شكّل مؤتمر «التعاون المشترك وتعزيز إجراءات الثقة» الذي عُقد، قبل أيّام، في العاصمة الكازاخية أستانا، مناسبةً لإثارة واحد من الموضوعات المهمّة في خضمّ الصراع العالمي بين روسيا والغرب، والأزمات التي نتجت منه، إذ رمى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في المؤتمر، قنبلةً كان لها وقعٌ مدوٍّ، باقتراحه، خلال اجتماعه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، أن «تكون تركيا قاعدة لمركز غاز كبير من أجل أوروبا»، وهو ما قابَله إردوغان بالقبول الفوري، إلى درجة أنه حدّد موقع إنشاء مركز تجميع وتخزين الغاز، في منطقة تراقيا الواقعة في الجزء الأوروبي من تركيا، تمهيداً لنقله إلى أوروبا، وأعطى تعليماته إلى وزارة الطاقة في هذا الخصوص. ولعلّ أهمّ ما في المقترح الجديد، أن المنصّة التركية لن تكون مجرّد مركز عبور (ترانزيت) إلى أوروبا، بل ستتمتّع بصلاحية تحديد سعر المتر المكعّب، فيما سيشترك فيها أطراف كثر من روس وأتراك وجنسيات أخرى، بحيث لا يَظهر الغاز المصدَّر منها كما لو أنه غاز روسي مُرسَل مباشرة إلى أوروبا، بل تضيع «هويّته»، وهو ما يحظى بأهميّة بالغة في ظلّ أزمة الطاقة التي تعانيها القارة. لكن، هل ستصبح «تراقيا» بديلاً من الغاز الروسي المعلَّق تصديره إلى أوروبا؟ وهل ستوافق الأخيرة على الشراء منها؟ قد لا يهمّ الأوروبيين، في الظرف الحالي، من أين يأتي الغاز، لكن التَّحرّر من الارتهان لموارد الطاقة الروسية على الأمد البعيد، لا يتّسق مع الانخراط في مشروع من النوع المذكور.أيّاً يكن، فإن السؤال الأبرز يظلّ حول غاية بوتين من رمْي مقترحه في هذا التوقيت؟ ترى دينيز كيليسلي أوغلو، في صحيفة «ميللييات» الموالية، أن المنصّة التركية ليست بديلاً من خطَّي الغاز الشماليَّين 1 و2، معتبرةً أن بوتين يريد أن يجذب تركيا إلى جانبه ولو قليلاً في صراعه مع الغرب، وأن يُعمّق الشرخ في ما بينها وبين الأخير، مضيفةً إلى ما تَقدّم أن «روسيا ليست مرتاحة لكوْن أوكرانيا، منذ سنوات كثيرة، هي الممرّ الرئيس لتوزيع الغاز الروسي إلى أوروبا». على أن ثمّة احتمالاً آخر، بحسب كيليسلي أوغلو، وهو أن «بوتين الذي لم ينلْ بعد ما يريده من الحرب الأوكرانية، يريد الاستعداد لحوار بين روسيا والغرب من خلال الإمساك بورقة جديدة، وهي تمرير الطاقة إلى أوروبا عبر طرق بديلة مِن مِثل تركيا»، مشيرةً إلى «أن البعض يرى أن مركز الغاز هذا سيكون من أجل التصدير إلى شرق آسيا، إلّا أن اختيار تراقيا بالتحديد يؤكد أن هدف بوتين هو التصدير إلى أوروبا من دون إهمال المناطق الأخرى في العالم».
أهمّ ما في المقترح الجديد، أن المنصّة التركية لن تكون مجرّد مركز عبور (ترانزيت) إلى أوروبا


ويتساءل نصوحي غونغير، في صحيفة «خبر تورك»، من جهته، عمّا إذا كان الاقتراح الروسي «تغييراً جذرياً في استراتيجية بوتين، أم أنه لعبة للخروج ممّا يمكن أن يُعتبر مأزقاً له؟». وفي كلتا الحالتَين، يعتقد غونغير أن «الاقتراح سيكون مكسباً لتركيا»، وأن «إردوغان لن يضيّع هذه الفرصة»، فيما يلفت إردال تاناس قره غول، في صحيفة «يني شفق» المُوالية، إلى أن «تركيا، نظراً إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي بين الدول المُصدِّرة للغاز والدول المستورِدة، تحظى بامتيازات مهمّة لتكون مركزاً للغاز الطبيعي»، كوْن طُرقها هي الأقصر والأكثر أماناً. ويَبرز، هنا، أوّلاً، «خطّ أنابيب الغاز الطبيعي عبر الأناضول» (TANAP)، الذي ينقل الغاز الأذربيجاني إلى تركيا، حيث يُستخدم جزء منه للاستهلاك الداخلي ويُنقل الباقي إلى أوروبا عبر «خطّ الغاز الطبيعي في الأدرياتيك» (TAP). أمّا الخطّ الثاني المحتمَل، فهو «خط غاز السيل التركي»، الذي يتألّف عمليّاً من خطَّين اثنين: أحدهما ينقل الغاز الروسي إلى تركيا عبر البحر الأسود، والآخر يعيد نقله إلى أوروبا، وسِعة كلّ منهما 16 مليار متر مكعّب. ويرى الكاتب أن الجانب الأكثر أهمّية من خطوط النقل تلك، هو احتمال أن تَعثر تركيا في منطقتها الاقتصادية الخالصة في شرق المتوسّط على النفط والغاز الطبيعي الخاص بها، وهو الأمر الذي «سيقلب المعادلات رأساً على عقب»، لناحية تحوّل تركيا إلى مركز ومستودع لتخزين الغاز وإعادة تصديره.
بدوره، يشير أوزاي شيندير، في صحيفة «ميللييات»، إلى أن «الاقتراح الروسي أثار حماسة في تركيا»، لافتاً إلى أن «تَحوّل تركيا إلى مركز للغاز هو إنجاز كبير، وسيحلّق بالاقتصاد التركي»، مستدرِكاً بأن «هذا لا يكفي للابتهاج، إذ تجب معرفة مدى استعداد الدول للشراء، فاليوم تراجعت نسبة شراء أوروبا الغاز من روسيا من 40 إلى 8%، والأسوأ أن أوروبا تخطّط لوقف كلّ وارداتها من روسيا من الغاز مع نهاية عام 2027». ويضيف شيندير أن «هناك مشكلة أخرى، وهي أن سعة الأنابيب المارّة في تركيا لا تكفي لتكون مركزاً للغاز، إذ يجب إنشاء خطّ بحري جديد في أعماق البحار والدفع باستثمارات جديدة، والمعروف أن الشركات اليابانية والألمانية هي الأفضل في العالم لإنشاء هكذا خطوط أنابيب، لكن في ظلّ العقوبات الغربية على روسيا، هل يمكن لهذه الشركات أن تتولّى تلك المهمّة؟ هذا ما ليس معروفاً بعدُ». ومن هنا، يعتقد الكاتب أنه «قبل أن تنتهي العقوبات الأوروبية على روسيا، فإن بيع الغاز الروسي في الأسواق ليس عملاً جيّداً يمكن الدخول فيه».
من جانبه، يُبيّن الخبير في الطاقة، علي عارف آق تورك، أنه «من الأصحّ تسمية المركز بمركز تجارة الغاز، وليس مركز الغاز، أي أن يكون سوقاً يباع الغاز فيه ويُشترى، تماماً كما مراكز بيع الخيار أو الطماطم، ويكون السعر فيه وفقاً للعرض والطلب»، موضحاً أن «نجاح عمل هذا المركز مرتبط بعدم وجود قيود قانونية أو تقنية وعدم التلاعب بأسعار الغاز». ويلفت آق تورك إلى أن «الاستثمار في مشاريع خطوط أنابيب جديدة غير ممكن من خلال التمويل الروسي الصرف، ولا من خلال القروض الدولية بسبب العقوبات على روسيا، وليس من الممكن تنفيذه قبل أقلّ من أربع سنوات»، مستدرِكاً بأن «مجرّد إنشاء مركز للغاز في تركيا سيرفع الناتج القومي التركي، ويوفّر يداً عاملة جديدة»، مضيفاً أن هذا المشروع «لا يعني ربط تركيا بروسيا بل يمكن لأنقرة التقليل لاحقاً من التبعية لروسيا». ويختم بأنه «حتى لو لم يأتِ الغاز الروسي، فإن الغاز الأذربيجاني وغاز بحر قزوين سيأتيان، وأوروبا ستكون بحاجة إلى تركيا في هذا الأمر».