رام الله | في الوقت الذي يستعدّ فيه بنيامين نتنياهو لتشكيل حكومة برئاسته بالتحالف مع «الصهيونية الدينية»، يكافح الفلسطينيون لإبقاء جذوة المقاومة مشتعلةً في الميدان، بما أتيح لهم من أدوات ووسائل، في ظلّ التفاف متعاظم حول هذا الخيار، الذي يبدو أنه لن يكون أمام أهالي الأراضي المحتلّة سواه في المرحلة المقبلة، خصوصاً في ظل تحوُّل المستوطِنين إلى ما يشبه دولة مستقلّة في الضفة الغربية. على أن الظاهر، بحسب جميع المعطيات، أن حالة الاشتباك المتوسّعة أفقياً وعمودياً، لن تبقى مقتصرة على الضفة، بل تبدو مهيّئة للانتقال إلى قطاع غزة والقدس والداخل المحتلّ، لأسباب عديدة أهمّها إصرار الفلسطينيين على ترسيخ مبدأ وحدة الساحات، وعدم السماح للاحتلال بالتفرّد بأيّ منها، وتبديد ما حقّقته معركتا «سيف القدس» عام 2021، و«وحدة الساحات» عام 2022، على ذلك الصعيد. ولعلّ أولى بوادر التَوجّه المذكور، تجلّت مساء الخميس، حيث لم تمضِ ساعات على جريمة اغتيال القيادي في «سرايا القدس - كتيبة جنين»، فاروق سلامة، في جنين، حتى جاء الردّ في مدينة الخليل بعملية قنْص مستوطِنة في مستوطَنة «كريات أربع» أدّت إلى إصابتها بجروح بالغة الخطورة، وتسبّبت بإرباك المنظومة الأمنية التي رجّحت بعد تقديرات وتقييمات مطوَّلة أنها ناجمة عن رصاصة فلسطينية أتت من بُعد. وفي حين دخل قطاع غزة على خطّ المواجهة لأوّل مرّة منذ 4 شهور، بإطلاق رشقات صاروخية تجاه مستوطنات «الغلاف» - على رغم التقدير بأنها جاءت من خارج الإجماع الفصائلي -، سُجّلت عشرات نقاط الاشتباك وعمليات رشق الحجارة والزجاجات الحارقة، التي أفضت إلى إصابة عدد من المستوطنين، لتنتهي الحصيلة إلى تسجيل 32 عملاً مقاوماً في الضفة خلال 24 ساعة فقط. وعلى مدى الأشهر الماضية، استطاع العمل المقاوم في الضفة أن يسجّل تراكماً كميّاً ونوعياً، وهو ما تُظهره إحصائيات «مركز معلومات فلسطين»، الذي وثّق 1999 عملية في شهر تشرين الأوّل - أي ضِعف ما تمّ رصده خلال شهر أيلول -، تنوّعت ما بين إطلاق نار ودهس وطعن وزرع عبوات ناسفة وإلقاء مفرقعات نارية وزجاجات حارقة، وأسفرت في مجموعها عن مقتل جنديَين ومستوطِن، وجرح 81 آخرين. ومن بين تلك العمليات، سُجّلت 144 حادثة إطلاق نار، 65 منها في نابلس و40 في جنين، ما يدلّل على فعل منظّم تَصدّرته مجموعة «عرين الأسود»، التي امتلكت زمام المبادرة وأربكت قوات الاحتلال، وكشفت عن فجوات في منظومته الأمنية، وكذلك «كتيبة جنين». على أن العمليات الفردية لا تزال هي «كلمة السرّ» في حالة المقاومة في الضفة، في ظلّ عجز العدو عن وقْف سُبحتها، علماً أن من بين أبرزها أخيراً عمليّتا الشهيد عدي التميمي على حاجز شعفاط وعند مدخل مستوطنة «معاليه أدوميم»، واللتان أدّتا إلى مقتل مجنّدة وإصابة آخرين بجروح مختلفة، وبعدهما عملية الشهيد محمد الجعبري عند مستوطنة «كريات أربع» حيث قُتل مستوطِن وأصيب آخرون، فضلاً عن حوادث دهس في أريحا وعند حاجز بيت دقو. ولعلّ اللافت في هذه العمليات، هو أنها فضحت قصوراً في أداء جنود العدو، وهو ما دفع رئيس أركان جيش الاحتلال، أفيف كوخافي، إلى فصْل ضابط و3 جنود، كانوا تجنّبوا الدخول في اشتباك مع الشهيد التميمي خلال هجوم شعفاط، وتوجيه إنذار إلى ضابطَين آخرَين أحدهما قائد السرية التي تخدم على الحاجز، الذي قرّر الجيش إخلاء وحدات من «حرس الحدود» منه على ضوء العملية، وتحويله إلى معبر مدني.
قرّر جيش العدو تزويد تشكيلاته في الضفة بالمزيد من الوسائل القتالية والجيبات المصفَّحة الحديثة


وفي ظلّ تصاعد حالة المقاومة في الأراضي المحتلّة، قرّر جيش العدو تزويد تشكيلاته هناك بالمزيد من الوسائل القتالية والجيبات المصفَّحة الحديثة، عبر صفقة بمئات ملايين الشواكل، تشمل نحو 2500 سترة واقية ضدّ الرصاص، و50 مركبة جديدة مضادّة للرصاص والحجارة، في مسعى منه لتعزيز الحماية للقوات المشاركة في عملية «كاسر الأمواج» التي يشنّها في الضفة منذ الربيع الماضي. وبحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت»، فإن كمّية الوسائل المذكورة تُعدّ الأكبر التي يعتزم الجيش التزوّد بها خلال العقد الأخير. في هذا الوقت، تتواصل التكهّنات بخصوص ما يمكن أن يُحدثه تولّي زعيم حزب «عظَمة يهودية»، إيتمار بن غفير، وزارة الأمن الداخلي، على الأوضاع الميدانية. إذ رأى المحلّل العسكري في صحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، أن زيارة لبن غفير إلى المسجد الأقصى تحت حماية كثيفة من عناصر الشرطة، مثلاً، ستؤدّي إلى مواجهات في القدس القديمة، فيما لن تستطيع حركة «حماس» أن تبْقى صامتة على ذلك، محذّراً من أن «الضفة الغربية قابلة جدّاً للاشتعال، إلى درجة أن عود ثقاب آخر سيؤدّي إلى اشتعالها، وفي هذا التوقيت يختار نتنياهو إدخال مُشعلي النيران المركزيين (من الصهيونية الدينية) إلى الحلبة».
إزاء ذلك، لا يبدو أنه سيكون أمام الفلسطينيين، في المرحلة المقبلة، سوى المقاومة، وهو الخيار الذي لم يكن، في واقع الأمر، بمتناول أيديهم سواه في أيّ يوم من الأيام؛ إذ لا يختلف اليمين المتطرّف واليسار والوسط وبقيّة ألوان الطيف السياسي الإسرائيلي، على تعدّد التسميات والتصنيفات، على الأهداف العريضة المتمثّلة في تكريس الاحتلال وتقويته، وحرمان الشعب الفلسطيني حقوقه، فيما الاختلافات تكاد لا تتجاوز القشور. وفي هذا الإطار، يرى مدير «مركز يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية»، سليمان بشارات، أن «المشهد الفلسطيني يتكامل في كلّ ساحاته، خاصة مع تدحرج الوضع الميداني الأمني في الضفة الغربية منذ أشهر»، معتبراً، في حديث إلى «الأخبار»، أن «نتائج الانتخابات الإسرائيلية هي انعكاس طبيعي لحالة اليمينية المتطرّفة في إسرائيل، وهذا الأمر يعزّز إمكانية الذهاب إلى تصعيد ميداني، استجابةً لأمرَين مرتبطَين بطبيعة الأحداث التي تجري على الأرض، وطبيعة السياسات الإسرائيلية القادمة»، والتي «ستتحكّم بها الأحزاب اليمينية وقادة المستوطنين».
ويشير بشارات إلى أن «الجانب الرسمي الفلسطيني لا يملك أيّ خيارات، كونه يفتقر إلى حاضنة سياسية إقليمية أو دولية، كما أن القيادة الفلسطينية منشغلة ومنكفئة على ذاتها، وتعاني من عدم استقرار في ظلّ البحث عن بديل وخليفة لأبو مازن، حيث باتت هذه القضية تؤرّق المؤسّسة الرسمية، على حساب البُعد الوطني أو العلاقة السياسية مع الاحتلال». وفي المقابل، يُعرب الباحث عن اعتقاده بأن «الشارع الفلسطيني بدأ يعود، على ضوء الأحداث الأخيرة في الضفة، إلى الحشد الوطني والشعبي والثوري، الذي يذكّرنا بالانتفاضتَين السابقتَين، على رغم الغياب الواضح للفصائل الفلسطينية عن العمل، لكن ذلك قد لا يطول، إذ إن الفعل الشعبي قد يشكّل ضغطاً على الفصائل لتعزيز عملها، ومثال ذلك ما جرى خلال الأيام الماضية من عمليات إطلاق نار ودهس وطعن، تُظهر استلام الشعب لزمام المواجهة مع الاحتلال، وشعوره بالنشوة بعد سنوات من الإحباط، وانبعاث الهوية والروح الوطنية من خلال نماذج جنين ونابلس والخليل وشعفاط». ويَحتمل بشارات أن يكون إطلاق القذائف الصاروخية، مساء الخميس، من قطاع غزة نحو مستوطنات «الغلاف»، «مثالاً عملياً حول قدرة الفعل الشعبي على الضغط على الفصائل وسحبها إلى مربّع المواجهة، وهذا قد يعيدنا إلى ما جرى من أحداث في سيف القدس»، مستنتِجاً أنه «إذا ما استمرّ الاحتلال الإسرائيلي، في المرحلة المقبلة، في تصعيد عمليات الاغتيال كما جرى في جنين ونابلس، فإن ذلك سيؤدّي إلى ردّات فعل وتحريك الفعل الثوري، كما يمكن أن يُدخل شرائح مجتمعية جديدة بشكل تلقائي إلى دائرة المواجهة، ويَدفع نحو تصعيد ميداني بصورة أكبر ممّا يجري حالياً».