لندن | في أفضل الأحوال، يمكن حكومة ليز تراس أن تصمد حتى نهاية العام الجاري. إذا كان هذا ما يتوقّعه أكثر المتفائلين، فإن النقاشات بدأت بالفعل بين نواب «المحافظين» المذعورين من انهيار فرص التجديد لهم، للبحث في مخرج قانوني يتيح لهم التخلُّص منها. وفيما تعاند تراس للتمسُّك بمنصبها، من خلال التضحية بوزير ماليتها كواسي كوارتنغ، والتراجع عن محاور رئيسة في استراتيجيتها الاقتصادية التي أثارت صدمة في الأسواق الماليّة وتسبّبت بانهيار سعر الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوياته التاريخيّة، فهي اعترفت بأن خططها «ذهبت إلى أبعد وأسرع» ممّا توقّعته الأسواق
شهد مجلس العموم البريطاني، في عطلة نهاية الأسبوع، نشاطاً سياسيّاً محموماً بين نواب «حزب المحافظين» الـ356، للتداول في مخارج قانونيّة تتيح لهم التخلّص من الكارثة التي انتهت إليها حكومة ليز تراس بعد أقلّ من أربعين يوماً على تولّيها السلطة خلفاً لحكومة سلفها بوريس جونسون. ونقلت صحف العاصمة عن قيادي في الحزب الحاكم دعَم ترشيح تراس للمنصب، قوله إنها «قد ترحل في غضون أسبوعين»، فيما كان أكثر مؤيديها تفاؤلاً يمدّ في عمر حكومتها المتوقَّع إلى عطلة عيد الميلاد. ووفق ما رصد مراقبون من داخل الحزب، فإن حجم التأييد لتراس انكمش إلى أقلّ من ربع الكتلة النيابيّة لـ«المحافظين»، فيما بعث بعض هؤلاء برسائل إلى رئيس «لجنة النظام الحزبي» (لجنة 1922)، السير غراهام برادي، يعلنون فيها سحْب ثقتهم من الحكومة.
وعلى رغم معاندتها للتمسّك بكرسي رئاسة الوزراء، إلّا أن تراس حاولت الانحناء أمام العاصفة التي أثارتها السياسة الاقتصادية التي تبنّتها - وتقوم على أساس تخفيضات ضريبيّة للشركات وللأثرياء سعياً إلى تحفيز النمو الاقتصادي -، عبر إقالة وزير ماليّتها كواسي كوارتنغ من منصبه. وأعلنت الرئيسة أيضاً، خلال مؤتمر صحافي قصير عقدته في «10 داونينغ ستريت»، تراجعها عن عدد من المحاور الرئيسة في الميزانيّة الموجزة التي عرضتها على البرلمان، بما في ذلك تخفيض ضريبة الشركات بقيمة تقارب الـ20 مليار جنيه إسترليني، معترفةً بأن استراتيجيتها الاقتصادية التي أثارت صدمة في الأسواق الماليّة وتسبّبت بانهيار سعر الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوياته التاريخيّة «ذهبت إلى أبعد وأسرع» ممّا توقّعته الأسواق، وبـ«(أننا) بحاجة إلى التحرّك الآن لطمأنة الجميع في شأن انضباطنا المالي». على هذه الخلفية، اضطر بنك إنكلترا المركزي، ولعدّة مرّات خلال الأيّام القليلة الماضية، إلى التدخّل بشكل طارئ لشراء السندات الحكوميّة طويلة الأجل، سعياً إلى وقْف هلع المستثمرين ودعم صناديق التقاعد المعرّضة لخطر شديد.
في هذا الوقت، استدعت تراس وزير الخارجية السابق، جيريمي هانت، لتولّي حقيبة الماليّة خلفاً لكوارتنغ، على رغم أن الرَجل عديم الخبرة الاقتصاديّة، وهو اشترط أن تحتفظ الحكومة بما تبقّى من أجندتها لتحفيز النمو، ليثير التكهّنات باحتمال نشوب صراعات بينهما داخل الحكومة، فيما يتعيّن على الوزير الجديد تقديم خطّة اقتصادية جديدة بحلول نهاية الشهر الجاري. ويبدو أن خطط تراس الاقتصادية المبنيّة على افتراضات عَدّها عدد من الخبراء «موهومة»، إنّما تعبّر عن توجّهات «المحافظين» الاقتصادية بشكل أو آخر. مع هذا، فإن هزيمة الحكومة الآن أمام الأسواق والرفض الشعبي الصامت – قُرئ من خلال استطلاعات للرأيّ مَنحت «حزب العمل» المعارض تفوّقاً بما لا يقل عن 30 نقطة مئوية – تمثّل انكساراً لنهج أيديولوجي متكامل يمثّل مصالح القلّة المتنفّذة، وقد ينسحب سلباً على أيّ حكومة محافظة مقبلة بغضّ النظر عن شخص رئيسها. ونقلت الصحف عن النائب عن «حزب المحافظين»، روبرت هالفون، قوله: «لقد حطّمت تراس في أيّام قليلة عملاً استمرّ عشر سنوات من قِبَل المحافظين لكسب أصوات ناخبي الطبقة العاملة».
على المحافظين اليوم المفاضلة بين ألم الاحتفاظ بتراس وألم التخلّص منها


جهود تراس لاستعادة ثقة الأسواق لم تُكلَّل بالنجاح، واستمرّت الضغوط طوال يوم الجمعة على الجنيه الإسترليني والأوراق المالية السيادية، فيما يُخشى حدوث مزيد من الاضطرابات مع افتتاح الأسواق اليوم (الاثنين). وتبلغ تكلفة اقتراض الحكومة البريطانية، الآن، أعلى من تكلفة اقتراض دول أوروبية بحكم المفلسة، مثل إيطاليا واليونان. وقد ظهر الامتعاض جليّاً على وجه الملك تشارلز الثالث عندما التقى تراس يوم الأربعاء الماضي، بعدما ارتبطت بداية عهده بنذر انهيار شامل. وبحسب خبراء في بنوك عالمية، فإن تراجعات تراس غير كافية ولا مقنعة، وإن العاصفة التي تضرب اقتصاد المملكة المتردّي أخطر من أن تنتهي بإقالة وزير مالية، إذ ترتبط أساساً بضعف بنيوي متراكم تعمَّق بعد قرار بريطانيا إسقاط عضويّتها في الاتحاد الأوروبي. وكان بنك إنكلترا حذّر حتى قبل إعلان تراس لسياستها، من أن بريطانيا ستشهد أسوأ مستويات الركود الاقتصادي مقارنة بدول الجوار، ولفترة أطول.
على أن التخلّص من تراس بسرعة يمثّل معضلة للحزب الحاكم الذي يتمتّع بغالبية مريحة في مجلس العموم تمنحه صلاحية تشكيل الحكومات حتى موعد الانتخابات العامة العادية المقبلة (كانون الثاني 2025)، إذ وفق نظمه الداخلية، فإنه لا ينبغي طرح الثقة برئيس وزراء من الحزب قبل مرور عام كامل على تولّيه المنصب، أي أيلول 2023. كما أن عملية تصعيد رئيس وزراء جديد من بين كوادر الحزب وفق الآلية المعمول بها، تحتاج إلى شهرين على الأقلّ، في وقت لا تحتمل فيه الأوضاع الكارثيّة رفاهيّة الوقت. ويفتقد الحزب الحاكم بشدّة إلى الشخصيات الكاريزميّة التي يمكن أن تمتلك الرؤية أو الكفاءة لقيادة سفينة البلاد وسط الأنواء، وهناك تردّد واضح من قِبَل الكتلة النيابية للدفع في اتجاه مغامرة إجراء انتخابات عامة مبكرة، في وقت وصلت فيه شعبية «المحافظين» إلى مستوى متدنٍ قياسي، شبيه بأجواء انتخابات عام 1992 عندما أُبعدوا عن الحكم، واكتفوا بعدها بالمراقبة من مقاعد المعارضة لـ18 عاماً متتالية. وعبّر أحد دهاقنة الحزب عن هذه المعضلة، بقوله: «إن على المحافظين اليوم المفاضلة بين ألم الاحتفاظ بتراس وألم التخلّص منها». وإذا رحلت رئيسة الوزراء سريعاً، فإن ذلك يعني أنه سيكون للمملكة المتحدة خامس رئيس وزراء محافظ خلال ست سنوات، ما يعكس حال التخبّط التي تعيشها النخبة الحاكمة في ظلّ ظروف داخلية وإقليمية ودولية غير مواتية.
وبحسب ما رَشَح من مداولات نواب الحزب الحاكم في عطلة الأسبوع، فإن البعض يرى أن على السير برادي السَيْر بإجراءات حجب الثقة عن تراس، إذا وصل عدد الرسائل المكتوبة في هذا الخصوص إلى أكثر من مئة، فيما يقول آخرون إن هناك ضرورة للحصول على تأييد نصف الكتلة البرلمانية بزيادة واحد (179 نائباً)، وعندها يمكن لرئيس «لجنة النظام» أن يخيّر تراس بين الاستقالة أو مواجهة تصويت بحجب الثقة بعد تغيير قواعد اللجنة في تصويت داخلي. ولتجنّب حدوث فراغ لشهرين كما حصل أخيراً عندما أُجبر بوريس جونسون على الاستقالة، فإن الحزب بحاجة إلى التوافق سريعاً على مرشّح وحيد، وهو أمر قد يبدو مستحيلاً أقلّه وفق خريطة التحالفات بين قبائل «المحافظين» المتنافسين. وقد يلجأ أعداء تراس إلى إعادة طرح اسم ريشي سوناك الذي كان خسر أمامها في انتخابات الحزب لتصعيد بديل لجونسون، أو هانت، وزير المالية الجديد، أو سويلا برافرمان، وزيرة الداخلية. ويعتقد بعض النواب أن الوزير السابق مايكل جوف قد يقوم بمحاولة أخيرة في حياته السياسية للقفز إلى المنصب.
أمّا تراس التي كانت أنهت مؤتمرها الصحافي الأخير، بالقول: «أريد أن أكون صادقة معكم، الوضع صعب للغاية، لكنّنا سنتجاوز هذه العاصفة»، فلملمت أوراقها وخرجت مسرعة، ليصرخ فيها أحد الصحافيين بتعبير إنكليزي مهذّب يمكن ترجمة معناه بـ«هل فقدت عقلك يا رئيسة الوزراء؟»، مختصراً بكلماته هذه ما يدور في ذهن الغالبية العظمى من البريطانيين.