تتوالى الأزمة السياسية في باكستان فصولاً؛ فبعد أشهر من الضغط الشعبي الذي مارسه رئيس الوزراء المعزول، عمران خان، على حكومة شهباز شريف، والتحذيرات المتتالية من تصاعُد هذا الضغط المتنقّل بين المحافظات وصولاً إلى العاصمة إسلام آباد، دخلت البلاد كلّها منعطفاً خطيراً جديداً، تَمثّل في محاولة فاشلة لاغتيال خان في مدينة وزير آباد في إقليم البنجاب. وإذ قابَل لاعب «الكريكت» السابق تلك المحاولة بإصراره عل مواصلة تحدّي الحكومة، تَجِد الأخيرة نفسها - بمكوّناتها المتنافرة - أمام وضع حرج سيساهم حتماً في رفْع شعبيّة خصمها، الذي ما برح يُراكم النقاط ضدّها، متّهماً إيّاها بتنفيذ «مؤامرة» ضدّه بالاشتراك مع الولايات المتحدة والجيش، الذي عاد، بدوره، إلى واجهة المشهد السياسي من بوّابة الأزمة المستفحلة
نجا زعيم حزب «الإنصاف»، عمران خان، الخميس، من محاولة اغتيال في مدينة وزير آباد شرقي باكستان، لكنه سرعان ما تَلقّف الحادث وحوّله إلى فرصة ثمينة لكسب المزيد من التعاطف الشعبي معه، في المواجهة المفتوحة بينه وبين حكومة شهباز شريف وحزبه «الرابطة الإسلامية» ومَن معه من أحزاب جمعتْها «مصيبة واحدة». وعلى الفور، نزل أنصار خان إلى شوارع العاصمة إسلام آباد، حتى قبل الموعد المحدَّد لوصول «الزحف الشعبي الكبير» نحوها في 4 تشرين الثاني (أمس)، والذي كان قد تأجّل سابقاً لمزيد من التحضيرات، فيما اتّهم «الإنصاف» رئيس الوزراء ووزير الداخلية و«ضابطاً عسكرياً كبيراً» لم يَذكر اسمه، بالمسؤولية عن محاولة قتْل زعيمه. وكانت المواجهة ازدادت سخونةً مع دخول الجيش الباكستاني، للمرّة الأولى علناً، على خطّ الصراع السياسي، بعد صمت طويل على انتقادت لاذعة كان يُوجّهها رئيس الوزراء السابق إلى المؤسّسة العسكرية، ما يشي بأن فصولاً «مشوّقة» لا تزال تنتظر الشارع الباكستاني المثقَل بالأعباء الاقتصادية التي زادت الفيضانات الأخيرة من وطأتها.
وأتت محاولة اغتيال خان في وقت كان الرجُل فيه يصعّد عمليات التحشيد الشعبي لصالحه، على شكل تجمّعات ضخمة مبرمَجة مسبقاً أقامها ولا يزال في أنحاء البلاد. كما أنها أتت بالتزامن مع تَحرّره من العديد من التهم القضائية، وعلى رأسها تهم بالإرهاب، ما منحه وحزبه هامشاً كبيراً في الحراك المتصاعد ضدّ الحكومة، وفَتح عليه، في الوقت نفسه، باب الحديث عن تلقّيه المساعدة من الجيش في الانعتاق من تلك القضايا. إلّا أن ذلك السياق لم يخلُ من مفاجآت، إذ أعلنت لجنة قضائية تابعة للجنة الانتخابات العامّة في البلاد، منتصف تشرين الأوّل الماضي، أن رئيس الحكومة المُقال من منصبه، «غير مؤهّل للمشاركة في أيّ انتخابات» مقبلة، أو تولّي أيّ منصب سياسي لمدّة خمسة أعوام. وفيما كان المزاج العام في باكستان ينحو إلى الاعتقاد بأن الجيش يسيّر، من وراء الكواليس، المسارات المتعدّدة المتعلّقة بالمواجهة بين خان والحكومة، خرج المتحدث باسم الجيش، بابار افتخار، ليهاجم زعيم «الإنصاف»، في موقف نادر منذ التصويت على حجب الثقة عن حكومة الأخير في نيسان الفائت، إذ قال افتخار إن لاعب «الكريكت» الدولي السابق وصَم، بشكل غير مباشر، المؤسّسة العسكرية في خطاباته بمصطلحات من قَبيل «المحايدين والخونة». وفي مؤتمر صحافي عَقده مع قائد وكالة الاستخبارات الرئيسة، الجنرال نديم أحمد أنجوم، في السابع والعشرين من الشهر المنقضي، أضاف: «قلْنا له (لعمران) إن الجيش لن يقوم بدور غير دستوري لأنه قرّر ألّا يُقحم نفسه في السياسة».
ستكون المعركة على تعيين قائد جديد للجيش محطّة ساخنة أخرى في الصراع المفتوح


هكذا، عاد الجيش إلى واجهة الأحداث، وهو الذي يُعتبر أقوى مؤسّسة في باكستان، ويلعب دوراً كبيراً في معظم مناحي الحياة في البلاد، وخصوصاً في السياسات الخارجية والأمنية، إلى حدّ يدْفع البعض إلى الاعتقاد بأنه هو من يسيّر العملية السياسية، ويختار رئيس الوزراء من وراء الكواليس. ولعلّ هذا الوزن الثقيل للمؤسّسة العسكرية، يفسّر الصراع الفرعي الآخر بين خان وحكومة شهباز شريف، على تعيين قائد جديد للجيش، الذي تنتهي ولاية قائده الحالي أواخر تشرين الثاني الجاري. ففي حين يحاول خان تأجيل هذا الاستحقاق إلى ما بعد الانتخابات المبكرة التي يدعو إليها، يصرّ شريف على إتمامه بمعزل عن موعد الانتخابات الدستوري في صيف عام 2023، ما يعزّز المخاوف في صفوف الأوّل وأنصاره من أن يكون القائد الجديد مقرّباً من حزب «الرابطة الإسلامية» - جناح نواز شريف، رئيس الحكومة السابق، مع ما يعنيه ذلك من أداء معادٍ له ولحزبه. وإذ يمارس نواز، شقيق شهباز، سيطرة كبيرة على الحزب، وعلى الحكومة، فإن هذا يُعدّ سبباً إضافياً لتمسّك خان بمطلبه إجراء انتخابات نيابية مبكرة؛ إذ إن الأخير يخشى، من ضمن ما يخشاه، أن يستطيع نواز العودة إلى باكستان قبل الانتخابات المقبلة، ما سيساعد على إعادة تعزيز شعبّية «الرابطة»، بعدما شهدت تراجعاً جرّاء الأداء الهشّ لحكومة شهباز شريف، الذي يقود ائتلافاً غير متجانس، يضمّ أحزاباً متصارعة في ما بينها، وستخوض الاستحقاق الانتخابي المقبل متنافِسةً على المقاعد.
وبالعودة إلى الجيش ودوره، تُشدّد جميع القوى في باكستان، في العلن، على ضرورة عدم تدخّله في السياسة، لكنها في الوقت نفسه تُحاول استرضاءه لنيل دعمه لها على حساب الآخرين. وفي هذا السياق، نقلت «بلومبيرغ»، قبل أيام، عن الجنرال أنجوم قوله إن «عمران خان التقى سرّاً مع القائد العام للجيش قمر جاويد باجوا، لكي يطلب منه المساعدة في إعادته إلى السلطة». أمّا القيادي ‏في حزب «الإنصاف»، أسد عمر، فقد قال، في تصريحات أخيراً، إن «مَن بإمكانه إنهاء الأزمة السياسية الحالية هو الجيش الباكستاني والمحكمة العليا فقط»، في ما يؤشّر إلى أن الجيش يلعب دوراً حاسماً في ترجيح كفّة قوًى دون أخرى، علماً أن النظام الانتخابي يحتّم على الأحزاب التنافس ابتداءً على استقطاب أكثر المرشّحين قوّة في الدوائر الانتخابية المحلّية، وهؤلاء، تاريخياً، يميلون في العادة إلى الحزب الذي يميل إليه العسكر. ومن هنا، ستكون المعركة على تعيين قائد جديد للمؤسّسىة العسكرية محطّة ساخنة أخرى في الصراع المفتوح في البلاد. وفيما يقول القائد الحالي، الجنرال قمر جاويد باجوا، إنه لن يسعى إلى ولاية أخرى، تتشدّد حكومة شهباز شريف في إحكام قبضتها على الملفّ، ربطاً بمساعيها لعزل خان عنه قدْر الإمكان. وبالتالي، من المنطقي أن تستبعد الحكومة أيّ أسماء معروفة بقربها من رئيس الوزراء السابق، وخصوصاً رئيس المخابرات السابق، فايز حميد.
يأتي ذلك كلّه، في وقت تُواجه فيه حكومة شهباز شريف، التي تشكّلت في 11 نيسان الماضي، انحداراً اقتصادياً مستمرّاً، حيث واصلت العملة الوطنية (الروبية) انهيارها الحادّ أمام الدولار، وخسرت سوق الأسهم قيمتها، فضلاً عن التضخّم المتصاعد، وعبء الدين العام الذي جعل احتمال تخلّف البلاد عن السداد في السندات التي تستحقّ الشهر المقبل وارداً جداً، على رغم التطمينات التي يبثّها وزير المالية. وكانت وكالة «موديز» قد خفّضت التصنيف الائتماني لباكستان، وقالت، في بيان شديد اللهجة، إن البلاد «واحدة من أضعف الدول السيادية» التي تتعامل معها الوكالة، مُقدِّرةً أن تلتهم مدفوعات الفائدة وحدها، نصْف الإيرادات الحكومية هذه السنة المالية، ارتفاعاً من حوالي 40% العام الماضي. أمام هذا الواقع، يبدو أن أمام الحكومة خيارَين اثنين: يتمثّل الأوّل في السعي لإنقاذ الاقتصاد مقابل خسارة الانتخابات، على اعتبار أن الوصْفة الإنقاذية المطروحة من قِبَل «صندوق النقد الدولي» «غير شعبية»، ما سيضع الفريق الحاكم في مواجهة غضب الملايين الذين ستدفع بهم تلك الوصْفة إلى ما دون خطّ الفقر؛ أمّا الخيار الثاني، فيتجسّد في تجاهُل الوضع الاقتصادي والسعي لتحقيق النصر الانتخابي من خلال إنفاق موارد الدولة في خفْض سعر الصرف، والحفاظ على أسعار الطاقة وغيرها من الإجراءات، مع ما يؤسّس له ذلك من خراب مستقبلي. وبالطبع، لا يغيب عن بال الحكومة، ترقّب خان لأيّ خطوة تُقدِم عليها لاستثمارها ضدّها، وتسييلها أصواتاً في صناديق الاقتراع لصالحه، بصرف النظر عمّا إذا حصلت الانتخابات في موعدها الصيف المقبل، أم كانت مبكرة كما يطالب بها زعيم «الإنصاف».
في المحصّلة، يكاد الوضع في باكستان يشابه تماماً لعبة «الكريكت» التي تشتهر بها البلاد؛ إذ يدور الصراع بين فريقَين، يضرب الأوّل الكُرة فيما يحاول الآخر صدّها، وفي الأثناء يتركّز الانتباه على العلامتَين/ الهدف، واللتَين يحاول كلّ فريق إصابتهما لكي يحقّق الفوز بتراكم الإصابات.