لعلّ من سمات انحدار الدول العظمى، أو كما يُطلق عليها «الإمبراطوريات» - وفي هذه الحالة، أميركا -، الخطوات الناقصة التي تخطوها في الخارج، وانفلاش الأزمات في الداخل. وإنْ كانت رئاسة دونالد ترامب قد جلَّت الانقسامات بصورتها الألمع، فهي سابقة لعهد الرَجل، وممتدّة إلى فترة خلفه، جو بايدن، الذي أمضى عقوداً مديدة في تعزيز قبضة الدولة العقابية، وتشريع الظلم في حقّ الأقليّات تحت عناوين شتّى، من «الحرب على الجريمة» إلى «الحرب على المخدرات»... مع هذا، اختار السناتور المخضرم ونائب الرئيس السابق، خَوْض المعركة الرئاسيّة دفاعاً عن «روح أميركا»، حين انتهت مساعي حزبِه لمقاومة ترامب، إلى تعميق الشرخ بين المعسكرَيْن الديموقراطي والجمهوري، وتوازياً انفراط عقْد الديموقراطية بمفهومها الأميركي الأعمق. ظَنَّ ابن مدينة سكرانتون (بنسلفانيا) أن الوسطيّة التي يدّعيها، سترمّم الحالة الديموقراطية الفريدة، التي كبّدتها سياسات سلفه «ندوباً عميقة»، وستُعيد، كما ذكّر دائماً، أميركا إلى الصدارة، لتقود العالم من جديد.
آمالٌ ديموقراطية
يُنظر إلى انتخابات التجديد النصفي، في جانب رئيس منها، على أنها استفتاء على شخص الرئيس، وحزبه؛ وفيها، يتركّز التصويت «العقابيّ» على الكونغرس بمجلسَيه: فَمَن يسيطر عليهما، يسيطر على البرنامج السياسي. وفي هذا الاتجاه، لا تبشّر الأخبار بالخير للحزب الديموقراطي المتراجع، وفق ما ترصده استطلاعات الرأي على مسافة أقلّ من أسبوعين من الانتخابات، أمام خصمه الجمهوري. ومن شأن خسارة حزب الرئيس غرفتَي الكونغرس، في انتخابات الثامن من تشرين الثاني، أن تسهم في إزاحة بايدن باكراً من المشهد، وأن تعطّل أجندته الرئاسية التي لا تَحمل أصلاً، إنجازاً يُعتدّ به. وبينما تسود حالة سخط عارمة أوساط الناخبين الأميركيين، يغذّيها التضخّم وخطر حصول ركود، والارتفاع المطّرد في أسعار المحروقات، وغيرها من السلع الرئيسة، يركّز الرئيس الديموقراطي اهتمامه على أكثر القضايا إثارةً للانقسام في المشهد السياسي الأميركي: الإجهاض (بعدما ألغت «المحكمة العليا» القرار التاريخي المعروف باسم «رو ضد وايد» الصادر في عام 1973 ليكرّس حقّ المرأة في الإجهاض)، ويحثّ مواطنيه على منْحه غالبيّة برلمانية كافية لـ«جعل حقّ الإجهاض مصاناً بموجب القانون من جديد على جميع الأراضي الأميركية، وحماية زواج المثليّين، وحظْر استخدام الأسلحة الهجوميّة». وفي استطلاع للرأي أجرته جامعة «كوينيبياك»، أخيراً، صَنّف 34% من الناخبين التضخّم على أنه القضية الأكثر إلحاحاً التي تواجه البلاد، وجاء العنف المسلّح في المرتبة الثانية بـ12%. لكن هذا الترتيب يتغيّر، وفق أهواء الناخب الحزبيّة؛ إذ يحتلّ التضخّم لدى 48% من الجمهوريين المرتبة الأولى، تليه الهجرة (16%)، فيما يُعدّ العنف المسلّح أولويّة الناخب الديموقراطي بـ22%، ثمّ الإجهاض (14%)، فالتضخّم (14%)، والقوانين الانتخابية (12%)، وأخيراً تغيُّر المناخ (11%).
تُظهر استطلاعات الرأي انقلاباً لمصلحة الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي


في الصورة الأعمّ، رصد المحلّلون في موقع «فايف ثيرتي إيت» المختصّ بالقراءات الانتخابية، انقلاباً لمصلحة الجمهوريين في الأيام الأخيرة، لتصل نسبة التأييد لهم إلى 45.1%، في مقابل 44.7% للديموقراطيين. وتوقّع موقع «ريل كلير بوليتكس» المعنيّ بالاستطلاعات الانتخابية، من جهته، تقدُّماً أكبر للحزب الأحمر بنسبة 47.8%، في مقابل 44.7%. وتعليقاً على هذه النتائج غير الجيدة، أوضح بايدن، في مقابلة مع قناة «أم أس أن بي سي» التلفزيونية، عرضه الأهمّ للناخبين، والذي يرتكز على الجانب الاقتصادي، وعلى اعتباره أن الجمهوريين يفتقرون إلى أيّ برنامج واضح: «ليس لديهم برنامج سوى هدْم ما تمكّنتُ من القيام به... أنا لا أعرف ما خطّتهم. كلّ ما فعلته على مدى الأسابيع الماضية هو القول إن هذا ما نقدّمه، وإليك ما يريدون هم أن يقوموا به، ولكم أن تختاروا وتصوّتوا. أعتقد أن الناس سيحضرون وسيصوّتون كما فعلوا في المرّة السابقة».
في هذا الوقت، تتّجه الأنظار، مرّة جديدة، إلى الولايات الحاسمة. ففي بنسلفانيا، يُنافس الطبيب محمد أوز المدعوم من ترامب، الديموقراطي جون فيتيرمان، على معقد في مجلس الشيوخ، فيما يأمل الديموقراطي رافاييل وارنوك، أوّل سناتور أسود يُنتخب في ولاية جورجيا، في إعادة انتخابه ضدّ هيرشل ووكر، الرياضي الأميركي السابق من أصل أفريقي، والمدعوم أيضاً من ترامب. وتحتدم المعركة، أيضاً، في ولايات مثل أريزونا، أوهايو، نيفادا، ويسكونسين ونورث كارولينا، حيث ينافس الديموقراطيون، مرشّحي الرئيس السابق الذي ألقى بثقله في الحملة الانتخابية.

الولايات المفكّكة
تُناقَش، منذ بعض الوقت، عناوين لطالما عُدَّت من المحظورات: النظام الفيدرالي الأميركي، والقانون الانتخابي. وعلى بُعد أيّام قليلة من انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، تتفشّى الأزمات المؤسِّسة التي تعاني منها البلاد؛ فإلى الصراع المتفاقم بين القطبَين الرئيسَين: الحزبَين الديموقراطي والجمهوري، تكمن المشكلة، هذه المرّة، في سيطرة الحزب الواحد على المجالس التشريعية للولايات الأميركية. ما تقدَّم حدا بمجلّة «إيكونومِست» البريطانية إلى نشْر عدد يحمل عنوان «الولايات الأميركية المفكّكة»، واستعراض المشكلات والأزمات وهموم كلّ ولاية على حدة، لتجلّي الانقسام الذي بات يسكن هذه الولايات، ولايةً ولاية. عن هذا، تعطي مثالاً يَصلح ليكون مقدّمة الحديث؛ ففي الـ25 من آب الماضي، حظرت كاليفورنيا بَيْع السيارات التي تعمل بالبنزين اعتباراً من عام 2035، فيما أقرّت تكساس، في اليوم نفسه، حظْر الإجهاض لحظة الحمل، من دون استثناءات، وبعقوبة يمكن أن تصل إلى 99 عاماً للمخالفات. تقول المجلة: «قد لا يبدو هذان الحدثان مرتبطَين، لكنهما يمثّلان أعراضاً لاتّجاه مهم. لدى أميركا 50 مختبراً لاختبار سياساتها التي تنجح أو لا تنجح. ويمكن الناس أن يختاروا العيش والعمل في الولايات التي يفضّلونها... وتستطيع كلّ ولاية أن توازن بين الضرائب والخدمات العامة». هذا «الشكل البنّاء» من الفيدرالية، تضيف، «ليس ما يسعى إليه سياسيو الدولة. بدلاً من ذلك، هم يخوضون حرباً ثقافية وطنية: نظرية العرق في الفصول الدراسية، سهولة شراء السلاح وحمله. ومثل هذه القضايا تثير الأميركيين من كلا الحزبين، فهي لا تؤمّن إصلاح الطرق أو تحسين السياسات الضريبية، وذلك لأن 37 ولاية من أصل 50، حيث يعيش ثلاثة أرباع الأميركيين، يحكمها حزب واحد، ويسيطر فيها على المجلسَين التشريعيَّين». و«تشجّع الولايات الزرقاء، مثلاً، الدعاوى القضائية ضدّ صانعي الأسلحة، فيما تعمل الولايات الحمراء على منْع كاليفورنيا - مثلاً - من وضْع معايير للانبعاثات خاصّة بها، ويروّج البعض لوجهة نظره القائلة إن الولايات الزرقاء متساهلة جداً في التعامل مع الهجرة غير الشرعية، إلى درجة أن حاكم ولاية تكساس، غريغ أبوت، نقل المهاجرين في حافلات إلى نيويورك»، وفق المصدر نفسه.
القلق الأكبر، تخلص «إيكونومِست»، هو من أن يقوّض التحزّب بين الأميركيين، «الديموقراطية الأميركية نفسها»، إذ يشكّل الخلل الوظيفي الأميركي، بحسبها، «خطراً على العالم الذي يعتمد على أميركا لدعم النظام العالمي القائم على القواعد (أو ما تبقّى منها)، وردْع الأعداء، وتقديم مثال للحكم الديموقراطي».