرات في نظام الحكم والقوانين التي تؤكّد «يهودية الدولة»، وهو توصيف ملطَّف لقوانين عنصرية وفاشية يريدان سنّها. من جهتها، تسعى الأحزاب «الحريدية» إلى إعادة «اعتبار مالي» كانت قد حُرمت منه جرّاء ابتعادها عن الائتلاف الحكومي في العامَين الماضيَين، وتحديداً في ما يتعلّق بالمعونات الاقتصادية والمالية المخصّصة للمؤسّسات التعليمية التابعة لها. كما تشترط أن تكون هذه المعونات غير مشروطة باتّباع المنهج التعليمي الرسمي أو أجزاء منه مِن مِثل تعليم الإنكليزية والرياضيات، وأن يلغي الائتلاف المقبل القوانين الإصلاحية والتغييرية التي أُقرّت في زمن حكومة لابيد - غانتس، ومن بينها ما سلبها امتيازات كانت حكراً لها، في حين تطالب بمزيد من الامتيازات التي تُحصّن ما لديها تقليدياً. أمّا المطلب الرئيس بالنسبة إلى «الحريديم»، فهو إيجاد حلّ لقرار المحكمة العليا، التي تجبر الحكومة على تجنيدهم في الجيش خلال ثلاثة أشهر، بعد أن ألغت التدابير السابقة التي تُعفيهم، وإنْ نسبياً، من عمليات التجنيد.
في المقابل، يواجه نتنياهو شهيّة حزبه لقمع مطالب الشركاء، باعتبارها ستحرم «الليكود» من تولّي وزارات وازنة، علماً أن الأخير يطالب، إلى جانب رئاسة «الكنيست»، ونيابة رئيس الوزراء، ووزارات الأمن والمالية والخارجية، بحقائب أخرى وازنة نسبياً مِن مِثل العدل والرفاه وغيرهما، الأمر الذي يعني أن نتنياهو سيواجه أيضاً «وجع راس» حتى داخل بيته السياسي. وعلى المستوى الخارجي، تَمثل أمام الرئيس المنتظَر تكليفه تحدّيات متّصلة تحديداً بالعلاقة مع الراعي الأميركي، وبدرجة أقلّ مع الدول الغربية عموماً؛ إذ إن تولّي متطرّفين مِن مِثل ورثة الحاخام مائير كاهانا، وزارات وازنة، من شأنه التأثير سلباً على العلاقات، والتشويش عليها، وصولاً إلى إمكانية حدوث مقاطعة غربية لهذه الوزارات.
لا يعني ما تَقدّم أن مهمّة نتنياهو محكومة بالفشل، لكنّها ستكون شاقة وطويلة، وسيحاول خلالها الرجل جاهداً التقليل من مكاسب شركائه، وتعزيز مكاسبه هو، بما يُبقي له الأمر والنهي بنسبة كبيرة. ولعلّ هذا المطلب الأخير تحديداً هو ما يريد اليمينيون المتطرّفون الوصول إليه في المقابل، من خلال انتزاع مزيد من الوزارات والصلاحيات، ومن ثمّ ترجمة تطرّفهم أفعالاً وقوانين وتدابير، ليتمكّنوا لاحقاً من تعزيز حضورهم في الحلبة السياسية، وفي مرحلة تالية تولّي رئاسة الحكومة. فهل يشكّل نتنياهو حكومة يمينية يعطي قرارها لمُنافسيه؟ أو ينجح في إخضاعهم عبر مناوراته المعتادة؟ أو يتمكّن من فرْض «حكومة وحدة» لا يمكن استبعادها بالمطلق؟