في مقابلة مع شبكة «إيه بي سي» في الـ 9 من الشهر الجاري، حضّ الأميرال مايك مولين، القائد السابق لهيئة الأركان الأميركية إدارة الرئيس جو بايدن على التراجع «قليلاً» عن تورّطها المحموم في أوكرانيا، والقيام بكلّ ما في وسعها للوصول إلى مفاوضات وتسوية سياسية للحرب الدائرة في هذا البلد. تلت تصريح مولين ذاك دعوة 30 نائباً ديموقراطياً في الكونغرس، في الـ 24 من الحالي، الرئيس الأميركي إلى تغيير مسار استراتيجيّته الخاصّة بهذه الحرب، والسعي إلى التفاوض المباشر مع روسيا لإنهائها. تعكس هذه المواقف المخاوفَ المتزايدة في أوساط قطاع من النُّخب الأميركية من انجراف بلادهم مجدّداً إلى سياسات «الحرب بلا نهاية»، والتي سبق أن اعتمدتها بذريعة «مكافحة الإرهاب»، بعد عمليات 11 أيلول 2001، مع ما ترتّب عليها من تداعيات كارثية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. ووفقاً لآخر تقديرات مشروع «أكلاف الحرب» في «معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة»، فإن أميركا أنفقت، في الفترة الممتدّة بين الـ 11 من أيلول 2001 وسنة 2022، في مختلف المجالات المرتبطة بـ«الحرب على الإرهاب»، 8 تريليونات دولار، إضافة إلى 2,2 تريليون للعناية بالمحاربين القدامى.ترى كارن غرينبرغ، مديرة «مركز الأمن القومي» في جامعة فوردهام، في مقال على موقع «توم ديسباتش» بعنوان «اللحظة الأوكرانية»، أن المَبعث الأساسي للقلق حيال المقاربة الأميركية الراهنة للنزاع في أوكرانيا هو عدم تحديدها لتصوّر واضح لنهاية مقبولة للحرب، والاستعداد للمضيّ فيها مهما طال أمدها، مُذكّرةً ببيان مجموعة الدول السبع الذي يعلن استمرار «الدعم المالي والإنساني والعسكري والدبلوماسي والقانوني لأوكرانيا طالما اقتضى الأمر ذلك». وتشير غرينبرغ إلى أن غياب مِثل هذا التصوّر الواضح هو السمة المشتركة مع «الحرب على الإرهاب»، حيث لم تتوقّف هذه الأخيرة بعد قتل أسامة بن لادن، أو بعد إسقاط نظام صدام حسين في العراق، ومن ثمّ إعدامه. هي تفترض أن «الديناميات» التي ولّدتها الحرب هي التي قادت إلى توسُّعها من أفغانستان نحو الشرق الأوسط وبقاع أخرى من العالم، وما رافق ذلك من ممارسات «قذرة»، كإنشاء المسالخ البشرية في غوانتنامو وأبو غريب، وانتهاك «الحريات والحقوق» الفردية والجماعية في دولة القانون العتيدة: الولايات المتحدة. الفارق الرئيس بين السياق العام آنذاك، وبين الظروف الراهنة، هو أن الولايات المتحدة شنّت حروباً مباشرة بذريعة مكافحة الإرهاب لاستكمال بسْط هيمنتها على خصوم أضعف منها بمعايير موازين القوى التقليدية (أفغانستان، العراق)، لكنّها تخوض اليوم، وحتى الآن، حرباً بالوكالة ضدّ روسيا. وإذا كانت الأدوات «القذرة» للحروب الأولى هي القتل الجماعي للسكان وتدمير المدن والبنى التحتية، وتطبيق تقنيات «مكافحة التمرّد»، وبينها إقامة مراكز الاعتقال والتعذيب، فإن تلك الأدوات، في حالة الحرب الحالية، تتمثّل في مدّ الوكلاء المحليّين، أي نظام كييف، بكلّ الإمكانات الضرورية لخوضها، وبينها «القنابل القذرة».
الترسانة النووية، وما تضمّ من أسلحة استراتيجية وتكتيكية، هي من بين أبرز أوراق القوّة التي تمتلكها موسكو


الترسانة النووية، وما تضمّ من أسلحة استراتيجية وتكتيكية، هي من بين أبرز أوراق القوّة التي تمتلكها موسكو في مواجهة الحرب الدولية التي تستهدفها، والتي لم يُخفِ مسؤولون أميركيون أن غايتها «إضعافها». اختار وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، بدقّة مفهوماً ضبابياً ومطّاطاً كـ«الإضعاف»، قابلاً لتأويلات متعدّدة، وقد يُستنتج منه فقط أن المطلوب هو إطالة أمد النزاع. وبعد الاختراقات الميدانية التي حقّقتها القوات الأوكرانية في الشهرَين الماضيَين، بفضْل التكنولوجيا العسكرية الغربية، لمّح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى أن بلاده لن تتردّد في استخدام «جميع الوسائل المتوفّرة» لديها للدفاع عن وحدتها وسيادتها، في مقابل استراتيجية التدمير المعتمدة ضدّها، بما فيها اللجوء إلى الأسلحة النووية كخيار أخير. لا تزال لدى روسيا خيارات كثيرة قبل ذلك المذكور؛ ومن الجليّ أن القرارات والإجراءات التي اتّخذتها قيادتها السياسية والعسكرية تندرج في إطار الاستعداد لحرب طويلة، وتهيئة شروط الشروع بهجوم مضادّ كبير، يرجّح الخبراء أن يتمّ مع نهاية الشتاء القادم.
الحروب التقليدية الطويلة كثيراً ما تشهد عمليات كرّ وفرّ كما يقال، والحرب في أوكرانيا هي من نمط هذه الحروب. وما يطيل أمدها، ويمنع إلى الآن انتصاراً روسياً ساحقاً فيها، كما يقرّ المؤرخ البريطاني - الأميركي المحافظ، نيال فرغسون، في مقاله الأخير على موقع «بلومبرغ» بعنوان «كيف يمكن أن تتحوّل الحرب الباردة الثانية إلى حرب عالمية ثالثة»، هو الدعم الغربي الاستثنائي لنظام كييف. تشي ضخامة هذا الدعم بإرادة حاسمة بإلحاق هزيمة مدوّية بموسكو، يَظنّ أصحابها بأنها كفيلة بوقف الانحدار الغربي والتأسيس لمرحلة جديدة من الهيمنة على العالم. قناعة القيادات الأميركية والغربية بأن هذه المجابهة «مصيرية» بالنسبة إلى الموقع الدولي المستقبلي لبلدانهم، هي التي تفسّر انخراطهم فيها، على رغم ما قد ينجم عنها من أخطار مهولة على الأمن العالمي، بما فيه أمن بلدانهم. وهم تجاوزوا، منذ أمد ليس بقريب، الخطوط الحمر الروسية عبر إمداد أوكرانيا بأسلحة نوعية، تَعاظم تدفُّقها في الآونة الأخيرة.
يبقى أن «احتكار» روسيا للأسلحة النووية هو من بين أبرز عوامل اختلال ميزان القوى الإجمالي بينها وبين أوكرانيا. منْح الغرب أسلحة نووية لنظام كييف، كما طالب رئيسه فولوديمير زيلنسكي في كلمة له أمام «منتدى الدوحة» في 26 آذار الماضي، عندما قال إن «تلويح روسيا باستخدام السلاح النووي يشجّع على حيازة هذا النوع من الأسلحة»، سيكون بمثابة إعلان حرب مباشرة على موسكو. ما تكشفه الاتهامات الروسية لنظام كييف حول سعْيه إلى إنتاج «قنبلة قذرة» بالتعاون مع الولايات المتحدة وبريطانيا، هو أن الأطراف الغربية تتّبع استراتيجية خداع مع موسكو شبيهة بتلك التي انتهجتها حيالها منذ بداية التأزّم حول أوكرانيا، وقبل بداية الحرب. أكدت هذه الأطراف أنها لا تريد ضمّ كييف إلى «الناتو»، بينما كانت تضخّ الأسلحة إليها وتدرّب قواتها وتجري مناورات مشتركة معها لتحويلها إلى عضو في الحلف من دون الإعلان رسمياً عن ذلك. تحاول أجهزة الدعاية الغربية تسخيف الاتهامات الروسية، لكن مطالبة موسكو المتكرّرة، وعلى لسان أهمّ مسؤوليها، كوزير خارجيتها سيرغي لافروف، بقيام خبراء من «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» بزيارة المواقع التي تُصنَّع فيها مثل هذه القنابل، هو في ذاته دليل على ثقتها الكاملة بدقّة المعطيات المتوفرة لديها. من غير الوارد أن توجِّه اتهامات كهذه في خضمّ الحرب الحالية لولا تأكّدها من صحّتها. مَن قرَّر توزيع «قنابل قذرة» يلعب بنار سريعة الانتشار.