أراد وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، خلال جولته الأخيرة في أميركا اللاتينية، ترميم جسور التواصل بين الأميركتَين؛ فبدأ من كولومبيا (حيث بات الحُكم يسارياً) لينتقل بعدها إلى تشيلي والبيرو، اللتَين حذتا هما أيضاً حذو جارتهما الكولومبية. واقتصرت الزيارة، وفق ما هو معلَن في بيان الخارجية الأميركية، على عناوين فضفاضة مِن مِثل: «الديموقراطية، الهجرة، حقوق الإنسان، مكافحة التغيّر المناخي، والإتجار بالمخدرات»، إلا أن أهدافها تبدو أبعد ممّا تقدَّم. وفي هذا الخصوص، ثمّة مَن يرى أن قضيّة العداء المتنامي للصين، إلى جانب محاولة الولايات المتحدة تحصين علاقاتها مع حكومات الدول الحليفة في أميركا اللاتينية، والتي أوصلت اليسار إلى الحُكم، كانتا في صلب الزيارة. وتجدر الإشارة إلى أن جولة بلينكن الأحدث، سبقتها أخرى، الشهر الماضي، كان الوزير خصّ بها المكسيك، حيث التقى الرئيس أندريس مانويل لوبيز أوبرادور. ويمكن، في هذا الإطار، ربط الزيارتَين باعتبارهما جاءتا للهدف نفسه. ففي ميكسيكو، وعلى رغم أن الزيارة هدفت إلى «معالجة ملفّ الهجرة»، لم يتوانَ الوزير الأميركي عن بدء حوار اقتصادي لـ«تعزيز التبادل بين البلدين»، على حدّ قوله. وهو إعلان دفع الكاتب أرماندو فيلاسكو، في «فوكس نيوز»، إلى اعتبار أن «الصين كانت على الأرجح حاضرة في ذهن بلينكن» وإنْ كان أحجمَ عن ذكرها، خصوصاً أن «الولايات المتحدة لا ينبغي أن تكون قلقة فحسب، بل يجب أن تتّخذ إجراءات تنافسيّة فورية، وأن تتصرّف قبل أن تصبح الصين أكثر رسوخاً في هذه المنطقة».أصبحت الصين، اعتباراً من الألفية الجديدة، أحد الفاعلين في اقتصادات أميركا الجنوبية، وتحوّلت مع الوقت لتُنشئ شراكات مع بعض دولها، فيما تعيش العلاقات بين الجانبين، راهناً، «لحظة مفصليّة»، بفعل تطوير بكين علاقات ديبلوماسية مع معظم دول المنطقة، وتَحوّلها إلى شريك تجاري للعديد من بلدانها. ووفق أرقام «المنتدى الاقتصادي العالمي»، نمت التجارة بين الصين ودول أميركا اللاتينية 26 ضعفاً بين عامَي 2000 و2020 (من 12 مليار دولار، إلى 315 مليار دولار)، فيما يتوقّع الخبراء مزيداً من النمو في المستقبل، يمكن أن يصل حجمه إلى أكثر من 700 مليار دولار بحلول عام 2035. وفي هذا المجال، تورد الكاتبة ديانا روي، في «مجلس العلاقات الخارجية»، أنه بين عامَي 2005 و2020، «أقرضت الحكومة الصينية حكومات أميركا اللاتينية حوالى 137 مليار دولار، غالباً في مقابل النفط واستخدامه في تمويل مشاريع الطاقة والبنية التحتية». وقسّمت روي مجالات التعاون الرئيسة بين الجانبين إلى ثلاثة: الطاقة، البُنى التحتية، والتعاون التكنولوجي والفضائي. وبالنظر إلى الأرقام التي أوردتها الكاتبة، يبدو أن التعاون نما بشكلٍ مطّرد على مدى العقدَين الماضيين. ففي مجال الطاقة، استثمرت بكين، بين عامَي 2000 و2018، نحو 73 مليار دولار في قطاع المواد الخام في أميركا اللاتينية. وبدأت أخيراً في استثمار ما يقرب من 4.5 مليار دولار في إنتاج الليثيوم في المكسيك، وما يسمّى «دول مثلّث الليثيوم» في الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي؛ علماً أن هذا الثالوث مجتمعاً يحتوي على أكثر من نصف احتياطي الليثيوم العالمي. ويضاف إلى ما تقدَّم، واقع أن منطقة أميركا اللاتينية أصبحت أساسية في مبادرة «الحزام والطريق» التي أطلقها الرئيس الصيني، شي جين بينغ، عام 2013.
تبدو دول أميركا اللاتينية حريصة على حماية علاقاتها التجارية مع الغرب والصين وروسيا


يُقلق الوجود الصيني المتزايد في أميركا اللاتينية، صنّاع السياسة والمسؤولين العسكريين الأميركيين. ومن بين هؤلاء، الأدميرال كريغ فالر، الرئيس السابق للقيادة الجنوبية الأميركية، الذي قال العام الماضي: «نحن نفقد ميزتنا الموضعية في نصف الكرة الأرضية هذا، وهناك حاجة إلى اتخاذ إجراء فوري لعكس هذا الاتجاه». من جهتها، تُرجع روي، التراجع الأميركي في المنطقة إلى «نهج واشنطن المستمرّ في فرض العقوبات وخفض التمويل للمنظمات الإقليمية»، وهو ما حدا ببعض الحكومات إلى التقرّب من بكين. وفي هذا الإطار، يرى نائب رئيس كولومبيا السابق، فرانسيسكو سانتوس، أنه «باستثناء كولومبيا، تفتقر الولايات المتحدة إلى الرؤية والقيادة في سياستها الخارجية تجاه المنطقة، منذ وَجّهت أنظارها إلى أفغانستان والعراق». وعلى رغم «امتلاك الأميركيين الأدوات اللازمة لمواجهة التأثير الصيني، إلا أن بلينكن أتى إلى المنطقة بأيدٍ فارغة»، يضيف.
ويُناظر «الخطر» الصيني في أميركا اللاتينية ذلك الذي تمثّله روسيا، خصوصاً بفعل اصطفاف دول جنوبية إلى جانب موسكو في حربها على أوكرانيا، إذ كانت 13 دولة لاتينية من أصل 21، امتنعت، في تموز الماضي، عن إدانة الغزو. ولكنه بدا لافتاً أن العديد من هذه الدول صوّتت لإدانة ضمّ روسيا أربع مقاطعات أوكرانية، ومنها: البرازيل والأرجنتين وكولومبيا وتشيلي، فيما امتنعت بوليفيا، وكوبا، وهندوراس، ونيكاراغوا عن التصويت. وليس خفيّاً أن تدهور العلاقات بين روسيا والغرب يشكّل معضلة لحكومات أميركا اللاتينية، التي سعى معظمها إلى تجنّب الانحياز إلى طرف ضدّ آخر، وفق ما يقول أوليفر ستوينكيل، في صحيفة «موسكو تايمز». وفي خلفية سياسة عدم الانحياز هذا: الاقتصاد؛ إذ إن دول هذه المنطقة «تبدو حريصة على حماية علاقاتها التجارية مع الغرب والصين وروسيا»، وفق ما يذكر الكاتب.