في ظلّ استمرار استطلاعات الرأي التي ترجّح خسارة رجب طيب إردوغان الانتخابات الرئاسية في حال اتّفاق المعارضة على مرشّح واحد يلْقى تأييد الحزب الكردي الرئيس، يُواصل إردوغان البحث، بـ«السراج والفتيلة»، عن أيّ صوت إضافي يمكن أن يناله، خصوصاً أن المعركة قد تكون على فارق ضئيل من الأصوات. وفي هذا الإطار، تأتي محاولته التودّد إلى العلويين، عبر التعهّد لهم بتأسيس «رئاسة الثقافة العلوية - البكتاشية وبيوت الجمع»، التي ستكون مهمّتها إدارة المؤسّسات التابعة لهم، وهو ما لم يلقَ تأييد الجمعيات والمنظّمات العلوية المختلفة، بل واستتبع غضبها أيضاً
لا تزال القضايا الخلافية داخل المجتمع التركي، منذ تأسيس الجمهورية قبل مئة عام وحتى اليوم، تلقي بظلالها الثقيلة على مجريات الحياة الاجتماعية والسياسية، كما لو أنها لم تعرف أيّ تقدّم أو تغيير، عاكِسة استقطاباً أيديولوجياً حادّاً داخل المجتمع. إذ إن الصراع بين النزعتَين القومية التركية والكردية، مثلاً، لم يكتفِ ببُعده السياسي، بل عرف صدامات دموية مستمرّة حتى الآن، حيث يريد الأكراد، وعددهم يقرب من الخمسة عشر مليوناً من مجموع السكّان البالغ 85 مليوناً، المساواة لجهة الاعتراف بحقوقهم وهويّتهم الثقافية والتعليمية، فضلاً عن مطالب سياسية مزمنة تبدأ بالمساواة المواطَنية وتمرّ بالحُكم الذاتي وصولاً إلى شعار الدولة المستقلّة، فيما لا يزال زعيمهم عبدالله أوجالان في معتقل جزيرة إيمره في بحر مرمرة منذ شباط 1999. كذلك، لم تَخمد جذوة النزاع بين التيّارَين الإسلامي والعلماني، وآخر تجلّياتها دعوة زعيم «حزب الشعب الجمهوري» العلماني، كمال كيليتشدار أوغلو، إلى تحصين حرية ارتداء الحجاب بسنّ قانون لذلك. ليردّ عليه رئيس الجمهورية، رجب طيب إردوغان، الذي كان المدافع الأوّل عن الحجاب منذ انضمامه إلى صفوف «حزب الرفاه» الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان، بإبداء الاستعداد لتضمين الدستور نفسه بنداً بخصوص هذه المسألة. وممّا زاد الطين بلّة حديث الشاعر العلماني المعروف، أتاؤول بهرام أوغلو، عن أنه في حال وصلت المعارضة إلى السلطة في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فإن عدداً كبيراً من المحجّبات سيخلعْن حجابهنّ، في ما اعتُبر إشارة إلى سوء نيّة يضمره العلمانيون. أيضاً، تقع المسألة العلوية في قلْب التناحر الاجتماعي والسياسي؛ إذ على الرغم من أن اعتماد العلمَنة كان يُفترض أن يلغي التمييز ضدّ العلويين، ويستتبع بالتالي الاعتراف بهويّتهم ومعتقداتهم وهم الذين لا يقلّ عددهم عن 18 مليون نسمة، إلّا أن هذا لم يحصل، بل بقِي العلويون غير معترَف لا بمعتقداتهم ولا بمؤسّساتهم ولا بمراكز عبادتهم، فضلاً عن استمرار التمييز ضدّهم في الوظائف المهمّة والحسّاسة، والسخرية من «بيوت الجمع» (أماكن عبادة) الخاصة بهم، ووصْفها علناً من قِبَل إردوغان نفسه بأنها «بيوت للتسلية واللهو».
دائماً ما تجري إثارة المسألة العلوية عشيّة كلّ انتخابات نيابية أو رئاسية


وأعادت زيارة إردوغان، في الثامن من آب الماضي، إلى «بيت جمع حسين غازي»، السجالات حول المسألة العلوية، التي دائماً ما تجري إثارتها عشيّة كلّ انتخابات نيابية أو رئاسية، أملاً في الفوز بأصوات العلويين. والصوت العلوي - كما الكردي - مرجِّح في عدد كبير من الدوائر الانتخابية، وهو يكتسب أهمّية فائقة في الانتخابات الرئاسية المرتقَبة في حزيران المقبل، والتي تمثّل بالنسبة إلى الرئيس الحالي، المرشّح مجدّداً عن «تحالف الجمهور» بين حزبَي «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، معركة حياة أو موت. إذ لا تزال استطلاعات الرأي ترجّح خسارة إردوغان الانتخابات، في حال اتّفقت المعارضة على مرشّح مشترك واحد، وفي حال دعَم جزء من الأكراد المؤيّدين لـ«حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي (أصواته تُقارب العشرة في المئة عل الأقل) هذا المرشّح. ومن هنا، يبحث زعيم «العدالة والتنمية»، بـ«السراج والفتيلة»، عن أيّ صوت إضافي يمكن أن يناله، لأن المعركة سوف تكون ربّما على عدد قليل من فارق الأصوات بين المرشّح الفائز والمرشّح الخاسر. وكما هو الحال بالنسبة إلى الجمهور الكردي، يتّبع إردوغان أساليب التودّد نفسها حيال الجمهور العلوي؛ فبعد زيارته السالفة الذكر إلى «بيت جمع حسين غازي»، أعلن الرئيس، في كلمة ألقاها في السابع من تشرين الأول الجاري في احتفال مع جمهور من العلويين، أن الحكومة ستقوم بتأسيس «رئاسة الثقافة العلوية - البكتاشية وبيوت الجمع»، التي ستكون تابعة لوزارة الثقافة والسياحة، واعداً بأن قادة العلويين من رجال دين وغيرهم يمكن أن يأخذوا مكانهم موظّفين في هذه الرئاسة، التي ستكون وظيفتها إدارة شؤون كلّ ما يخصّ «بيوت الجمع» والمؤسّسات التعليمية العلوية وتأمين ميزانية لها. ووصف إردوغان خطوته تلك بأنها من «أهمّ الإصلاحات على طريق التحوّل الديموقراطي في تركيا».
لكن ردّة فعل الجمعيات والمنظّمات العلوية المختلفة، جاءت غاضبة ومستنكِرة محاولة إخضاع المجتمع العلوي ومؤسّساته لسلطة الدولة. إذ اعتبر رئيس «جمعية ثقافة بير سلطان عبدال»، إحدى كبريات الجمعيات العلوية، جمعة إرتشي، أن الرزمة التي أعلنها إردوغان «ليست أنباء ديموقراطية بل هي حزمة جديدة لإدخال العلويين تحت سلطة الدولة»، و«جعلهم ملحقاً للدولة السُنّية». وحصر إرتشي مطالب العلويين بأربعة: «أوّلاً، الاعتراف ببيوت الجمع رسمياً بأنها مراكز عبادة للعلويين؛ ثانياً، إلغاء التمييز ضدّ العلويين في الوظائف العامة؛ ثالثاً، رفض إدارة بيوت الجمع من قِبَل منظّمة تابعة لوزارة السياحة والثقافة بوصْف ذلك انقلاباً على نضال العلويين على امتداد عقود لتأسيس بيوت الجمع، وبدلاً من تصفية رئاسة الشؤون الدينية يقوم إردوغان بتأميم بيوت الجمع؛ ورابعاً: رفض إخضاع المؤسّسات العلوية التعليمية لسلطة الدولة وسرقة الناس تحت ستار الدين». وتوعّد إرتشي، إردوغان، بأنه «حتى لو لم يبقَ سوى علوي واحد، فسوف يقاوم العين الشرّيرة للسلطة». ووصف رئيس «الجمعيات العلوية الديموقراطية»، موسى كولو، بدوره، مشروع إردوغان للعلويين بأنه «اعتداء عليهم»، عادّاً «استتباع بيوت الجمع وغيرها لوزارة الثقافة والسياحة إنهاءً لوجودها»، ومنبّهاً إلى أن «محاولة تدجين الدولة للعلويين أخطر من محاولة إنكار هويّتهم». أمّا «الفدرالية العلوية» فرأت في ما طُرح «مشروع إبادة ثقافية للعلويين، والعمل على جعلهم مجرّد تنظيم تابع للدولة وملحق بالإسلام السُنّي»، محذّرة، في بيان، من أنه «إذا نجح هذا المشروع، فلن يبقى أثر للمعتقد العلوي»، فيما اتّهم وزير الثقافة السابق، فكري صاغلر، «حزب العدالة والتنمية»، بأنه «دمّر المبادئ والقيم الأساسية للمجتمع، ويحاول الآن بمشروعه للعلويين أن يطيح نهائياً هيكل الدولة العلماني والديموقراطي من خلال تطبيق القواعد الوحشية للأصولية الدينية». ورأى صاغلر أن «اعتبار إردوغان العلوية ظاهرة ثقافية، موقفٌ قاسٍ للغاية»، معتبراً أن الرئيس يحاول أن «يخلق علويين تابعين لحزب العدالة والتنمية وكسْب بعض الأصوات»، مستدرِكاً بأن «الحزب لن يحصل هذه المرّة أيضاً على أصوات العلويين ولا على الأصوات التي انفصلت عنه بسبب الجوع والفقر».