تخوض روسيا، منذ أسابيع، مفاوضات شاقّة مع كلّ من أرمينيا وآذربيجان، بهدف تلافي جولة قتال جديدة بين الدولتَين، هي آخر ما تحتاجه موسكو حالياً، في ظلّ انشغالها بحربها على أوكرانيا. وإذ يتمثّل عنوان الخلاف الرئيس بين باكو ويريفان، والذي يحاول الروس إيجاد تسوية له، في «ممرّ زينغيزور» الذي لا يزال إنشاؤه متعثّراً على رغم النصّ عليه في اتفاق الهدنة في تشرين الثاني 2020، إلّا أن المسألة تبدو أبعد من مجرّد تنازع على السيادة بين الدولتَين، لتلامس حدود صراع الإرادات بين أطراف النفوذ في جنوب القوقاز. ذلك أن إيران، اللاعب الرئيس في تلك المنطقة، ترفض بوضوح إنشاء الممرّ المذكور، فيما تركيا، اللاعب المُنافس، تدفع بجدّ في اتّجاهه عادّة إيّاه «إنجازاً تاريخياً»، وهو ما يفسّر جانباً من تعقيدات المشهد هناك، وينبئ بصعوبة فكفكتها بسهولة
حتى الآن، ليست ثمّة مؤشّرات في شأن ما يمكن أن تَخرج به الاجتماعات الثُلاثية (أ ف ب)

سُجّلت في الأسابيع الأخيرة جهود روسية مكثّفة لتحقيق مصالحة شاملة بين أذربيجان وأرمينيا، تَمثّل آخر فصولها في الاجتماع الثُّلاثي الذي عُقد، قبل أيّام، في مدينة سوتشي، وجمع رئيسَي روسيا فلاديمير بوتين، وأذربيجان إلهام علييف، ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان. وتعكس هذه الجهود سعي روسيا لترسيخ دورها بصفتها حاضنة وراعِية للقوى المتصارعة في القوقاز، وخصوصاً في جنوبه. وترى موسكو في نجاح مساعيها، في حال تَحقّقه، تجاوزاً حاسماً لقُطوع حرب الـ44 يوماً بين باكو ويريفان، حين تمكّنت الأولى من هزْم الثانية، وانسحبت على إثر ذلك كلّ القوات الأرمينية من المناطق الأذربيجانية التي احتلّتها بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، بما فيها أراضي ناغورنو قره باغ، حيث سيطر الجيش الأذربيجاني على القسم الشمالي، فيما انتشرت قوّات أمن روسية في القسم الجنوبي من الإقليم، ومنعت أيّ وجود عسكري أرميني فيه. حينها، وجدت روسيا نفسها في موقف حرج، جرّاء إحجامها عن مساعدة حليفتها أرمينيا، التي يُصنَّف رئيس وزرائها باعتباره مُوالياً للغرب. ولكنها، مع هذا، استطاعت إنهاء الحرب في التاسع من تشرين الثاني 2020، والدفْع نحو توقيع اتّفاق بين أذربيجان وأرمينيا في العاشر منه، شكّل نقطة تحوّل في مسار الصراع بين الدولتَين، وانتهى إلى استعادة باكو كامل أراضيها من قره باغ وصولاً إلى حدود أرمينيا الرئيسة مع أذربيجان.
اعتبرت باكو أن مشكلة الإقليم المتنازَع عليه قد حُلّت بذلك الاتفاق، وطُويت إلى الأبد، لكنّ بنداً آخر بقي عالقاً ولم يُنفَّذ منه شيء، وهو افتتاح ممرّ يصل بين نخجوان والأراضي الأذربيجانية، ويمرّ حتماً بالأراضي الأرمينية المحاذية لإيران، ويُعرف بـ«زينغيزور»، فيما أُطلق عليه في تركيا «طوران» أو «الممرّ التركي». ويتمثّل أحد أهمّ الأسباب التي حالت دون تنفيذ هذا البند، في أن أرمينيا لا تريد تطبيقه كونه يمسّ بسيادتها على أراضيها، لكن يُحكى أيضاً عن ضغوط إيرانية كبيرة مورست على يريفان لمنْعها من المُضيّ قُدُماً في إنشاء الممرّ المذكور، باعتبار أنه سيتيح للشاحنات التركية وغيرها المرور عبره مباشرة إلى أذربيجان، من دون الحاجة إلى الأراضي الإيرانية، وسيتسبّب بالتالي بخسائر للجمهورية الإسلامية جرّاء فقدانها عوائد مرور الشاحنات والسلع عبرها. أيضاً، من شأن «زينغيزور» تكريس تعطيل طريق «جنوب شمال» - شبه المتوقّف حالياً - بين إيران وأرمينيا، مروراً بالأراضي الأذربيجانية التي أضحت تحت سيادة باكو. وهنا، نشأت مشكلة إضافية بين طهران وباكو، إذ تَعتبر الأخيرة أن «الممرّ الإيراني» لم يَعُد متاحاً بالكامل نتيجة مروره الآن في أراضٍ أذربيجانية تحرّرت بعد «حرب وطنية»، فيما تصف إيران الموقف الأذربيجاني بـ«الاستفزازي» و«العدائي»، وهو ما حملها على إجراء مناورات ضخمة على الحدود مع أذربيجان، حملت رسالة مفادها أنها لا تريد وقْف «الممرّ الإيراني»، ولا فتْح «الممرّ التركي». لكن من الواضح أن التوتّر بين البلدَين متّصل أيضاً بتَغيّر التوازنات الاستراتيجية في المنطقة، في حال إنشاء «زينغيزور»، لصالح نفوذ تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة، وهو ما سيكون من شأنه إضافة تعقيدات أخرى إلى المشهد الحالي.
اعتبرت باكو أن مشكلة إقليم ناغورنو قره باغ المتنازَع عليه قد حُلّت باتفاق تشرين الثاني 2020


على خلفية كلّ ما تَقدّم، اتّهمت باكو يريفان، بالنكث بوعودها، مُهدِّدةً باستئناف الحرب لإجبارها على تنفيذ بنود الاتّفاق كاملاً. ومن هنا، أتت مساعي روسيا في محاولة لرأْب الصدع بين الدولتَين، وتلافي اشتعال بؤرة توتّر أخرى، فيما تنشغل موسكو بحربها في أوكرانيا. من الجهة الأرمينية، يجد باشينيان نفسه في موقف صعب؛ إذ إن «الممرّ التركي» سيعني غلبةً كاسحة ليس لأذربيجان فقط، بل أيضاً لحليفتها التركية. وإذا كانت مشكلة ناغورنو قره باغ عصيّة على حلّ يُرضي الأرمينيين - تمتَّع الإقليم في ظلّ الحقبة السوفياتية بصفة الحُكم الذاتي ضمن أذربيجان، وهي صفة تشكّل الحدّ الأدنى من المطالب الأرمينية -، فإن مشكلة الممرّ التركي تتّخذ أبعاداً إقليمية ودولية. ذلك أن تركيا ترى في «زينغيزور» «إنجازاً تاريخياً» ممتدّةً خلفيّاته إلى مئات السنين، عنوانه إعادة الاتّصال بالعالم التركي في القوقاز وآسيا الوسطى للمرّة الأولى من طريق البرّ، وإضعاف النفوذ الإيراني في هذه المنطقة. وبهذا، تَخرج القضيّة من حدود كوْنها خلافاً بين باكو ويريفان فقط، لتمسّ الصراع التركي - الإيراني، علماً أن إردوغان استفزّ إيران، قبل سنتَين، في «احتفال النصر» في باكو، بالإشارة إلى نهر آراس الذي يفصل بين أذربيجان وأذربيجان الإيرانية، حيث فُسّر كلامه آنذاك بأنه تحريض عل انفصال «الجنوبية» عن إيران، والتوحّد مع «الشمالية» التي هي اليوم جمهورية أذربيجان.
حتى الآن، ليست ثمّة مؤشّرات إلى شأن ما يمكن أن تَخرج به الاجتماعات الروسية - الأذربيجانية - الأرمينية، لكنّ وسائل الإعلام في أذربيجان تصبّ تركيزها على «ثوابت» باكو في الخلاف مع يريفان. وفي هذا الإطار، يَلفت الكاتب الأذربيجاني، مبارز عبدالله، في صحيفة «أذربيجان الجديدة»، إلى أن «أوّل أهداف إلهام علييف من اجتماعات سوتشي الثُّلاثية والأخرى الثُّنائية، هو تأكيد الطيّ النهائي لقضية ناغورنو قره، وأنها حُلّت في اتفاق العاشر من تشرين بعودتها إلى الوطن الأمّ أذربيجان، وبالتالي عادت لتكون جزءاً من الشأن الداخلي الأذربيجاني، ولا ضرورة ولا يحقّ لأحد أن يشير إليها كقضية خارجية»، معتبراً أن ما «يدلّ على نجاح علييف في ذلك هو أن البيانات الصادرة عن قمم موسكو وسوتشي وبروكسل لم تُشِر البتّة ولا بأيّ كلمة إلى ناغورنو قره باغ». وينتقد الكاتب، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي لا يزال يثير قضية الإقليم ووضعه الجغرافي «بما يتعارض مع القانون الدولي»، من دون أن يهمل انتقاد بعض القنوات التلفزيونية الروسية التي لا تزال تتحدّث هي الأخرى، عن «النزاعات في قره باغ». وحمَل عبدالله أيضاً على باشينيان الذي «يبدو أنه نسي أنه وقّع على اتّفاق لإنهاء الحرب والانسحاب الكامل من قره باغ»، معتبراً أن «على أرمينيا أن تتقبّل حقيقة الوضع الجديد، ووصول الدولة الأذربيجانية إلى حدودها الكاملة مع إيران، والتي يبلغ طولها 132 كيلومتراً، ومع أرمينيا التي يبلغ طولها 500 كيلومتر»، ذاهباً إلى أبعد من ذلك بقوله إن «باكو لن تمنح أرمن ناغورنو قره باغ أيّ أوضاع خاصة، فهُم أقلّية عرقية صغيرة جدّاً، وهُم مواطنون آذريون، ودستور الدولة ينصّ على هيكلية الدولة الوحدوي». أمّا ثاني أهداف علييف، فهو، بحسب عبدالله، «ترسيم الحدود مع أرمينيا بشكل كامل، وسحْب ما تبقّى من وحدات أرمينية من مناطق ناغورنو قره باغ الجنوبية التي تحمي الأمن فيها القوات الروسية»، فيما الهدف الثالث «إنشاء ممرّ زينغيزور، ومن ثمّ توقيع اتّفاقية سلام نهائية بدل اتّفاقية وقف النار الحالية».